غير منصوص عليه ـ ارتكابات ـ

قول مبني للمجهول

 صلاح حسن مجلة المدى العدد السادس 1994

 

كيف يمكن للنص الشعري أن ينجو بنفسه من حرب التحليل؟ سؤال طالما يطرح دون أن تكون هناك إجابات شافية عنه. وفي تقديري أن الإجابة عنه تبدأ بسؤال هو: هل يختبئ النص الشعري خلف مرجعياته؟

إن الإجابة عن هذا السؤال ستقدم لنا إجابة تامة عن السؤال الأول. يقوم النقد بتفكيك الخطاب الشعري وتحليل مستوياته وتصنيفها.. فماذا يحصل عند ذلك؟ انه الكشف عن هذه المرجعيات التي يتوارى خلفها النص بوصفه نتاجاً معرفياً لم ينبثق من الفراغ. ان النصوص الشعرية الحديثة تاريخ سري وشخصي للشاعر.. والمرجعية هنا هي حياة الشاعر المدونة في كتابه. وعلى ذلك سيكون البحث منصباً هنا عن حياة الشاعر في نصه لا العكس.. لأن حياته مبثوثة في النصوص. وما يهمنا من حياة الشاعر حصراً أسراره التي تتقنع خلف العبارات الذي يريد أن يوحي به دون أن يقوله كاملاً.. انني أجد أن مهمتي هي إكمال النقص العباري في النص لأن الكل لا يقال أبداً بحيث يكون التأويل أحياناً أسلوباً من أساليب مواجهة هذا النقص وتعويضه عن طريق توفير المعنى.

وبما أن لكل خطاب شعري القدرة على إخفاء الذي يريد أن يقوله من خلال ما لا يريد أن يقوله بتوفير المدلول بالنسبة للدال الواحد.. فإن التكرار أو كتابة تاريخ للأشياء المقولة ـ الذكريات ـ أو الأقوال المبنية للمجهول ـ القناع/ التأويل ـ ستكون هي الشفرات التي من خلالها سنصل إلى متعة النص (أسراره).

هل يعني ذلك أن النصوص الخالية من الأسرار هي بلا مرجعيات؟ كلا أبداً. ان النصوص الخالية من الأسرار والتي تحقق ما تحققه تلك النصوص (السرية) لهي في غاية الجدة والأصالة.. لماذا؟ لأن هذه النصوص (منحرفة) وتكمن في أنها كائنة خارج كل غاية يمكن للمرء أن يتخيلها.

في ضوء هذه الملاحظات سنقرأ مجموعة الشاعر العراقي محمد مظلوم ـ غير منصوص عليه ـ ارتكابات ـ الصادرة عن دار الحضارة/ بيروت 1992.

العنوان هنا ـ لافتة ـ وسر في آن واحد. لافتة، لشخص غير منصوص عليه (سنجد ذلك في الخطاب القرآني والخطاب الصوفي). وسر، في ارتكابات نصف معلنة ـ نصف مقولة ـ سنجدها في النص. إذن لدينا هنا مرجعيات فلنعول عليها ونترك الانحرافات.

1 ـ لافتة، لأنه يبدأ القصيدة الأولى "بانتظار الغائب" وقصائد أخرى غيرها بتقاديم من القرآن والنفري والإمام علي.

2 ـ سر، لأنه يكرر مفردات محددة في النصوص قاطبة دون أن يقول ما يريد أن يقوله كاملاً.

تقول اللافتة:

(قال هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً).

(قرآن كريم).

(أفضل العبادة الصمت وانتظار الفرج) (الإمام علي).

بينما يتمظهر السر في (التأجيل، الغياب المحكي، الذكريات، الظلام، خريف، أعمى، أعزل، الندم، المشهد، خطئي، عدوي، أخطاء، الحروب، هزائمي، المعسكرات، المراثي، رمادي، اللافتات، الرمال).

لنبدأ الآن بتفكيك اللافتة ليتسنى لنا الوقت الكافي للبحث عن السر.

في قصيدة (العودة إلى الحاضر) التي تسبق بثلاثة تقاديم للإمام علي والنفري تفصح اللافتة عن تمظهراتها في النص.. تقول التقديمات:

آ ـ (واستعملت المودة باللسان وتشاجر الناس بالقلوب) (الإمام علي).

ب ـ (نم لتراني فانك تراني، واستيقظ لتراك، فانك لن تراني). (النفري).

ج ـ (الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه فكيف يخبر عني) (النفري).

وبالعودة إلى القصيدة فإننا سنجد ظلال هذه التقديمات مضمنة بين السطور..

(يبدو أن الألف الذي تبتدىء به امرأة يحن دائماً إلى الالتصاق بنفسه، منعاً للتكرار والغاء للتباعد، لذا فهو يتحد مع الألف الثاني ليصبح "هو الذي يشبهه" تاركاً للميم التي هي "قبل ليس" أن تبدأ بالخلق).

وبالاستناد إلى الخطاب الصوفي فإن الألف الأولى في كلمة امرأة والتي تحن دائماً إلى الألف الذي يحن إلى الالتصاق بنفسه، ليصبح هو الذي يشبهه تتحصل عندنا كلمة (الله) الذي ليس قبله شيء/ أو هو الذي يشبهه مقارنة بمنزلة الحرف (أ) عند الصوفيين. وفي قصيدة أخرى (انكم تحرقون نهاري بأعيادكم) يتجلى الحس العرفاني بالتأويل باعتبار التأويل ركيزة أساسية في البنية الصوفية.. تقول القصيدة:

"ويقرأ خمس مقابر غامضة، خلف كاف هي عصر بلا حكماء0

كـ تائب مسبية قرب صف معاد،

هـ لاك الحروف التي فسرتني

يا دم الأرض مَنْ بعد موتي؟

عـ طشت أمام المرايا

صـ برت فنام على بصري القاتلون".

لننظر إلى الأبيات الخمسة الأخيرة من هذا المقطع لماذا لجأ الشاعر إلى فصل الحرف الأول من الكلمات الأولى من الأبيات؟! سنعرف السبب حين نوصل هذه الحروف عمودياً وسنحصل على كلمة (كهيعص) وهي عنوان لآية قرآنية ساطعة.

أولها الصوفيون بما يلائم درجاتهم ومنازلهم. والشاعر هنا يستفيد من كل هذه المعطيات ليحقق فكرة (التمركز على الذات) بجعلها بؤرة أو (عدسة/ أمة) تتمركز حولها الأشياء وتنطلق منها. وبالمحصلة النهائية تتحول ذات الله وذات الشاعر إلى ذات مركزية واحدة وبحذف مفردة (ذات) من المعادلة يصبح الله هو الشاعر ـ توفير المدلول لدال واحد ـ هو غير منصوص عليه.. (اللافتة).

الآن نأتي إلى (السر) وكنا ادعينا أننا سنكشفه من خلال تكرار مفردات محددة وردت في النصوص قاطبة مع أن الشاعر لم يقل ما يريد قوله كاملاً.

المفردات هي: (التأجيل، الغياب، الذكريات، الظلام، المحكي، الندم، خريف، عدوي، الحروب، المعسكرات، أعمى، خطئي، أخطاء، المراثي، اللافتات، أعزل، المشهد، هزائمي، رمادي، الرمال).

لدينا هنا مستويان من العلامات.. ويمكن تصنيفهما حسب القيمة الدلالية:

المستوى الأول

المستوى الثاني

1 ـ الغياب

1 ـ المحكي

2 ـ التأجيل

2 ـ الذكريات

3 ـ الظلام

3 ـ خريف

4 ـ أعمى

4 ـ أعزل

5 ـ الندم

5 ـ المشهد

6 ـ خطئي

6 ـ عدوي

7 ـ أخطاء

7 ـ الحروب

8 ـ هزائمي

8 ـ المعسكرات

9 ـ المراثي

9 ـ رمادي

10 ـ اللافتات

10 ـ الرمال

وفي كلا المستويين نستطيع أن نختزل العلامات بمقابلتها مع بعضها من أجل الوصول إلى الرمز بأقصر الطرق.. خصوصاً وأن القيمة الدلالية هنا تكاد تكون متساوية تماماً. فعلى صعيد المستوى الأول سيكون الاختزال كالآتي:

ـ الغياب/ أعمى/ خطئي/ هزائمي/ اللافتات. وعلى صعيد المستوى الثاني سيكون الاختزال هكذا: المحكي/ أعزل/ عدوي/ المعسكرات/ الرمال.

في المستوى الأول:

سيتضح الرمز بتحليل الإشارات: الغياب ضد الحضور، العمى ضد الرؤية، الخطأ ضد الصواب، الهزائم ضد الانتصارات، اللافتات (الموت)*

وفي المستوى الثاني كذلك: المحكي ضد المدون، الأعزل ضد المسلح، العدو ضد الصديق، المعسكرات ضد الحرية، الرمال (القبر)، (الموت) (توفر المدلول بالنسبة للدال الواحد).

ونتيجة لصعوبة إيراد المقاطع الكثيرة التي تدل على هذه الاستنتاجات سنحاول جاهدين اختيار أقل عدد منها.

1 ـ في النهار:

يبطئ المحكي في النزول من اللافتات (شاهد العهد المغلوب ص8).

2 ـ لست عدوي أيها اللص

إنني أبحث عن ظلامك كي أحييك (مطاحن عاطلة ص20)

3 ـ سوى نافذة الذكرى

ثمة ما يتكرر (المحذوف قبل أن يتكرر ص 5).

4 ـ لتندم الغيمة، وليندم الربيع

لم أعش ذكرياتي (إبادة الكلام المفتوح ص43).

5 ـ مفقودة أعمارنا في الذهاب إلى معسكرات العزلة.

ومزارع الانتظار (الربيع حاضر في متحف النسيان ص48).

6 ـ شوان سماء مؤجلة

تستقر بها العربات التي أخطأت في تلقي توابيت أعيادنا (انكم تحرقون نهاري بأعيادكم ص102).

لقد توصلنا الآن إلى جزء أساسي من (السر) بوصولنا إلى الرمز وسنحاول في الملاحظات التالية الإمساك به.

ملاحظات:

1 ـ تنبثق النصوص مجتمعة من مناخ واحد تحتل (الحرب) المحور المركزي فيها. والشاعر ينوع ويوازن على هذه الحالة ضمن رؤية سوسيو جمالية.

2 ـ يلجأ الشاعر إلى تكرار بعض الصور والمفردات والتراكيب اللغوية مع التنويع على المفردة في الصياغة وشحنها بقوة تعبيرية تتجاوز النسخ إلى التأويل والتكرار إلى المحايثة.

3 ـ كثيراً ما يحاول الشاعر إظهار براعته اللغوية مضحياً بالإشراق الشعري باستخدامه جملاً طويلة، مقرونة بأدوات ربط كثيرة، في محاولة منه لتقديم بنية حكائية خالية من الإيقاع. (أحد عشر برزخاً قبلي).

4 ـ يلجأ الشاعر إلى (شعرنة) بعض المقولات الفلسفية أو الصوفية لإعطاء جملته الشعرية قوة المثال (منتظراً قرب غيابك).

5 ـ في قصيدتي ـ ربيع كاسد وإبادة الكلام المفتوح تأثر واضح سواء في الشكل البصري أو بتقنية بناء الجملة عند أدونيس في (احتفاء بالأشياء الغامضة الواضحة) مع اختلاف التجربة.

6 ـ مع أن الشاعر محمد مظلوم شاعر معان إلا أنه لا يقف عند شكل كتابي واحد.

* خلال الحرب كانت العوائل العراقية تعلق لافتات سوداً على الجدران تنعي بها أبناءها. وكان ذلك مشهداً يومياً ومألوفاً لدى العراقيين.

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر