حاتم الصكر ـ مجلة أسفار 11/12 (1989)

محمد مظلوم: وشاية الكلام أو صلة المكتوب بالمحذوف

ما صلة المكتوب بالمحذوف؟

يتساءل محمد مظلوم في نصه الذي يمثل تصاعداً ذروياً أخاذاً يبدأ من جملة صغيرة ليحتدم السطر كله نثراً متصلاً في النهاية.

وليست القصيدة إلا إجابة عن سؤال العلاقة بين ما قيل وما سيقال، بين الكلام والصمت، بين الكتابة والبياض. التكرار والحذف. الثرثرة والإشارة. وبهذه المعاني نتعرف على بؤرة النص أو نواته.

ليس في هذا النص مجانية. إنه حتى عندما يكرر المقولة بتقليب مفرداتها إنما يرينا حكمة الصمت بإزاء حماقة التكرار. وهذا هو توق الشاعر كما جسدته القصيدة، وانعكس على بنائها أيضاً.

إن التراكم الخارجي الذي يحذرها منه نقاد قصيدة النثر لا يحضر هنا بمعناه السلبي، وإنما لخلق الإحساس بالضجر من التكرار:

ـ الصيف أكثر عتمة من الصيف.

ـ الشبح ببابي حشد الموتى

أو

ـ لعله حشد الموتى ببابي.

يلاحظ كمال خير بك وهو يدرس قصيدة النثر في طور الحداثة الثاني أن الجملة الفعلية تستبدل في الأنساق اللغوية الجديدة ليحل محلها نسق من الجمل الاسمية. وهذا ما أراد الشاعر أن يقوله داخل النص حين أعاد ترتيب جملة الشبح؛ بعد أن حذفه من الثانية وكان قد بدأ به الأولى.

نستطيع القول أن الشاعر يحس ضغط الكلام بعنف. فيوجهنا منذ نص العنوان إلى هذه الحقيقة فالعنوان يعرفنا على المحذوف قبل أن يتكرر مستثمراً البياض بنقطتين، تمنحان الفرصة للتفكير بمحذوف ما. إننا نخشى مع الشاعر تكراره، لذا نكون قد دخلنا مباشرة إلى نواة النص منذ مطلعه.

إن المطلع هنا هو النواة؛ بهذه البداية الغريبة بواو لا سابق لها سوى البياض أو المسكوت عنه الذي علينا أن نعيد تشكيله:

ولا أسميه

لولا أنه يتهجاني

في بياض كامل

إن الشاعر مغدور بوشاية الكلام. لا يسمي المحذوف لكنه يتهجاه في البياض. ونستطيع التعرف على قائمة طويلة من هذه المحذوفات التي يركز بها الشاعر بنية الصمت كالرسائل المعدة للتأجيل واللافتات غير المقروءة والإغفاءة البيضاء؛ الأحلام النائمة والموسيقى العارية والسكوت والقطيعة. وتلك الأيام التي لا تتكرر.

(الكلام وشاية بالأحلام لدى السيد السكوت) هكذا يختصر محمد مظلوم معضلة التراكم الذي يعاني منه العالم. وكلما فتح الشاعر عينيه لم يجد إلا أربعاء موصولة بأربعاء وأحداً يلي الأحد مباشرة.

إن الإحساس بالزمن مرادف للإحساس بالصمت. ليس من فسحة: نساء تتكرر كالأيام. وأيام موصولة. الكلمات تتسابق للحضور ولكن خارج البياض.

وهكذا يمتد التوازي بين بنية الصمت والتكرار كأقصى حالات الكلام ضجراً؛ فيغدو النوم كتابة ندخل مع الشاعر إلى متحف أحلام نائمة يقودنا إليه أعمى! ولعل هذه العبارة تختصر البؤرة كلها قبل أن تغرق أشعتها فيما حولها من جوانب النص.

(فالأعمى) الذي انتسب إلى البياض وانقطع عن تكرار المرئيات يقودنا في متحف هجعت فيه الأشياء وكفت عن الكلام والحياة وهجرت الخارج والزمن: وارتضت أن تكون بيتاً للأحلام التي نراها نائمة تنتمي إلى الغياب أو البياض الذي يكمل بنية الصمت. فالنوم كما يقول الشاعر كتابة الصمت على جسد يثرثر.

هل نستطيع أن نسمي هذا النص (سيرة المحذوف بالتكرار) استناداً إلى إحدى جمله؟

هي دعوة إذن لقراءة النص الموازي الذي يبثه الشاعر بين الأسطر ويحيلنا إليه عبر تناص بليغ لا إعلان عنه. في قوله (وجدتها) مثلاً حيث يغرينا بشظية مرجعية لا نحصل منها في النهاية إلا على مفارقة بين الاكتشاف العلمي (أرخميدس) والصدفة العزلاء (الشاعر).

وهي دعوة لقراءة البياض غير المجاني، المعبر عنه بنقاط، تدعونا لقراءة النص الموازي المحذوف الذي حجبته خشية التكرار المتخذة نواة للنص الظاهر. هذا نص يواجه قسوة العالم بإيقاع الصمت فيغدو شكله مضمونه ومضمونه شكله. وبهذا يمكنها أن نقرأ تفاصيله الصغيرة التي تبدو لنا أحياناً بعيدة عن المركز أو النواة/ لكنها مرتبطة به عبر ثنائية التكرار والحذف التي كانت أشد المهيمنات وضوحاً في هذا النص الحديث.

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر