كمال سبتي

ــ

"المتأخر.." لمحمد مظلوم

يبحث الشاعر عن رؤياه في مرايا عدة

الكتاب: "المتأخر.. عابراً بين مرايا الشبهات" (شعر)

الكاتب: محمد مظلوم

الناشر: دار الكنوز الأدبية ـ بيروت ـ 1994

راجعه: كمال سبتي

"عيوننا معلقة بحقائب النازلين من تلال غزاها الصيف، في كل الأسماء، نبحث عن ماض سيأتي وحاضر مؤجل، نبحث في الجمرة عن وهم الطائر، نبحث في الجرة عن كلب ينبح، في البستان، عن منديل امرأة قطفت وردة، نبحث، كي نصدق أننا ضيعنا الاسم.

وكنا به مجهولين!

هل سنحلم؟

هل ثمة تل نفرق من فوقه ما وراء وما أمام؟

ونطلق منه السهام على لحظات شاسعة تخبىء في خرجها أسماء الفتيان من ذرية الصحراء؟.

هل سنحلم أن نصطاد فصلاً خامساً في جهة سابعة؟!".

ربما يبحث محمد مظلوم (الشاعر العراقي الشاب المقيم في دمشق) في مجموعته الشعرية الجديدة هذه، عن شعره، أكثر مما عن شيء آخر، فمظلوم، الذي فاجأنا بمجموعته الأولى "ارتكابات" والتي صدرت عن الدار نفسها ـ دار الكنوز الأدبية ـ بيروت، قبل عامين، لم يعد يرتضي التجريب لغة وأفقاً لشعره، انه يصل بين الحين والآخر إلى صوته الخاص، من خلال ما يحمله من بذرة التجاوز لشعر قيل قبله. انه الآن يبحث عن شعره نفسه، تاركاً أوهام الغرابة العتيقة إلى غير رجعة، فتراه هنا، حاضراً في نصوص الأقدمين: الأساطير العراقية القديمة، الشعر العربي بتراثه كله والآثات القرآنية، وبحضوره هذا، تحضر هذه النصوص كمرايا لشعره، تكمله، وتعطيه فسحة تأمل شاسعة.

المفردة، في مجموعته الشعرية الجديدة، هي علاقة متضادة كاملة في وحدتها وعزلتها عن غيرها، وهي هنا تجربة، لسنا في صدد التدليل على نجاح الشاعر في قيادتها إلى أقصاها، في هذا المقال، إنما نحاول هنا التدليل على ما يبحث عنه الشاعر، تاركاً كل شيء، وفي الوقت نفسه، بادئاً من كل شيء:

"فكرتي ترطن في فجر تهجاني وحيداً،

يستطيع الرف إرجاء يدي،

لكنني، لست يدي،

لست المقيمين على الرف،

فأجل جملة،

يعجز عن تفسيرها الفجر الإشاري، ويلقيها أمامي".

يعود الشاعر، إذن، إلى التفعيلة، وهو الذي يعز عليه هجرها إلى الأبد، والعودة هذه، تستمد شرعيتها من محاولة تغيير العلاقات البنائية التي تحتمها التفعيلة، فنرى أنفسنا أمام الوزن الشعري المألوف، بسبب معرفتنا المسبقة به، أما علاقاته فهي غير علاقاته المألوفة، وهذا نجاح يحسب للشاعر، ويدل على إمكانية غير عادية في البحث عن ما هو غامض وغير مكتشف في الوزن نفسه. في عبارة أخرى، يلح الشاعر على فكرة هي غير جديدة ـ حتماً، ونعني بها: الاستفادة من الوزن الشعري مع دراية مسبقة بأن لا يظهر الوزن فوق العملية الشعرية نفسها، يأخذ كل شيء من الشعر، فننتبه إليه، تاركين ما ينبغي الانتباه إليه، والذي يعني الشاعر والشعر قبل أي شيء آخر.

والاستفادة هذه، قد تقود إلى أن يأتي الشعر الخالي من الوزن، مستفيداً من ذكرى قديمة للوزن نفسه، وسنكون هنا أمام بحث شعري، هو الآخر، سيشكل علامة أساسية في هذه المجموعة:

"أضمد أعيادي بكلمات شاقة،

كمن يحيط أيامه، بصرخة ولا أحد".

أو:

"كما في المرة القادمة" و"شعائر" تجلس في إحدى زوايا الدار، وأقدام محناة تضرب سجادة الأرض، بينما تندب الحرية بشعر مسفوح على بطون وظهور، مغسولة بدخان وأبخرة.. الخ". ان محمد مظلوم في "المتأخر.. عابراً بين مرايا الشبهات"، وهو يبحث الآن في كل شيء عن الشعر، أو عن شعره نفسه، سيسجل لنفسه، هذه المرة، فضيلة الجهد الفردي، في الاستفادة من الموروث الشخصي، وهو هنا كل موروث عرفه الشاعر، من أجل كتابة نص قد يشير أحياناً إلى بنى متوارثة ومعروفة، غير أن النظر إليها على أنها وحدة صغيرة من وحدات البناء العام للشعر عند مظلوم سيجعلنا نشعر بمتعة هذا البحث، أو استلال النص المتوارث وجعله مادة أساسية في نص معاصر، وستكون لنص قديم دلالة البحث عن قيمة شعرية فيه، يحتمها ـ أو يبحث عنها ـ النص المكتوب تواً. إذن، لم تصلنا هذه النصوص عبر الشاعر محمد مظلوم، عبثاً، إنها جزء من بحثه عن شعره. نقرأ في مقدمة قصيدة "شبهات الملتبس بظلاله، رسائل السامري" نصاً من ملحمة جلجامش، العراقية القديمة:

"يا انكيدو بما أن الأجر وختم الأجر قد أحلا النهاية فإنني اعتزمت أن أدخل إلى أرض الحياة وأسجل اسمي، في المواضع التي لم تسجل فيها أسماء سأضع اسمي"..

ثم ندخل إلى قصيدة مظلوم.. فنقرأ:

"ولما انقضت جهة كان عصر،

وكان زوال

وكنت أقود معي آخر الساحليات

منحدرين إلى شفق قرفصت فوقه السنوات،

ومتجهين إلى فرس، تتشمم بين المدافن

ذكرى شخوص لنا، موشكين على الانبعاث".

هذا ما حاولنا تأكيده، انه بحث واضح جلي، حيث يبحث الشاعر عن شعره، عن رؤيته للشعر في مرايا كثيرة، وهذا البحث هنا، طاقة غير اعتيادية، يدلنا عليها الموروث الشعري الشخصي للشاعر.

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر