أيام محمد والذين معه

سعدي يوسف مجلة المدى العدد 14 ـ 1996

"محمد والذين معه" ـ شعر ـ 96 صفحة.

الشاعر: محمد مظلوم

الناشر: سلسلة إصدارات "كراس" ـ بيروت/ الرباط.

الطبعة الأولى ـ 1996

من الإمتاع، والتعب أحياناً، أن يتتبع المرء المسار الفني لهؤلاء الشعراء الشبان، الذين خلفوا محرقة العراق وراءهم، وإن ظلوا يحملون جراحها الغائرة، في ثنايا ضمائرهم ونصوصهم.

يتأتى الإمتاع من متابعة الخلاص الفردي فنياً، أما التعب فمصدره هول الماضي القريب الذي يكاد يقيد، أو يعيق، عملية الخلاص الفني، هذه التي تشترط توازن التحكم والحكم، مستلزماً أول. و"حالة" محمد مظلوم، بالرغم من كل خصوصيتها ليست بعيدة عن هذا السياق.

مجموعتاه السابقتان: "غير منصوص عليه ـ ارتكابات" 1992، و"المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات" 1994، معنيتان بالصدمة الشكلانية، سواء في تركيب الجملة الشعرية، أو طبيعة إقامة العلائق بين الأشياء، أو الدلالة غير المؤصلة في مشروعية النص وإن كانت حاضرة بصورة أو بأخرى في مستهدف الشاعر. وفي هذا المجال، أعتقد أن الأمر ليس خاصاً بشاعر واحد هو محمد مظلوم، إنما هو ظاهر يكاد يكون شائعاً.

المسعى، إذاً، لدى الشاعر، ولديَّ أنا الذي يتابع، هو في مراقبة الفكاك من ربقة المجموع الشعري، الجماعة، النسق الذي إن امتلك حيثيات ميكانيكيته، فإنه يظل نقطة الافتراق، لا الانطلاق، عند كل من يحاول إقامة بيته الخاص، غرفته في الأقل.

"محمد والذين معه" ـ بالمناسبة هو يعني وينعي نفسه ـ لا تخلو من آثار الوطأة التي أشرت إليها في ما تقدم (انظر مطلع "أيها الموت" الذي يستغرق الصفحة السابعة)، ففي هذا المطلع تبرز الشكلانية، والعمومية، والإيماءات غير المؤصلة فنياً، والتفاصيل غير ذات العلاقة.

لكن النص يشرع في الإمساك بالأشياء، وبالموضوع، مباشرة منذ البيت الأول في الصفحة الثامنة: "كانت السنة الأخيرة من حرب متأخرة"، ويمضي متحرراً، متفرساً:

زرعت لي ألغامك في كل نوم

أتذكرك في عيون أصدقائي

هبطت فيها سبع سماوات

وأيديهم التي سقطت منها بقية الأرض.

أتذكرك يا صديقي

في أعناق أصدقائي المصلوبين على

مشانق تستدير

ولا تتلفت معهم.

أتذكرك، وأنت تحرسني

في معارك تختارني مصادفاتها.

أتذكرك في انقفال أبواب الدبابة

وهي تعبر غابات "التاو"

في الأشجار التي تنيم مصائدها عندما

اقترب

أتذكرك

في جثث مكبوبة على الوجوه، تصرخ:

أنا

"ص8 ـ ص9"

ثمة رغبة حقيقية في تنظيم الفوضى، رغبة في ترشيد التدفق الطاغي، وطموح إلى مراقبة السيل بدلاً من الانجراف معه. وليس بمنأى عن هذه الرغبات، ما نراه من تقسيم المجموعة إلى محاور ثلاثة هي بالترتيب: موت جلجامش، جنازة المفقود، نساء من كل الجهات.

في الصفحة الثانية والعشرين من محور "موت جلجامش" تطالعنا قصيدة "ساعته" التي أثبت هنا نصها الكامل:

 أعطاها لغيره، ليلغي مواعيده مع الله.

وكانت يده تؤلمه

كلما اهتز قلبه بين فخذي أنثى

وغيره صار راكضاً إلى مواعيد ساعته

ـ وكانا يلتقيان عند نسيان متلاحق ـ

وما أن انتحر الأخير وسافر الأول،

حتى بقيت ساعة يدوية

تنتظرهما في يد جندي مفقود.

ينام، وتحلم عنه، وتغلق الباب أيضاً!

وفي الصباح تغسل وجهه نيابة عنه

وتفرش أسنانها، ثم تخرج

بينما لا يزال في السرير

معتقداً أنها مازالت نائمة قربه.

أعتقد أن هذه القصيدة (وثمة مثيلات لها في المجموعة) قد تصلح أنموذجاً للتطور الراهن في مسيرة محمد مظلوم الشعرية، وهو تطور أحتفي به.

النص صادم، لكن ليس باستعاراته، وتراكم صوره العامد المتكلف، إنه صادم بسبب هذا الحجم الهائل من الواقع، المكثف في ثلاثة عشر بيتاً.

إنه صادم بسبب ما ينسجه من علائق تبدو سريالية جداً، بينما هي مستلة بعنف من واقع لا يضاهى في غرابته وفجيعته. وإنه صادم بتقشفه. لا عناصر جمالية مضافة، لا تعمد تكرار أو موسقة، لا نعوت زائدة، ولا انهيال مصادر. في هذا النص، ليس ثمة من مفارقة. في النص مجموعة ارتطامات ومفاجآت تشكل المدهش، المدهش المعتمد بالكامل على واقع ناتىء، نكاد نلمسه لمساً، وعلى لغة تخلت، غير آسفة، عن هالتها، أو هالاتها.

أظن التجلي الأكثر امتداداً، وتواتراً، في صيرورة محمد مظلوم، يبرز في المحور الثالث بخاصة، أعني، "نساء من كل الجهات" ابتداء من الصفحة السابعة والستين، حتى نهاية المجموعة:

أهي استراحة المحارب؟

أهو التمرد المجدي على كوابيس الحرب؟

أهو النص الذي سوف يعتمده الشاعر في مرحلة تتشكل واثقة؟:

تعبت من السنة الماضية

بما فيها من نساء سواك

وما فيها من قصائد مأهولة بالحروب.

"ص 69"

للمرة، ربما الأولى، نشهد الهدوء المبارك، هذا التوازن المرهف والاتزان، ونشهد فتى معافى، لا أنقاض جندي:

أحلم في هذه السنة،

أن نحلم معاً.

أن يمتد النبيذ إلى آخر السنة،

أن تكوني أول من أقبِّلها في كل سنة.

أن نخرج من صورة هذه السنة،

ونصور السنوات بنا،

وأن أرى يدي ـ خارج الصورة ـ

تشير إلى حياتي

"ص 70"

ليس بالأمر اليسير أن ينفض محمد مظلوم عن شرايينه، ذلك الهول كله، إذ مازال الهول يطل مكفهراً، حتى في أوقات الحب (انظر قصيدة "سعيد مثل ديك" ص80). لكن النصوص والمقاطع الصافية تمنحنا ثقة بأن هذا الشاعر قد استنقذ ذاته، ليمضي حراً، وعلى شفتيه حتى لو كانتا مزمومتين، ابتسامة غامضة.

سعدي يوسف  

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر