محمد مظلوم

الحياة والموت خارج السرب

لقمان محمود  جريدة الفينيق العدد 29 ـ 1997

 

في مجموعته الأخيرة "محمد والذين معه" استطاع الشاعر العراقي محمد مظلوم الخروج من دائرة الحزن العراقي التقليدي، غير القادر على الإلمام بالواقع، ليدخل بجماليات الحزن، هذه الجمالية التي بمثابة مائدة للجائع إلى الجمال، مما يحيلنا إلى قصيدة ذات طابع خاص، قلما نقرأ مثيلاً لها ضمن هذا الركام من التشابه والتماثل، فقد استطاع أن ينقل الشعر من هاوية الخطابية والشعاراتية والسطحية والتغميضية إلى عالم واسع ورحب على صعيد التفاصيل واللغة والإحساس، مما يجعله ينجح في تأجيج قصيدته بالخيال الذي لا ينفصل عن التقنية، وامتزاجه بالشفافية التي هي أولاً وأخيراً سمة قصيدته، فقصيدته لا تهتم برشاقة اللغة، إنما تعتمد أصلاً على طاقتها الحسية. لقد استطاع محمد مظلوم أن يشق طريقه إلى الصفوف الأولى بين شعراء الثمانينات، ولفت الأنظار إليه، إنه من التجارب التي تتحدى نفسها باستمرار من أجل الصياغة الأكثر قدرة على تجاوز ذاتها ومن أجل تحقيق ما هو خاص ومتميز وخارج السرب، وهي في نهاياتها تجربة غنية ذات اتجاهات نفسية مختلفة، إنها تأخذ من الحياة جرأتها، ومن الواقع عمقه، ومن اللغة شموليتها إنه:

سيسهر

حتى يمطر النهار في عباءة أمه ص24.

هذه الأم هي نفسها منبع السرور الأول، وحتى عندما يجف هذا المنبع، تتحول هي نفسها إلى منبع آخر للأسرار، وهكذا تتحول الأم من منبع إلى آخر، دون أن ترى أي نهر، وهنا يتحقق توازن خاص خارج الماء. ومحمد مظلوم يلتقط هذا التوازن بحساسية عالية بين ما يبدعه وما يحقق له توازنه:

لكن أمي تبحث في السوق

عن خاتم لي

لكن عيدي، بلا ايد. ص64.

إنه يصب دفقة.. دفقة إلى بحر مجهول، وما ينقذه من هذا المجهول، هو الشعور الحار، واللغة الحارة، والنظرة الطفولية إلى العالم كي لا يفقد الدهشة:

نتكرر بعد كل نوم

تتأخر أنت،

صديقي أيها الموت. ص14

رغم أنه:

هو الذي لم يمت

فعاش ميتاً. ص15

هناك حيلة جميلة، تشبه الطفولة، تتكرر بتكرار المفاجئ، أو ما يشبه مقلباً طفولياً على أبوّة اللغة:

أنا مفخخ كالهدوء

وهادئ كالفخ. ص16

فلغة هذه الحياة أصبحت وحشية، والشاعر كلما أمسكها صهرها من جديد، لتعود لغة أخرى، وعندما يخفق، يلجأ إلى وسيلة أخرى ليتجاوز الكلام بالموسيقى، وعندما يخفق أيضاً، يلجأ إلى موسيقاه الخاصة، الصادرة عن لحمين متعاونين في اللذة:

أزرعك رجفة.. رجفة

حتى تبتعد الموسيقى عن لحمها. ص77

أو يلجأ إلى مصادفة مخططة، لينقذ اللغة من موقف غامض وفق ترتيب عفوي، ليحافظ على مصداقية المصادفة، بأناقة مفتوحة على جمال مفتوح على نفسه:

كي أصادف ما وعدت به

من أن أمطارك

سقطت على رؤوس الجميع

ولم تبلل سوى شعري الساهر. ص80

إنه لا يبدو منفعلاً وعاطفياً، بل يعقلن هذا الانفعال وهذه العاطفة، رابطاً إياها إلى ظروفها الموضوعية، وهنا سر نجاح محمد مظلوم في ارتكاباته ـ غير المنصوص عليه ـ عام 1992، والمتأخر ـ العابر بين مرايا الشبهات ـ عام 1994، وفي محمد والذين معه عام 1996، ليبقى هذا الديوان الأخير ـ سؤالاً: من هم الذين مع نبي القرن العشرين؟

 

صداقة الموت..

كمزحة قلت سأكتب عن الموت في الشعر العراقي الحديث، بينما الشعراء ـ منذ البداية ـ كانوا ينصبون لي القصائد، فوقعت في فخ أحد الدواوين، ولأنني أتعلم بسهولة، استهويت هذا الفخ الجميل، ولأنني منذ البداية صديق الموت، وجدت أن القصة مواتية، لأقول شيئاً عن صديقي ـ أقصد الموت، ولكنني وجدت أن لكل شاعر صديقه، وللإشارة فقط، صديق كل شاعر يختلف عن الآخر، ربما هذا سبب جميل ومقنع. وعلى سبيل الاختلاف والاسم، لا أربط بين محمد مظلوم وخالد المعالي وآدم حاتم وعبد الحميد الصائح، سوى أنهم شعراء.

قلت سأكتب عن الموت في الشعر العراقي الحديث، والموت بالنسبة إلى هؤلاء الشعراء هو الشوق إلى معرفة المجهول، فالشاعر بحاجة إلى علاقة متوازنة مع الموت ليكتشف المأساوي في وجوده، ففي تجربة كل شاعر إحساس حاد بهذه المواجهة لصالح القصيدة، والشعر لهذا السبب، شوق مذبوح إلى الدم عبر طريق من الألم، وواضح أن شعرهم حياة حقيقية في حضرة الموت. فالموت ليس مخيفاً عند الشعراء العراقيين، لأنهم بالحقيقة ولدوا من وراء الموت. ووراء الموت يوجد دائماً عالم جديد يمارس فيه الشاعر تجربته بكامل إبداعه. وربما لأن الموت كما يقولون مهمة روحية لدى أولئك الذين يتألمون من الضياع. فبدون الموت لا يستطيع الشاعر العراقي مواصلة القصيدة، لوجود ارتعاش خاص بين الشاعر والقصيدة، نشأت من خلال موت حلمي، فالقصيدة التي تنام يحلم الشاعر بدلاً عنها، والشاعر الذي ينام تحلم القصيدة بدلاً عنه. العلاقة بين الشاعر والقصيدة، كالعلاقة بين النوم والحلم. أما الموت فهو السيرة الباطلة للغة. فالشاعر العراقي لم يأت بلغة خارج المألوف، بل بلغة من رحم لغة أخرى، لغة جديدة، تتجدد ولاداتها إلى لا نهاية، ولكل لغة تنبع من نبع خاص ـ ألم خاص، إبداع خاص ـ لا من نهر خاص، فالنهر مصبه البحر، والنبع مصبه المجهول، هذا ما أردت أن أ قوله عن الموت، هذا المجهول الذي يحاذي قصائد (شعرائهم)، شعراؤهم نخلات حقيقية أينما ذهبت في زحمة الأشجار المتشابهة. أينما ذهبت في زحمة الأشجار .. كل شاعر عراقي نخلة، وكل قصيدة خيمة، وليس على الشاعر سوى أن يؤسس موته، كي يتواصل مع الأموات كي يقبلوه، ربما شجرة صغيرة لا تصل إلى قامة أقصر نخلة، تصر بوسائلها الخاصة وغير الخاصة على اقتلاع هذه النخلة، وهذا ما يحصل أحياناً، ولكن النخلة الحقيقية تبتكر أسلوبها الخاص للتواصل مع جميع الكائنات النباتية، لا لكي تبقى ثابتة، بل لكي تعطي شيئاً مما ألفته إلى هذه النباتات. والألفة هو الأساس في بناء العلاقة. لكن الموت كي نتواصل معه إذا كان الأساس في بناء القصيدة وخاصة في مجمل قصائد العراقيين، نجد هذا التواصل في الموت الوهمي، الموت الذي يشيع القبح، ليبقي على الجمال. ومن خلال قراءتي للمجموعات الشعرية وجدت أن هذا الموت ليس سائحاً في القصيدة، بل القصيدة سائحة جميلة في موت الشاعر على الورقة، كي يرينا الحياة الحقيقية، لأن الموت حياة جديدة، والقصيدة التي تموت، تكون قد ولدت ميتة، لكن القصيدة التي تعيش موت الشاعر تبقى حية. فالفرق بين الموت في القصيدة وموت القصيدة، كالفرق بين الحب وممارسة الحب. الموت لا يريد الحياة، لأنه بالأساس حياة في قالب الحياة الحقيقية. والجدير بالذكر أن الشاعر العراقي يعرف من قصيدته، وهذه علامة بارزة، كما تعرف النخلة من بقية الأشجار.

قلت سأكتب عن الموت في الشعر العراقي الحديث، لكن الشاعر العراقي ما زال يترجم القلق إلى لغة ويترجم الموت إلى لغة، ويترجم اللغة إلى لغة جديدة، كل ذلك يقف في تفسير يحدد ماهية الموت في القصائد العراقية، والنقاد والدارسون ربما خوفاً من التقصير أو عدم الإمساك بالقصيدة كاملة لا يقفون عند هذه التجربة.

وأنا قارئ جيد فقط أستطيع الإمساك بالقصيدة كاملة، لأنني عشت هذا الموت. فمن يقرأ محمد مظلوم وخالد المعالي وآدم حاتم وعبد الحميد الصائح، سيقرأ الموت الإيجابي، الموت الذي يغسل القصيدة من موتها، ربما هذا هو السبب في طول عمر القصائد العراقية، لأن الموت عند الشاعر العراقي ليس نقيضاً للحياة، بل الحياة مقلوبة ـ غير مغشوشة.

غير منصوص عليه، و(عابراً بين مرايا الشبهات)، و(محمد والذين معه)، عناوين أساسية كارتكابات (المتأخر) من خلال عناوين هذه المجموعات الثلاث نجد الشاعر بشكل ما يقول الموت، أي يقصده ولا يعنيه، سأريح موتي الأشقر، منذ إتمام أخطائي على جسد الأبد. ص21. وكذلك، نموت، أقول، نموت ونحيا، أقول نموت، هنا الفرق بين التوقع والاستجابة للمعطيات، أقول نموت لأن قوة الموت حاجز يمنعنا عنه. ص59.

أحتاج أكثر مما لدى الذكريات لأمدح موتي. ص89. وأنت تربين منذ ثماني سنين على مقعد الدرس موتي. ص89.

لي شرفة سأردد منها النشيد، ولكن من يشغلون الفضاء، لهم ما يحرف موتي. ص93. رجم بها البحر عندما تذكر أنه ميت/ وعاد إلى صحرائه بلا ذكريات. ص23.

كل هذا الموت من مجموعته (غير منصوص عليه) تُرى هل أصاب محمد مظلوم الموت بصداقة حقيقية. أم أنه قد روّض الموت من خلال تجربته الحية مع الموت؟ أو كيف مات محمد مظلوم القديم، وبعث حياً كاليعازر؟ هل محمد مظلوم أراد الصلب طوعاً، ليبعث جديداً لخيرة الشعر؟ كل هذه التساؤلات صائبة، لأن الشاعر محمد مظلوم، بالفعل استطاع تخطي كل هذه التساؤلات. ولكن من يرجع؟ أظن لا يرجع أحداً، فمحمد مظلوم عاد من جديد ليكمل مشروعه في الموت وخاصة في (عابراً بين مرايا الشبهات)، ملغوماً بربيع أخطائي/ أستمر/ ضد أسلحة تبكي/ ضد تعاليم موتي. ص21. موتي تحت إبطي، ويدي توزع الزهور وتعزي حياتي. ص29. موتي أسميه الفصل. ص99، وهو عنوان قصيدة، وهذا ما أود التوصل إليه، لأن تساؤلاتي وجدت أجوبتها، فمحمد مظلوم الذي يقول: "موتي أسميه الفصول"، هو بالطبع مر بجميع الفصول، أقصد بجميع مراحل الموت، ولكن الدليل يبرهن أنه دائماً يعيش فصلاً واحداً، وهو الربيع، وهذا ما قاله وأكده في مجموعته الأخيرة: "محمد والذين معه" قلت إن كل هذه التساؤلات صائبة، وهو رويداً يؤكد ذلك:

صديقي أيها الموت/ لم تصلني رسائلك/ مع انني أرسلها دائماً!. ص14. نتكرر بعد كل نوم/ وتتأخر أنت/ صديقي أيها الموت. ص14. هذا الذي لم يمت/ فعاش ميتاً!. ص15.

أظن أن الإشارة أفضل من البرهان، والدليل أفضل من المدلول، والأسئلة أفضل من الأجوبة المعروفة. ومحمد مظلوم أفضل من لقب شاعر، والمجموعات الثلاث تجربة شعرية كافية لوضعه في الصفوف الأولى بين الشعراء الكبار.  

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر