شعرية محمد مظلوم

بين التأريخ واليومي المعاش

فتحي عبد الله مجلة القاهرة العددان 167 ـ 168 اكتوبر 1996

 

إن طموح أية جماعة بشرية يتحقق بوسائل عدة، قد تكون الحرب أكثرها حسماً لأن أفعالها شاملة وقاطعة وذات تأثير مباشر على الذاكرة الجمعية، إذ تدمر مفهوم الزمن المنطقي التراتبي ويحل محله الزمن الحلزوني غير المنضبط، مما يحدث اختيارات عشوائية لعناصر تلك الذاكرة باعتبارها بنية في حالة تصادم وحركة لتأخذ الشكل الذي يتناسب مع ما حدث للمجتمع، مما يهدد أنماط السلوك الإنساني السابق عليها ويدفع بها إلى أنماط مغايرة في الغالب تكون أكثر إنسانية وأقرب إلى روح التحديث.

وهذا يؤثر بالضرورة على طرائق الإبداع في كافة الأشكال.

إن التماسك الاجتماعي الزائف والترابط القائم على مشاعر وعواطف قبلية وعشائرية ليس قادراً على مواجهة متطلبات اللحظة الراهنة في واقعنا العربي إن الشتات والتشظي وربما التجاور هو أنسب هذه الأشكال جميعاً لتربية عواطف جديدة، ليس بالضرورة أن تكون القسوة مركزاً لها. إنها لحظة مركبة ومتعددة السطوح وإن كانت ذات جذر واحد.

ان ما هو كلاسيكي في هذا السياق يأتي ليؤدي دوراً في تكريس هذا الجديد. وان ما هو مطمور ومحذوف تحت سطوة الحداثة باعتباره شعبياً أو إثنياً قد يؤدي هو الآخر دوراً منافياً لدوره القديم مع الاحتفاظ لسطوة ما هو تجاري بأهميته العظمى سواء فيما هو يومي ومعيوش أو فيما هو إيداعي.

إن قصيدة النثر بكافة طرائقها تعبر عن هذا الإشكال بوضوح تام، خاصة في نماذجها الناصعة التي تبتعد عن مخلفات الحداثة الغربية بمعضلاتها الثقافية والسياسية، وتسعى بما تمتلك من حرية وإرث إنساني عظيم ـ ربما في حاجة إلى المراجعة والاكتشاف لا إلى التأويل ومحاولة تكييفه مع ما هو سياسي عارض يخدم أغراض المؤسسات السياسية المحلية والعالمية معاً.

إن هذا الشكل المقترح "قصيدة النثر" يتهدده أخطار كثيرة، أهمها أن النص لم يتجاوز فرح الاكتشاف الأول وأخذ الشعراء يكررون هذا الاكتشاف حتى أصبح مستهلكاً مبتذلاً ومتاحاً لأنصاف المواهب وغير العارفين بمتطلبات هذا الشكل. وأكثر من هذا رغبة النقاد عديمي الموهبة والتذوق في التواجد فلم يجدوا إلا هذه النماذج الركيكة لتحقيق وجودهم المعرفي فكرسوا لها باعتبارها ممثلة لقصيدة النثر.

ومن النماذج الجادة التي تحتاج إلى كثير من المناقشة والاجتهاد قصيدة النثر في العراق، خاصة في حلقتها الأخيرة التي يمثلها: نصيف الناصري، باسم المرعبي، محمد تركي النصار، خالد جابر يوسف، محمد جاسم مظلوم وآخرون، وهي وإن تميزت وتنوعت واختلفت بحسب الانحيازات والمفاهيم الخاصة ودرجة الموهبة، فإنها مازالت مهمشة ومحذوفة وقد تكون هناك أسباب شعرية لذلك وسياسية ساعدت على تكريس هذا الوضع.

وديوان (محمد والذين معه) للشاعر محمد مظلوم الصادر عن سلسلة إصدارات "كراس" عام 1996م نموذجاً لهذه الحالة.

وقد اهتم مظلوم في تجربته السابقة عبر ديوانه "غير منصوص عليه ـ ارتكابات" و"المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات" بشعرية الاستعادة، حيث يوجد لديه عالمان مختلفان، أحدهما تاريخي كان متمثلاً في ميراث الشيعة وما تحمله من عذابات خلاقة وحميمية الاحتفاء بالأشياء الخاصة التي تكوّن أسطورته المعاشة والحية عبر عملية تطهير قاسية فيتجلى نموذج المخلص/ المهدى سواء في الرؤية الشعرية الممتزجة بما هو ديني وبما هو شعبي في طقسية عالية لتكشف عن عذابات الضحية/ المجتمع بكامله، وكأننا أمام شعرية الرسالة ذات الشفرات المتعددة التي يكتنفها غموض ذو سحر يذكرنا بلغات المهووسين والمشعوذين أو الهذائين الجدد بما فيها من علاقات سريالية لأنها تحتكم في توالدها إلى منطق داخلي مشبع بأشواق المقهورين تاريخياً واجتماعياً ورغبتهم في الخلاص.

وثانيهما: هو عالم المعيش الحياتي وما أصابه من كوابيس اضطراب المجتمع وفوضاه، حيث السلطة حاضرة وقريبة من الشارع بشكل بدائي ومتخلف ومتآكلة في الوقت نفسه إلى أن تحقق الفعل الفاضح وهو الحرب، فكان الواقع والتاريخ شيئاً واحداً.

ومن هذه الرؤية خرج ديوان "معه والذين معه" حيث الموت تيمة رئيسية، ليس الموت الفيزيقي فقط، ولكنه الموت الأسطوري الذي يعتبر أقصى درجات الحياة، حتى أصبح الموت كائناً حياً.

ومن هنا تغير منطقه الشعري من الاستعارة حيث اللغة المجازية تلعب دوراً كبيراً في إحداث الحالة: أو تكون اللغة هي الحالة بكاملها إلى شعرية اليومي المعاش حيث أفعال الواقع والخيال لا يمكن فصلهما وإنما اكتشافهما من خلال اللغة الفاعلة وقد تحقق هذا في أغلب قصائد الديوان ومنها:

"أيها الموت، الموت بين نهرين ـ هجّاء الموتى ـ:

 

كان جوعك الأفريقي يترصد ما

تلقيه الطائرات

وما تطبخه النيران من ذكرياتنا

فكم أبقيت من نسيان لأعرفك

كم سميت لي من أحفاد

لأشتبه بسلالتك الصماء

صديقي أيها الموت" ص11.

"الهارب من حروب قديمة

دلني على جثة لا تعود لأحد

ذلك أن جميع من جاؤوا

تعرفوا على حالا" ص17

كاميراتهم على حالها، ولا شيء يحدث

فمن يستدل على صور الميتين؟

إذ يتسللون بأغلالهم

بلمعان خريفهم

وأشجارهم العابرة" ص40

وأمام سريالية الحرب وعبثها وغياب أهدافها النبيلة في نفوس المحاربين أو مبررها الوجودي لتلك الجماعة، فلم يجدوا إلا الهروب سواء إلى الداخل أو الخارج لإنقاذ ما تبقى من الحياة وقد تمثل هذا الموت الجزئي من نمطين من أنماط المقاومة، أولاً: الجنون وهو لحظة المواجهة العظمى والتدمير الكامل لكل آليات هذا المجتمع وما يفرضه من منظومات قيمية سواء في السلوك اليومي أو أنساقه الكلية التي تمثل هيكل الدولة وقد تحقق هذا في قصيدة "كاميرا المجنون".

"على أثر خائف

أتعقب ضاحية من مجانين فروا إلى داخلي

وأترقب عيني كي أتعرف فيهم:

على الهاربين من الحرب،

والمتعبين من الحب، والباحثين عن الله

كي لا تصفّ الإشاعات أولادهم وتعلمهم.

أن يعودوا إلى التسميات" ص31.

ثانياً: النسيان، وهو فعل انسحاب ينتج من تصادم اللحظات التاريخية بما لها من دلالة إيجابية مع ما هو حاضر بما له من دلالة سالبة، وهذا الانفصال الحاد بين الشاعر وذاكرته يخلصه ولو بدرجات متفاوتة من الإحساس بالمسؤولية وهنا يأخذ اللعب بمفهومه الفلسفي دوراً كبيراً في القصائد ليظهر عبثية ما يحدث أيضاً وضعف الشاعر وانحسار دوره في الرثاء والإخبار عن الموتى وكأنه الذاكرة الجديدة، مثل قصيدة "لاعب الكرة".

"وكلما تقدموا،

ذكّرهم بالماضي فالتفتوا وغاب.

كأن كل جيله سيهرب في النسيان.

وتتسلل أيامهم ولا تمتد،

كأن لعبته ستستمر ـ بلا كرة ـ منذ

أضعناها تحت عجلات تهرب

محملة بأجدادنا.

إلى أضرحة يتفقدون فيها

مستقبلهم" ص48.

إن الأفعال الإنسانية جميعها لدى الشاعر تحدث في النوم كأنه أصبح بديلاً لليقظة، لما للنوم من رحابة التخييل وأنس المجالسة البعيدة عن أعين الأعداء ومن هنا تم استبدال الليل بالنهار والليل والظل بالشيء الحقيقي والسواد بالبياض ولاشك أن هذا يعود ـ بعيداً عن شاعرية النوم ـ إلى جذر أسطوري في ذاكرة الشاعر/ فالمخلّص دائماً، غائب وحاضر في الوقت نفسه، والليل زمن وتوقيت سريان المشيعين له. إنها حياة البرزخ ما بين الموت والحياة.

أما النهار فهو رمز السلطة وأفعالها كلها باطلة ومن هنا كان العمى هو الإبصار الحقيقي والمشاهدة الحقة هي مشاهدة هؤلاء العميان وتمثل قصيدة "يتبعني النهار فأتلفت" هذا المنحى:

"متى تنام الأرض لاستبدال ظلها،

لأفر من غاباتها

إلى الميتين تحت شمس الشبهات.

كيف أموّه عدميتي؟

والرنين بعينيه الخائفتين يرتطم

بنعاس ظلي، ص61.

"المتطوعون لإشاعتي في النسيان ليليون والأحلام ترتجف في نومها،

كأشجار تفر من ذكرياتها وعليها

اثمار كبيرة

وعندما أبدلوا ليلهم بحجر

أيقظوها" ص65.

"في الظلام

أجنحة الجنوب الهاربة

مرهونة ببكاء وفير

كأنما فوضى عناوين

تصمم سورة لخاتمي

على خرائط الصمت" ص64.

لقد استخدم مظلوم في تجربة هذا الديوان الأداء الملحمي في بناء نصوصه وقد ساعده على ذلك أن بنية نصه متعددة العناصر وليست في لحظة ساكنة وإنما في لحظة متصارعة، وكذلك الحضور الحي للحرب وهي إحدى ركائز العمل الملحمي مما تستدعيه من مشاعر جماعية وطقوس احتفالية ذات سحر خاص إلا أن هذا البناء الملحمي رغم إشباعه الدلالي والفرصة الكبيرة التي أعطاها للشاعر في استخدام وسال تقنية كثيرة ومتعددة كانت وراء تطور أداء الشاعر عن تجربته السابقة إلا أنه حرم النصوص من الشفافية والعمق التي جاءت في بعض المقاطع.

وقد استخدم الشاعر تقنيات أخرى منها التعريف بتعدد أجزاء المسمى كالقصائد التالية:

(إجازته ـ ساعته ـ نظارته ـ جواز سفره ـ وصيته) وهي تختلف كثيراً عما سمي بشعر التسمية القائم على العمل الميتافيزيقي للغة، ففي قصيدة "جواز سفره":

"أوصوه

أن يوثق ظله إلى جبل ينهار

ووعدوه بما خلف البحار

من سواحل منذورة لأقدامه

وبأنه سيجهش تحت أشجارها

حتى يستعيد صرخته" ص24.

واستخدم أيضاً البناء الدائري، كأن يعود في كل مقطع من القصيدة إلى نقطة الصفر في الدلالة وكأن الزمن لا يتطور وكأن الأحداث واحدة، وكأن التكرار هو الوسيلة الوحيدة لمقاومة الموت ويظهر هذا البناء بوضوح في قصيدة "هجّاء الموتى" ص37 ـ 40.

أما البناء المتقطع فقد ظهر في قصيدة "آباء النسيان"، وآخر البناءات وجوداً في الديوان الدفقة الواحدة ذات النفس القصير، وهي لا تناسب الشاعر كثيراً وإن نجح بمهارة كبيرة في استخدام هذا الشكل في قصائد: هؤلاء أنا ـ لاعب الكرة ـ مدرس العربية، ـ ففي "لاعب الكرة":

"كأن دائماً قبل جريانه،

يصف أياماً لا يصلها

وفيه أصدقاء يغادرون فجره

حيث ـ في نهاره ـ احتضنوا خياناتهم" ص48.

إن شعرية مظلوم في هذا الديوان قد انكشفت بعد أن تخلص كثيراً من الحمولة اللغوية الزائدة وكذلك بعد أن تخلص من المجاز القديم، ليصل إلى ذروته الشعرية.

إن مظلوم شاعر من طراز خاص، متعدد العوالم ومتعدد وسائل التقنية، وهذا ما يمنحه خصوصيته ضمن السلاسة العربية النادرة.  

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر