"محمد والذين معه" للعراقي محمد مظلوم

هيمنة الموت وأسئلة الوجود

 اسكندر حبش "السفير" السبت 14/9/1996

الكتاب: محمد والذين معه

المؤلف: محمد مظلوم

الناشر: سلسلة إصدارات كراس .

شاعر هو محمد مظلوم. شاعر بما لهذه الكلمة من معنى بعد أن أصبح الكلام، في زمن الكلام، لا حيلة له وسط هذا الركام الذي يغلفنا.

منذ كتابه الأول "غير منصوص عليه"، ومروراً بالثاني "المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات"، والشاعر يحاول قولاً مختلفاً لا ينقصه العصب ولا الخيال ولا اتساع العبارة. وما الكتاب الثالث الصادر حديثاً "محمد والذين معه" سوى تأكيد إضافي لهذا القول المتمايز، الذي جعل منه ـ بحسب رأيي ـ أحد أبرز الأصوات العراقية الجديدة، التي تكتب خارج العراق. عديدون هم العراقيون الذين يكتبون الشعر، لكن قصائد غالبية تلك الأصوات، تمضي قبل أن تؤكد حضوراً. والقلة القليلة، تعمل على قصيدتها بدربة وحرفة. وهذان أمران، لا ينقصان مظلوم، الذي يؤكد حضوره، والذي يؤكد صوته الشاب، تعبيراً عن هذه المرحلة التي قطعها بعد الخروج من وطنه.

استعادة المكان

صحيح أن ثمة هماً مشتركاً، نجده عند أغلب الشعراء العراقيين المنفيين، وهو هم استعادة المكان الأول، والبحث عنه في تفاصيل الذاكرة المنهارة والمصطدمة بجدران التعب والقلق والأرق والحزن.

لكن ما يميز مظلوم في قصائده، أن همه باستعادة هذا المكان، يندرج ضمن سؤال الحضارة بشكل عام. أقصد، أن غالبية الشعراء العراقيين، كانوا يبحثون عن مكان فقط، من دون البحث عن خلفيته، ومن دون البحث عن مستوياته وطبقاته الماضية. في حين أن مظلوم، يعود في سؤال، إلى أعمق طبقات التاريخ، مثلما نجد في قصيدته الأولى، التي تشكل افتتاحية الكتاب "موت كلكامش".

"موت كلكامش" قصيدة عن أصدقاء مدينة رحلوا، ابتلعتهم الحرب، والشاعر، لا يتوقف فيها عن استرجاع ذاكرتهم وذكراهم، بل ينحو إلى أمر آخر، انه يحفر الطبقات، للبحث عنهم، بمعنى آخر، انه لا يجدهم سوى امتداد لملحمة كلكامش، ملحمة الشهيد البابلي الأول، في صراعه مع الحياة. من هنا، نستطيع أن نقرأ شعر محمد مظلوم، عن "الحروب العراقية"، وكأنها شكل آخر لهيمنة الموت.

ومثلما لم يجد كلكامش مستحيله، سوى في الموت، لا يجد مظلوم، صداقاته المستحيلة، إلا في الموت، أو في نبش سيرة هذا الموت.

عديدون هم الشعراء الذين بحثوا في لحظات التاريخ، عن نقطة تماس مع قصائدهم. وعديدون هم الشعراء الذين بحثوا في الأسطورة، عن نقاط تماس أخرى. لكنني لا أقصد أبداً أن مظلوم، ينتمي إلى هذه الفئة أو تلك. سؤالا التاريخ والأسطورة عنده، يختلفان بشكل جذري، سؤاله، ليس سوى الحاضر، تفتيته، وإعادة جمعه من جديد. وفي هذا السؤال، تتبدى رحلة الحمر، ورحلة الوجود برمته.

وبين تلك الأسئلة، يقيم الشعر علاقته باللحظة الراهنة، أي أن الشعر، ينحو إلى كتابة تفاصيل الكائن في هذا العالم المنهار، يكتب تعبه وقلقه ورحلاته الوهمية إلى داخله. أقول وهمية، لأن الرحلة في نهاية الأمر، لن تصل إلى نتيجة معينة، لن تصل إلى استكشاف كنه هذا الكائن، بل ستزيده حيرة وتزيده أسئلة وبحثاً، عن طبقات أخرى.

لا ينسحب كلامي هنا على قول، أن شعر محمد مظلوم هو شعر التفاصيل اليومية والعاديات، بل انه شعر ينحو إلى أسئلة الوجود الكبرى، كالحياة والموت والكائن الإنساني. هل هو بهذا المعنى، شعر قضايا؟. لا قضية عنده، سوى عدم قدرة الكائن على مجابهة الموت. أي انه سؤال الحياة نفسها، تلك الحياة، التي نكتشف دوماً أنها تغادرنا أو ستغادرنا، لأنها سبق أن غادرت جميع الذين كانوا قربنا.

تأمل

في جزء كبير منه، يبدو شعر مظلوم، شعراً تأملياً، لكنه لا يقع في الحكمة والأمثال. وهذا أمر إضافي، يقوي حضور القصيدة. التأمل هنا، هو شكل آخر للسؤال، فالسؤال لا يكون حاضراً بقوة، إلا إذا عرف كيف يلتقط شارات من وراء الحجب الكثيفة التي تغلفنا.

شعر محمد مظلوم، شعر رحلة عميقة إلى غياهب النفس، وفي هذه الرحلة مشاهدات وحكايات وخبريات، تندرج في إطار واحد، يجعلها بحثاً عن معنى لكل هذا الموت، أو لكل هذه الحياة الغائبة. فبين هذه الرحلة، وبين هذا التأمل، ينجح الشاعر في التقاط مفرداته ولغته، تلك اللغة الهادئة، لكنها حادة داخلياً. فلا فانتازيا ولا تراكيب غرائبية، بل تبدو الكلمات متراصة جنباً إلى جنب، وكل واحدة منها تستدعي الأخرى. أي أن العملية الشعرية تفرض أسباب وجودها وحضورها بعيداً عن أي افتعال، وبعيداً عن أي عملية قسرية، لتنساب بهدوء مثلما ينساب الغيم الذي يحملنا.

"محمد والذين معه" كتاب أصدقاء رحلوا، وربما كتاب أشخاص سيأتون إليه. وبقدر ما تحمل اللغة هذا الحب إليهم، نقرأ القصائد بمحبة، ربما لأن حربه حربنا، وتعبه تعبنا، وموته موتنا. ربما كانت كل تلك الأمور، الذاكرة المشتركة التي ستؤسس عليها، مستقبلاً، ذاكرتنا الخاصة، وقد يكون الأمر صعباً جداً، حين لا نرى في الأفق سوى هذا الانهيار، وهذا الموت، الذي لن يتركنا.

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر