تدوين الوقت قراءة في مجموعة "غير منصوص عليه" الشعرية

  عبد الحميد الصائح  مجلة ألف 1993

 

ما صلة المكتوب ـ بالمحذوف؟

ليس أكثر من:

وتنزل من القوة و(والقدر) ولا خلل.

يؤكد التوافق نوايا اقتحام عالم الكتابة الشعرية الجديد عدد غير قليل من الشعراء العرب الجدد وفي مناطق متفرقة ومتباعدة، يؤكد على أن الخروج بالشعري إلى المغايرة ضرورة قائمة على نية جماعية عامة، يؤسس ويدمغ لها المنعطف الذي حدث ـ والذي ينبغي حدوثه ـ في البنية المتوارثة ـ النمطي منها ـ لحركة الفكر والإنتاج الأدبي والفني العربية. وهو توافق ملح صورته: أن شاعراً في غرفة بدمشق مثلاً يؤسس نصاً متزامناً مع شاعر في مقهى تونسي تحت هاجس الإحساس بالمنعطف الشعري العربي دون وجود تواصل مباشر. إنها قضية إذن، ليست مشروعاً ضيق المساحة، ذلك المؤكد الصريح الذي أود تأشيره مدخلاً لهذا الموضوع، يغني عن الخوض فيه تدفق العديد من التجارب الاستثنائية المتمثلة في هذا الاتجاه بالجهود الجديدة الجادة في الشعرية العربية، اتخذ هنا مجموعة شعرية لشاعر بارز من شعراء الثمانينات أكاد أكون ألممت تماماً بحيثيات تجربته الشخصية في القصيدة ودافعها ونواياها ـ على الرغم من أنى لا أرى ذلك ذا علاقة أساسية بطبيعة قراءتنا التالية ـ لأشير إلى نموذج خاص يتعلق بالمبدأ العام الذي افتتحت ما سيجيء به.

تبحث مجموعة محمد مظلوم وترى في ذات منطقة الإشكال الشعري والامتياز الشخصي في دخول عالم الكتابة الشعرية الراهن بمعنى: تلج مختبر الشعرية الحديث لإنتاج شعري مغاير أو ما اصطلح عليه "شكل الكتابة الخاص" وهذا بالضرورة يبدو ـ خارج الأطر التقليدية ـ شكلاً هيولياً، عناصره الأساسية: الاحكام الداخلي لإيقاع المشهد وحذاقة إدارته، فالمشهد الشعري المحكم القائم على الانتباه اللغوي والحسي ينقذ النص من التذبذب والانفلات والتقريرية التي أداها المعرفي.

هنا إذن خروج النثر من المعرفي إلى الرؤيا، أي: التماس التام مع الشعر ودخول دائرته، وبذلك يكتسب النشر قدرة الشعر وامتيازه سعياً عفوياً معياره جوهر الشعرية لا شكل تدوينها.

فحين نظر القديم إلى الشعر كان البناء الخارجي مبنى له قبل أن يكون مبنى لقصيدته. وحصانه وقوته في السباق فيما فضل الشاعر الجديد المغامرة داخل اللغة وكأنه استغنى عن الحصان مفضلاً الجري على قدميه في الشوط، ولذا فإن المسافة التي يقطعها مهما اتسمت بالقصر والبطء فهي مسافته الشخصية التامة بعيداً عن امتياز الحصان في قطع المسافة. ذلك بالضبط ما يشبه حجم الطاقة النفسية يتجرأ الشاعر في ضوئها لدخول معترك التجاوزات الشعرية التي حدثت في عالمنا العربي.

إلى أي مدى تمكن محمد مظلوم من قطع مسافة في هذا الشوط المثير، محمد مظلوم واحد من نتاجات المخاض الشائك المثير الذي أحدثته الخلخلة العجيبة في شعرنا العربي ودوافعها ذات الأبعاد المختلفة (؟) بعد نشوءات وتأسيسات متنوعة في شعرنا العربي، أحيطت بتحفظات شتى من وجهة الرسوخ الجمعي للأدب والأداء اللغوي العام، حيث تشكلت خرائط غائمة الملامح لهذا الكائن الشعري الذي خرج من الجهد الشعري العربي عبر آثار اتسمت بالجرأة واليقين المغاير بإزاء منعطفات العصر العربي وإنسانه لأي نخبة من التجارب الريادية في العديد من البلاد العربية إلى جانب تجارب عربية في بلدان غير عربية متفرقة أخرى. جهود اتهمت بكونها دخولاً على بنية الشعرية العربية لا خروجاً وتبلوراً منها. وبدا دخول قافلة الشعراء العرب الجدد إلى هذا المنعطف دخولاً حذراً يشبه الخروج على العائلة! لقد دخل محمد مظلوم ضمن ذلك بإصداره ـ غير المنصوص عليه ـ ارتكابات ـ دخولاً معلناً لا مفر بعده من اعتراف مغاير، ذلك أن غير المنصوص عليه عبر ما تشير قصائده ثبات مؤكد في هذه الدائرة التي أشرنا إليها وفاتحة لحوارات مكثفة وتراسيخ شتى قبل أن يكون اعلاناً أولياً عن تجربة ستواصل إنجازها اللاحق في ضوء ذلك. دخل محمد المنعطف الشعري ضمن موجة صاخبة بالشعر تواجه السائد بمصيره عبر رؤيا وإنتاج يداهم المفروض بالمحتمل الاختياري، دخلوا صحيح الشعر وخرجوا بصحيحهم. ذلك بعض امتياز تيار الشعراء الذين اصطلح عليهم ـ بالثمانينيين ـ بعد مرحلة مهمة من تحول بعض الشعراء الذين سبقوهم قليلاً إلى المناخ الذي كتبوا فيه، حيث أنتجت علامات مهمة في حركة الشعر المغاير الآخذة بالتسيد والمواصلة.

في ـ غير المنصوص عليه، ارتكابات ـ تتشكل فكرة المحذوف لدى محمد تشكلاً خاصاً يشبه فكرة اللا حدث بوصفه حدثاً في مسرح العبث مثلاً. فالمحذوف عنوان صريح وجارح لكل ما هو ضروري مؤجل، مختف مطارد، مؤثر مهمل، لا يتجسد، يحيا إلا عبر اللغة، حيث تأتي اللغة هنا منطقة حيوية آمنة لتبني واحتواء الخاص، المغاير، الحسي، الشخصي، اليومي، الأفعال المهملة، كما يراها ستانسلافسكي في الأداء التمثيلي بمعنى: أن فكرة نهوضك من النوم إلى العمل تضمنت أفعالاً ضرورية غير معلن عنها بدءاً من مغادرة الفراش مروراً بارتدائك ملابسك (وما يصاحب ذلك من استعداد شخصي) وغيرها من الأفعال التلقائية التي تؤدي مجتمعة إلى خروجك إلى العمل. بمعنى آخر: ان هناك أفعالاً أساسية لا يخصها الحدث المعلن رغم أنها تمثل بنيته. وذلك انعكاس لفهمين: الأول: ان العام ـ حدثاً أو تاريخاً ـ معني بالكلي الجمعي الفوقي الذي يمثل قيماً بعد سلطة مقوضاً الخاص اليومي الشخصي الذي يمثل المستلب المفهوم الثاني يتجسد في تطبيق ذلك على الذات والنفس البشرية وغربة الفرد بإزاء مؤثرات وثوابت ساهم في صنعها مرغماً.

ولذلك حين ينحرف الشاعر باتجاه هذا الخاص المغترب المهمل يعلن مواجهة قاسية تتمثل في دفع اليومي الشخصي إلى منطقة الحدث والتاريخ الكلي للأشياء.

ذلك ما حاولت نصوص محمد مظلوم بلورته عبر زوايا متعددة ومعالجات متنوعة سنأتي على تنوعها لجعل الشخصي والمحتمل والغرائبي الأليف برمته متناً للنص. "سيرة الغائب في حياته" وتحديداً الحقول (2) ص4 ص10(7) ص88، (8) ص11، (88) ص12، (13 ص13، و "المحذوف قبل أن يتكرر" ص13 ومنه:

"وبعد ثماني سنين قضاها في المصح،

عاد السامري،

ليوقظ أحلامه التي تنام في الباص.

 

خاتمي ذو الفص الأملح.

ساعتي اليدوية المستطيلة،

منديلي الأبيض،

نظارتي الشمسية

محفظتي الجلدية السوداء

أضعها جميعها على الطاولة

وأخرج للناس، أعزل من حياتي.

ذلك ما يندرج في حدود اليومي المعلن (المفضوح)، بينما تتعدد أبعاده لتتصل وثيقاً بتحولات النفس البشرية بتوقعها إلى (الخاص)، بتركيبها تركيباً مغايراً لطبيعتها، ليبدو المحذوف هو المحتمل المعنى، ما لا يحدث، الذي يتشكل عبر الأداء اللغوي في النص، ليس اليومي المشخص (المفضوح) كما أشرنا. تلك معالجة شعرية مغايرة تتدخل اللغة لتدوين الحسي من خلالها، بعبارة أدق ان اللاحق من النص، الذي سأتخذه، يمثل الوجه الآخر من فكرة المحذوف الوجه الذي تعنيه اللغة، والتي يمثل المندرج السابق وجهاً آخر له:

(فخ بعيد، بعيد عن المناديل الملونة اسميه السكوت في اعتراف يخصني تماماً. فخ يكفي لإلهاء أعمى يدخل متحف أحلام نائمة، أو جريح يخرج من مصعد معطل، تاركاً أحذية نسوية لا تعود إلى أحد في الحديقة، فخ بعيد عن الحرية التي ترقص في صالة سوداء. وتشير إلى الجالس، تحت غيمة من السياط التي تسترد أحلامها منا. وهو ـ أي الفخ ـ مما لا يحق لي الإمساك به، كي لا يهرب نحو رسائلي إليكم، رسائلي التي تستخدمونها مناديل لاستدراج الغيمة في الصحراء، وهو ـ أي السكوت ـ لي حين يمر أمامي الجريح الأعمى.)

في اتجاه آخر وضمن المنهج الذي ينجلي عن محمد مظلوم ينتقل النص بالمحتمل إلى مغامرة لغوية صغيرة، ربما تبدو هينة العواقب لكنها غير بريئة القصد، يتصل محمد عبر هذا المفصل اتصالاً أليفاً بالمحذوف المحتمل دون أن يقحم المداخلات والاستعارات والقسر الإنشائي للوصول إليه، ربما يبدو المنطق المفترض للمعالجة هنا لعبة ذات دلالة في خارج النص بالتأكيد إذ يأتي عبر بيانين، جعل اللغوي نسيج الفكرة، حيث يتمظهر المشهد الشعري تمظهراً لغوياً في هذا الباب:

"لأول مرة منذ، أول مرة، أقف هكذا بين فصول ثلاثة، لأول مرة، منذ أول مرة أستيقظ من الليلة التي هربتها امرأة من النوم، لأقف صباحاً أمام المرآة وتواً أكتشف علاقة بين امرأة ومرآة، يبدو أن الألف الذي تبتدىء به امرأة يحن دائماً إلى الالتصاق بنفسه، منعاً للتكرار وإلغاء للتباعد، لذا فهو يتحد مع الألف الثاني ليصبح هو الذي يشبهه تاركاً للميم التي هي قبل ليس أن تبدأ الحياة".

من "الربيع في متحف النسيان" ص47.

فيما يقف البيان الثاني على استدراج اللغوي للفكرة، بمعنى أن اللغوي غائب قائم في الآن ذاته غائب عن النسيج عن المتن بناء غير أنه قائم في الحالة ـ المشهد مثل إجابة مستحيلة على سؤال ملح هناك، لغوي، يحيط بالمشهد ويتدخل في ثناياه، ينطق يتساءل يثير في حين أن النص يرى حسب:

"ثمة شيء يسميني في اللحظة التي انفصل فيه عن اسمي الذي أجهله، أنا مستهدف حين أقص شعري لدى الحلاق، كذلك حين أغادر مقعد الدرس، أو حين أشرب الشاي في المقهى!

ثمة لغة تستهدفني، لا مفر إذن من الوقائعي إلى الحدس".

من "منتظراً قرب غيابك" ص68.

المبرَّز الذي يشي به جهد محمد مظلوم داخل المجموعة هو تنوع معالجته لفكرة المحذوف ـ كما أشرنا ـ ولذا تجلت العلامات التي أحطنا بها العينات في هذا الصدد يضاف أن النص في حين يحاول تسمية الغائب، المنسي، المحتمل يحاول الإشارة فقط إلى حيز لمحذوف لم يسم، إنشاء مناخ له تحديد صفات مبهمة دون تركيز ملامحه عبر حرفية أدائية في حين آخر، فلو أخذنا مثلاً:

"وأنت أيضاً أيها الأعمى، ماذا تريد لكي أقودك؟".

فإن تلك الانتباهة الذكية في إبعاد الجملة، عن سياقها تريد.. أقودك، بتركيبها ضمن ماذا.. كي تفلت الفكرة إلى مستوى من الغياب هو في القصد تأشير شيء خفي، علائقي مغاير قائم على استبدال عناصر ضرورة يومية صغيرة نقل بدوره نثر الفكرة إلى شعريتها وجمالها، وكذا:

ولا أسميه، لولا أنه يتهجاني.

يأتي أيضاً في آلية ذلك التنوع ما يشبه تدوين الوقت بوصفه أكثر الحقائق إسراعاً في التلف. فما مضى من اللحظات لا تمكن استعادته أو استبداله ـ وذلك غير التعويض عنه ـ أي: أن فكرة ثنائية الحدث ـ الوقت، يكون عندها الوقت مفهوماً وشيئاً من المحذوف بقياس السلطة والمستلب حيث الثبات للحدث فيما يقع، الاستلاب على الوقت حتى إذا ما انتبهنا قليلاً نجد أن الوقت ماض منته غائب بالضرورة يتشبث عبثاً بالحدث محاولة في البقاء مثال ذلك عملية الاحتفاء بذكرى ميلاد هي عملية احتفاء بالحدث.. وان الذكرى أو استعادة الوقت ليست سوى وهم. انه تذكر الحدث ولذلك ستصبح معالجة الوقت بوصفه من قياسات الزمان معالجة شعرية أمراً موضوعياً في العديد من مواقع الافتراض والتدوين وصنع الفراغ والتساؤل المفتوح:

"فضاؤك يحكي، يحكي فضاؤك، أنت وفضائي تحكيان

قبر بلا فراشة/ كرسي يرتل ظلاماً بريئاً

هكذا كان ما يشدني إلى مقعد فوق المياه

أقبل حنك غيمة، فتمطر دهشتي،

رغبة في القول، افرق جموع التنكير،

وأنا أدخن اصبعي في غياب المكان.

في المستوى الثاني من اللغة/ الأبعد في الإيحاء/ الأقرب للتلقين، أجلست شيخ التورية، ليفصح عما يحدث

ما الذي يحدث؟"

من "أحد عشر برزخاً قبلي" ص55.

ذلك ما أراه على تماس مع فكرة التدوين عبر الفعل الأسلوب الزماني في اللغة وعبر السؤال: الذي يجعل الوقت قائماً مهيئاً للإجابة أي: "الحدث" وتلك مقاربة حسية للمشهد الشعري بإزاء مشهد القول اللذين لا يتحدان إلا في صيغة واحدة هي السؤال. مثال ذلك: ما الذي يحدث عبارة عن بيت صغير لطاقة تتصف بالاعتيادي في وقت تحمل فيه قدراً من الاحتمال والتغييب والشعرية.

(مزعج أن نجيء إلى فراغ ناقص وأن نقيم أعيادنا تحت سماء معادية) ص54.

هكذا هو التأجيل

أتكلم أحلم

أنشط في تعدية الحاضر إلى النسيان. ص43.

و.. هكذا نتدافع في الشوارع ـ من أجل أن نطرد ما كنا نسيناه". ص69.

وأخيراً إذا ما أعدنا الآن قراءة هذه المجموعة التي أدليت بها وتوقفنا عند سؤال "إلى أي مدى حقق محمد مظلوم مسافة في هذا الشوط المثير؟" فمن خلال هذه المجموعة التي جاءت تحمل تنوعاً بين القصيدة الموزونة والنثر نرى أن هناك مسافة مهمة استطاع الشاعر محمد مظلوم أداءها عبر ما حملته مجموعته من تنوع وجدية وإصرار ملفت، فضلاً عما تمتع به من حرفية مراقب خلايا أو فاحص فصائل دم، من دقة وتوفيق بين ذلك والمتخيل، يؤشر بها لتجربته وتجربة بعض مجايليه المثمرة الذكية المنتجة في هذا الاتجاه

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر