محمد مظلوم في "محمد والذين معه"

الذات والآخر وفاعلية التجسيد

د. عدنان عباس

الثقافة الجديدة العدد 284 أيلول/ تشرين الأول 1998

بدا لي وأنا أتصفح مجموعة محمد مظلوم الشعرية "محمد والذين معه" (31 قصيدة، منشورات كراس، بيروت 1996) أن توقد الأحاسيس والتجدد يأخذان مديات متجاورة ومتباعدة ولكن بأبعاد متفاعلة، فبقدر ما نلحظ إحساس التجريدي في تصورات وتهويمات داخلية قريبة من المألوف، فإننا نرى بعدها غير المتجرد أيضاً. ويبرز ذلك من خلال استيعاب مقتدر للغة مفردة وتراكيب وإن تناوبتها بعض إشكالات البناء الصوري، إلا أنها تبقى متحركة بإرهاصات التوق للتعمق والتغيير في بناء جديد. فالنصوص التي كتبت توزعت مدارات زمنية غير متباعدة (94 ـ 1995)، وتخللتها أسماء وأماكن تعبر ـ كما يقول الشاعر ـ عن حركتها الحية في الواقع، وتعيش حالة من التفرد الذاتي المتفاعل مع الآخر ـ الحي الميت ـ وتجليات الآخر المتجازىء ومديات وهواجس وعواطف متلاحقة، وحالة من مناجاة ضمير المفرد (أنا) والمجموع (هم) دون ارتباكات تخل بالأفق العام ـ ويظهر ذلك من خلال موقف إنساني متسق مع نفسه والآخرين، متأرجح بين الألم والحلم ومتجانس مع أحداث وعوالم الحرب المأساوية. هذه الأحداث التي استفزت بلا شك معاني متنوعة عبرت عنها قصائد هذه المجموعة: الموت، الحرب، السجن، المجنزرات، الأسر، المنفى، الحزن، الشوق، الوفاء، المرأة، مرثية الذات الخاص والعام، العودة إلى الماضي ذاتياً في حاضر مسلوب.. الخ.

إن تقسيم محمد مظلوم لقصائد هذه المجموعة إلى أنماط أو أجزاء ثلاثة متداخلة مضموناً (موت جلجامش، جنازة المفقود، نساء من كل الجهات) لشيء يوعد بالجديد واختراق حاجز تقليدية توزيع المعاني والأحاسيس وتقنين الشكل. تضعنا تلك النوافذ الثلاث أمام تصورات محددة عن عوالم متفاعلة. وهي وإن اتسقت وتجسدت بالعام سمح ببعض التجاوزات البنيوية في هيكلها الهارموني. هذا الاتساق ينسحب على المضامين خاصة، رثاء وحزناً وهماً وأحلاماً ضائعة وتجسداً في الذات. فهناك مرثية الذات الجلجامشية وملحمة عصرنة الغائب الحاضر في الآخرين. هي مرثية ذات الشاعر المتوجد بصوفية الحلم، الكابوس والعشق الأزلي للموت و"المكره" عليه بنفس الوقت. وهناك جنازة المفقود المتأطرة بوجدانية الرحيل. هذه الوجدانية الملتاعة في مساراتها المادية والروحية حيث تلقائية الألم الممض واحتضار الزمان والمكان والأفراد والأشياء. انه اختلاط العاطفية بالبكائية، الحي المخلص لأنكيدو الراحل بأشيائه وأحزانه، وهو الإحساس الدفين بسرد كانون الموت والدخول إلى عالمه الواسع. وكم كان جميلاً لو تحركت المرثية وجنائزيتها في آفاق أكثر تنوعاً وتحفزاً كي تخرج مركبة متعددة المواقف والأبعاد، فارزة لتفاعلات ملحمية متأطرة ببناء قصيدة النثر الواعدة حقاً عند الشاعر محمد مظلوم. ثم تأتي النافذة الثالثة والأحلام المتجسدة بالوحدة ووحشة الحرب وخندقة الآمال والأماني، وامتثال هذا الحلم لإشراقة مبهمة وخيال عابر كالنيزك. المرأة والحلم بل وأضغاث الأحلام المهدورة على أصوات جنزرة المركبات وهدير الطائرات. ومع هذا تأتي النخلة والشجرة كنوع من صيرورة التكوين منذ سومر ولإعطاء أفق داخلي غير مرئي ـ ولكنه محسوس ـ متسم بالرغبة والشوق نحو تحول ما. وتحس وأنت تقرأ قصائد هذه النافذة أنك أمام شاعرية ورومانتيكية سوداوية ورؤيوية مسيجة بعوازل الحرب رغم التوق للخروج من المتاهة ولو بلذة وذكرى عابرتين.

فبعد مجموعتيه السابقتين (غير منصوص عليه ـ ارتباكات ـ بيروت 1992) و(المتأخر عابراً بين مرايا الشبهات ـ بيروت 1994) يبدو لي أن محمد مظلوم يمتلك القدرة على فهم تكنيك القصيدة وعروضها ومناخها وإيقاعها ونثريتها (حيث جاءت أغلب قصائد هذه المجموعة على شكل قصيدة النثر)، وإن حدثت بعض الاختراقات النثرية هنا وهناك. وفهم الشاعر لأشكال القصيدة هو فهم تلقائي وواع كذلك، لن يتكدر بعمى الألوان أو متاهات وسراب الصحراء ـ صحراء الشعر ـ ولا أدري إن كان محمد مظلوم سيتوجه نهائياً إلى قصيدة النثر أم لا؟ ولكن طموحنا يبقى أن يتجدد في إطار هذا الشكل على قاعدة التجريب والصبر والحاجة. إن هذا الشأن قد أصبح ضالته على ما أعتقد وهو يكتب. وما يسجل في مجموعته الثالثة إمكانية في التحكم بماهية القصيدة ومناخها العام. كذلك التجريب حيث يتفاعل البناء الشكلي بالمضامين. لقد اتجه في هذه المجموعة إلى بناء المقاطع الشكلية والمعنوية المستقلة كما في قصائد (صدمة الليل، ذلك الشتاء، سنة سارة، جسدك المأهول بالبط، هجاء الموتى) وفي قصيدة (هجاء الموتى) يطالعنا تكتيك أشبه بمسلة سومر الهارمونية إذ يمكنك (مقطعياً) أن تقرأ القصيدة أفقياً (الذين كانوا معي.. كلما عبروا.. لا يصلون) وعمودياً، كما يميل الشاعر في عدد من قصائد هذه المجموعة إلى التركيبية وطول النفس الشعري بخيال واسع ووحدة عضوية متماسكة، الأمر الذي يوعد بملحمية بناء القصيدة لاحقاً (انظر مثلاً قصائد: أيها الموت، آباء النسيان، يتبعني النهار فأتلفت). كما يصوغ الشاعر أسلوباً جميلاً في تكنيك شكل، بل ومعاني القصيدة حيث يستطرد في وصف أشيائه (موت جلجامش): (إجازته، ساعته، جواز سفره، نظارته، وصيته)، أو في جنازة المفقود وتجزيء الماضي والحاضر، هو ماضي وحاضر الشاعر نفسه (لاعب الكرة، سائق الدبابة، مدرس العربية).

محمد مظلوم في بناء تكتيكه ولغته جريء يتوخى التجديد، ويتوقى (حذراً) التهميش والتسطيح الذي وقع فيه بعض الشعراء الشباب. يحاول وهو يكتب قصيدة النثر مثلاً تجاوز الخلط بين النثرية والنثر الشعري والشعر المنثور. وهي محاولة طريقها غير قصير وتحتاج إلى نفس راكز وصبر واع. إنها محاولة الاحتراس من الاستسهال الذي سلكه البعض فخرجت قصائدهم (حرة) إلا من نفسها الشعري وإيقاع لغتها الداخلي ومناخ صورها وتراكيبها ووحدتها العضوية وألقها المعنوي ـ صحيح أن الشعر في عالمنا يميل إلى التعقيد بسبب تعقيدات الحضارة ـ كما قال الشاعر توماس سترنس اليوت ـ، وصحيح أننا نعيش في عالم يقطّع أنفاس الكاتب والمتلقي على السواء، عالم محسوس وغير مدرك، مفهوم وغير مفهوم لا يرقى إلى الفهم إلا بمشكاة من أتقن حرفة الأدب والشعر خاصة ـ فقد يمتلك البعض تقنية البناء دون الموهبة وبالعكس، ولا جدوى إذن من الاحتراف ـ كما يقول جابر عصفور ـ وفي المحصلة أن من أضاع الطريق لا يرد الماء ابداً ـ كما يقول الإمام علي، وإننا أمام كم من الشعراء وضمور شعري ـ كما صرح يوماً ميخائيل نعيمة في "غرباله" ـ إن حالة التراكم أو الكساد تضعنا أمام قلق مشروع خوفاً من سيادة قانون غراشام القاضي بسيادة البضاعة الرديئة على حساب الجيدة في السوق. تلك المخاوف التي عبر عنها عدد من نقاد الشعر في أمريكا بالخمسينات. ولكن وبجانب هذا الكم المتسرع المتراوح بين الجزرية والبهرجة والغرور، نجد عدداً من الشعراء الشباب ممن يحاولون الخروج من هذا الطوق والنزوح إلى أسواق العافية الجيدة ـ قصيدة محمد مظلوم ـ وإن تراوح ألقها وتفاوتت أساليبها، هي قصيدة طامحة تبشر بمثل هذه المعافاة وبظهور مناخ واعد يجمع الجانب الذهني والتكنيكي والثراء اللغوي والتركيبي. هي محاولة تظهر في المجموعتين السابقتين أيضاً، للبحث عن هوية، ولترسيخ وجودها وتثويره عبر تحسيس المجردات وإعطائها نبض التفاعل مع محيطها.

الإنسان محور قصيدة مظلوم، الإنسان المتجسد في الآخر والضمير والوجود، عصرنته وتأرخته وحركته في مناخات صوفية متعددة مؤطرة بالحلم. ومع هذا الألق المعنوي وطموح شكل قصيدة النثر الواعد لديه، فإن بعض القصائد لا تخلو من تأرجح نثري بين الجرأة والتكاسل. ويبقى الطموح قائماً بتوظيف إمكانياته التكنيكية واللغوية لتوسيع مناخات ملحمية القصيدة وعقلنة بعض صورها، والمضي في تركيبتها كي يختط لنفسه طريقاً جريئاً، صنعة وطبعاً وأسلوباً، مستفيداً بلا شك من تجارب الآخرين، ومحاولاً الخروج من جرح التهيب، سيما وأنه قد وضع اللبنة الأولى للاحتراف المبكر كشاعر.

لقد تناولت قصائد مجموعته الثالثة عدداً من المضامين، قاسمها المشترك الإنسان (هو والآخر) ومأساته (موته ونفيه) في زمن الحرب وضياع الأحلام. نجد فيها تلك الهموم الصغيرة وتفصيلات البوم المحارب وأشياء والبوم الأنا والآخر وأحلام المنكوب بالوحدة، وصوفية الموت وأنسنته وصداقته، وأزلية الألم والحزن المفرقع بمفرقعات الطائرات والمركبات المدرعة والملون ببدلات الخاكي. فيها توثيق الداخل ـ الذات، ملحميته وعصرنته، وتوثيق الخارج. الزمان والمكان والحدث (الحرب، الخابور، الأصدقاء، مدينة الثورة) من خلال تفاعل يختلط فيه المحسوس بالمجرد، هي قصيدة اللا حصر في حصر أسماء حية ترمز له هو بالذات وللآخر (الواحد والمجموع) لظاهرة إنسان ـ حي ميت، ووطن وحلم منفي.

الموت حالة متكررة، هاجس صوفي

أنسنة الموت

يظهر الموت ـ كما في المجموعتين السابقتين ـ قاسماً مشتركاً للمأخوذين بالهم العراقي ـ الفردي والعام ـ، فيه العصرنة والصوفية المتجانسة مع تجليات النفس والمتأنسنة صداقياً في إطار من اللا محدودية في محدودية الحدث، واللا مكانية واللا زمانية في مكان وزمن ملاحق بالأنفاس والحشرجات (صديقي أيها الموت) ـ "آباء النسيان" ويأتي الموت متأطراً في ذكريات وبكائيات هي مرثيات تجسده والإنسان.. الموت في قصيدة مظلوم متواجد ومتفاعل في كل شيء:

(أتذكرك، في عيون أصدقائي، في أعناق أصدقائي المصلوبين) "قصيدة: أيها الموت".

هو الموت والموت دائماً و(أتذكرك في ـ انقفال أبواب الدبابة) ـ "أيها الموت".

المجرد المجسد المتحول والمتحرك، أزلي التكوين والتشخيص في الذات: (ها أنت تعيدني إليك من أمومة مشاعة). "أيها الموت". يتجسد في الذاكرة الملغومة بأدوات القتل، يتحرك كالأتون الذي يخطف أرواح الأحبة والأصدقاء والأحلام. هو كابوس لابد من معايشته. وعبر محورية وتركيب قصيدة "أيها الموت" يتضح أفق مثل هذه المعايشة الصوفية، والمناجاة في نداءات متكررة. هذه النداءات التي تتكرر أيضاً في قصائد وعناوين أخرى. إنه محصلة الحرب بلا شك.

قوسمة الموت وتجسده في مرثية الموت والحياة ورحيل انكيدو، والخلاص العامر بالألم الباقي لدى جلجامش ومصرع خمبابا (الثور الوحشي) وقدرية البحث عن عوالم غير معروفة من خلال عصرنة مراثي الداخل (الذات ـ الشاعر نفسه) والخارج المتفاعل مع الداخل (الآخرون). فجلجامش (لم يحظ بموته في المرآة)، "الموت بين نهرين". ويبدو أن الموت لا يقف عند هذه الحالة رمزاً وتجسيداً، بل يصبح قائمة إحصائية بعد كل معركة وراء المتاريس، ولن يبقى إلا ذلك الشبح، الجبروت: (أحصيت من تركوني، فوجدت أنني سأكلم كثيراً من الموت). "الموت بين نهرين".

مرثية أو موت جلجامش وانتقالاتها المتنوعة بل وأبعادها العميقة قصيدة مركبة تجمع التاريخ السومري ـ الأكادي ـ بالمعاصر. هي مرثية لذات مظلوم نفسه المهموم برحيل انكيدو. وهي محاولة للبحث عن ماهية ومغزى وسر هذا الموت والحياة معاً. لابد لهذا الموت عند مظلوم أن يفرقع التاريخ لتتراءى إلى العيان هشاشة المستقبل. ولعل هذه التفصيلات الجميلة للأشياء ومحاولة نقل الماضي إلى حاضر بائس تعطي للقصيدة بل للقصائد بلا شك طراوة وبعداً جمالياً جريئاً في تفصيلاته "النظارة، الإجازة، الوصية، جواز السفر.. الخ". إننا نلاحظ تمرغ الموت في تراب الروح والأرض والوجوه. صورة من التقابل والأضداد الحسية والمعنوية. صورة الحياة واللا حياة والمنفى إلى الداخل ـ إيقاع الحي "مظلوم" الذي كان شاهداً على موت ماضيه وموت أصدقائه (الآخرين ـ انكيدو).

(هو الذي لم يمت، فعاش ميتاً وهذا اسمه يرث الموتى) ـ "الموت بين نهرين". الموت بعد ذلك قبور وتراب، وسماوات دخانية بأشباحها الطائرة. كل شيء يشبه كل شيء (قبور تهرب تحت سماء تشبهها). "إجازته". ولكن الشاعر عندما يتذكر أنه ميت فعلاً يرجم (بهذه النظارة البحر) ـ "نظارته".

الموت رمز لكل شيء قاتم، إنسان بلا قوائم، مجرد، وخلاءات وصحارى تقتل الذكريات والأحلام وسراب الفراغ "المجنون": (وعاد إلى صحرائه بلا ذكريات) ـ "نظارته" الموت وصداقته يتخولان إلى نوع من التماسك ذاته وذوات من زاملهم، ولكنه تماسك الوفاء على قاعدة التلظي من وبائية الحرب والخوف من الرحيل الحائر إلى منفى النسيان. كما أنه رفد من التناقضات المعتملة في روح كل إنسان، ووصية لم تكتمل إلا بظلالها (كنخلة مرة أوصت بظلالها) ـ "وصيته". هو الموت المتفرد بعصامية الصوفي وألق الوجودي وصورة من صور أبدية الحزن والنعي في (توابيت عيد) ـ "وصيته". الموت المتجدد العائد إلى الحاضر من الغائب (وموتاك يعوون بي) ـ "ناي لعودتهم". كما أنه المطبق الذي حصد الأحبة جميعاً (ماتوا جميعاً) "هجاء الموتى". ويظهر الموت أيضاً من خلال عدد من الصفات الإنسانية الرهيبة أو الموجعة أو الرمادية (عيونهم عناكب) ـ "هجاء الموتى" و(وردهم حجر) ـ "هجاء الموتى". لا محيد أو مهرب منه، إذ كلما عبروا (ماتوا ولا يصلون) ـ "هجاء الموتى". الموت هو جبهات الحرب ومجنزرات الدمار نجده يتصف بالشمولية في "هجاء الموتى" و(أيها الموت) حيث الأصدقاء الراحلون (تقصف حياتهم في الجبهات) ـ "هجاء الموتى"، وليس للشاعر (سوى موته) ـ "هجاء الموتى". الموت هو الخنادق والأنفاق والكهوف والتلال، هو السهد والأرق (احرقوا النعاس) ـ "هجاء الموتى".

لم يبق لأنكيدو إلا جثته وجنائزية ما تبقى منه وراء أسوار أوروك، ولجلجامش إلا اعتمال النفس بالحرقة والشوق والفعل ومطارحة الموت في مرثية الحياة. ولم يبق شيء من أشياء أنكيدو الصغيرة فقد (خطفوا حقيبة انكيدو بعد موته) ـ "آباء النسيان". التساؤل الأزلي يبقى شاخصاً بعد موت انكيدو (ماذا نفعل بهذه الحياة؟) ـ "آباء النسيان". هذا التساؤل المر لجلجامش يجمع صورة المكدور على الأقربين له، هي أيضاً صورة العمق الإنساني الطامحة إلى التواصل والصيرورة والبقاء.

ولكننا نجد أن صوراً أخرى تلاحق تجليات الموت فتصبح (المدن كتقاويم) ـ "آباء النسيان"، وتستمرئي بعواطف جياشة لا هاجس لها أو لا قدر لها إلا الصدفة أو قل الحظ التي وضعت الشاعر خارج إطار الموت (أقرب من موتي الذي اجتزته) ـ "آباء النسيان". هو أيضاً هاجس الاجتياز إلى موت المنافي والتشرد وإن تأجل. المخيمات والمعسكرات تلك (التي أصبحت غابات محرمة) ـ "آباء النسيان" تحولت إلى شواخص تجريدية بعيون (تمتلىء بجثث بلا وجوه) ـ "آباء النسيان" وظلال لا أكثر.. كل شيء ميت، الأثمار والنخيل، المياه، الوجوه، العيون، الفصول، (أشخاص كانوا أنا) وماتوا. يصبح الموت المنفى إلى الداخل والخارج، عدمية متظللة بأفياء الراحة الأبدية، أو تحت شموس المجهول (إلى الميتين تحت شمس الشبهات) ـ "يتبعني النهار فأتلفت". هو الموت الحسي والمعنوي، الصورة والظل، العدمية في النبض وحيوية الشكوك (كيف أموِّه عدميتي) ـ "يتبعني النهار فأتلفت". هو موت بمعالم وجودية تتوزعه رؤى المشوش بالأشياء في صورة هاربة من نفسها (لكنني لم أتعرف على صورتي في التابوت) ـ "يتبعني النهار فأتلفت".

ضبابية الحلم وأصياف الحلم الضائع تتردد في النخلة المتهدلة على قفار جرداء إلا من ألغامها. كما أنها تتجرد خارج الموجودات وتتجسد في المحسوسات فيصبح الأمر أشكالاً من تهويمات ليلية ولذة الهموم بالمرأة (أنا الذي دفنت بالطريق إليك شبهاتي) ـ "ذلك الشتاء". ضبابية اللذة والحرمان من معايشة حلم مفخخ أمام رقيب لا ينام هو الموت. هي حالة من التمترس في التوق إلى شيء ما يتحرك قريباً أو بعيداً في هموم أكبر تعتمل بالموت والحياة. لن يقتصد الشاعر ماهية الموت، فهو يوزعه على مساحة أوسع هي مساحة الوطن المتجرد والمتجسد معاً، والشوق المختزن في الذاكرة والذي يتحول إلى أضغاث من أبدية سومر وحتى عبور الخابور (المولود بلا ذكريات) ـ " كفجر يلثغ". إنه موت إنساني ملتاع رهيف الوجدان والحس تقف في مواجهته حياة التواصل الأبدية منذ سومر في صراع الامتداد وصيرورة القدوم من قتامة وتجليات الحاضر وحضور في الخواطر وإن كان جبروت الموت أعتى على المساءلة (أيتامك أبناؤك لكنهم فرحون) ـ "أيها الموت". لكن موت خديجة في قصيدة "حين كتب" هو صيرورة الحركة الأبدية التي لا تهمد، الحياة وإن اعتملت بالموت (ذلك أن دورتها أبدية بعد الموت).

لقد استطاع محمد مظلوم حقاً أن يعطي للموت طابعاً إنسانياً مؤنسناً حركته وأشكال قدومه وخاصة في ظروف الحرب. متطارحاً وإياه إنسانياً وصوفياً ووجدانياً على قاعدة من الألق الروحي الحسي والتطامن النفسي والتنازع الذهني بحيث يصبح الموت جنوناً على شراسته، وحنانه هو حصاده المر (من أين لأسنانك كل هذا الحنان) ـ "أيها الموت". ويبرز في هذه الطاحونة تساؤل الشاعر ووده في معانقة الموت (لم تصلني رسائلك مع أنني أرسلها دائماً) ـ "أيها الموت". التطامن النفسي والوجدانية في مخاطبة الموت ينساب بشكل جميل في خاتمة قصيدة "أيها الموت" حيث (تتكرر بعد كل يوم وتتأخر أنت، صديقي "أيها الموت").

توأمية الحرب والموت

الحرب كآلية من آليات الدمار الجماعي وآلام وأورام الفجيعة تجد لها صدى طبيعياً في مجموعة كتبت عن أيام الحرب (كانت السنة الأخيرة من حرب مستمرة، يقتل آباؤنا وجنازاتهم تطل على شتاء حارب) ـ "ايها الموت". الحرب هي القتل بمفهومه العصابي المباشر الذي تنعكس عليه صور الدم والانتشار الممزق على مسافات واسعة. وهي صرخة قد تكون تعبيراً مضاداً لاحتجاج جلي الصوت (صرخة مقطوعة اليدين) ـ "أيها الموت". الصورة هذه تبرز جماليتها من خلال تفصيلاتها الداخلية تذكرك بصورة (الوطن المقطوع اليدين) لمعين بسيسو وإن اختلف المغزى الذي رسمت فيه. وتتواصل جمالية التراكيب الصورية المعبرة عن مخيلة معافاة عند التحدث عن رموز أدوات الموت في قصيدتي "أيها الموت وهجاء الموتى". يجد القارئ هنا وفي عدد آخر أيضاً من القصائد تفصيلات الحرب في صورة أدوات ومستشفيات، وقرقعة وجنزرة، وهدير، ورسائل، وذكريات وأحلام وإسعاف وأنهار وجبهات (حيث لا ظلام مقدساً) فيها ـ "أيها الموت". كما أن مخلفي الموت وأيتامه هم أيتام الحرب لا غير (أيتامك يا صديقي أكثر من أبنائك) ـ "أيها الموت"، (ولا أعتقد أن الشاعر قد وفق تماماً في بناء هذه الصورة حيث تكرر المعنى في مفردة لم تصف شيئاً).

وبما أن الحرب هي معادل موضوعي للموت، فهي إذن غطاء الليل والنهار والمتضادات والإدانة والاحتجاج والتمرد والهروب والنفي والنزوح والمجهول والتوابيت والقبور والمخاوف والرهبة والأوجاع وجنازات من كل جانب والوفاء والأحلام. والحرب حضن أيضاً لتلك الأشياء والمفاصل لأحداث يومية بالدقيقة والساعة والنهار والليل (اصطدم.. بأدوات حلاقة كان يستخدمها الظلام مطلية بغبار الخنادق) ـ "أيها الموت" و(كان أنكيدو مجنداً في كتيبة الدبابات الحادية والسبعين) ـ "الموت بين نهرين". في قصيدة "الموت بين نهرين" نتابع لواعج مرثية الذات التجسد بالآخر. هو رثاء النفس ومطارحة انفعالاتها الداخلية المتحشرجة قبل النفس الأخير أو هو استنفار الواقع النفسي قبل الانفجار، (وأنا مفخخ كالهدوء وهادئ كالفخ) ـ "الموت بين نهرين". والحرب تحول الحركة إلى صمت دفين في محيطها حيث يختزن الموت كل تفاصيله في الذات الحية (وفيك بحيرات من الأموات يعيشون كل يوم) ـ هي بعد ذلك توثيق للمدن والأنهار والأفراح في قصيدة "الخابور" و"أرشفة" "قوارب الهاربين" في قصيدة "وصيته". توثيق للفصول والأصدقاء في قصيدة "مجندون" حيث (ارتدى الخريف أثراً غريباً واختفى). هذا الرداء الذي ارتداه الخريف أعطى حساً فنياً تفاعل فيه الخيال بالتركيبة. توثيق للوطن برمته ـ الإنسان والشجر والنخل والصخر، المأساة برمتها من خلال عواطف تفيض بالألم (بلادي لمن سنجر ذبائحنا في الحروب الطويلة) ـ "ناي لعودتهم". هذه المأساة المزروعة أو المخففة بالألغام واليأس والمتوزعة على الأنهر والمدن والناس، حيث أحاط الشاعر (بين ثلاثة ملغومين باليأس) ـ "سائق الدبابة". الحرب لا تأبه بالمنافذ، هي أمر لا تخترقه الكلمات ولا مهرب منها عندما يجد الإنسان نفسه في أتونها رغماً عنه (مسدس تائب بين يدي ولا مصير للنسيان) ـ "المقصات تؤرشف سيرته" و(كل هذه الوجوه متاهات فيها) ـ "المقصات تؤرشف سيرته". قصيدة "المقصات تؤرشف سيرته" تستحق الاهتمام كقصيدة "أيها الموت" وغيرها، إذ توزعت معاني متعددة تقود إلى معاني محورية وإشارات تستدعي الاهتمام. ولكن لفت نظري أيضاً بعض الصور ومنها (وتلك لعنة تفقس أئمة بلا عيون). وأتساءل هنا: أرأى الشاعر أن مثل هذه الصور جاءت انعكاساً لواقع يتحرك بتجريدية؟ أم عفواً؟ أم أنها من باب الظرافة، تلك التي وجدها الروائي غارسيا ماركيز في روايته "الجنرال في متاهة" "مقبولة" دون أن يحس بوجودها.

والحرب هي الساكنة في تجليات الذات المتصادقة مع الموت. ولكنه الموت المؤجل (أنا المتأخر أجلتني الحروب) ـ "سعيد مثل ديك أبيض" والأشجار المتروكة الباقية لهمها (أشجار العزلة) ـ "كفجر يلثغ"، والأحلام الهاربة.

الواحد، الكل، الكل الواحد ـ هؤلاء أنا، الذكريات، الماضي ـ الحاضر

وفاء الذات للآخر وللذات نفسها معادل إنساني للتجسيد الروحي. هو معادل روحي في وفاء الشاعر لنفسه لأصدقائه وللتراب. ويشكل هذا الوفاء مردود أوجاع مجتمع بأسره. ألم يقل الجواهري الكبير (فإنما أنا من أوجاع مجتمع). وهو محطات متنقلة في الضمير ومخزون من الذكريات والحنين، فموتهم موته وحياتهم حياته وأوجاعهم أوجاعه. نجد مثل هذا التجسيد جلياً في الحديث عن الموت وتفصيلات الحرب في الحديث عن النفس. وبما أن الإنسان السرمدي الجلجامشي الأزلي يصارع أنكيدو وسرمدية موته، فإنه ـ أي الإنسان ـ يبقى محوراً وحالة أبدية من الصيرورة حتى بعد موته. فلابد إذن لأنه حالة إنسانية كالوفاء والتفاعل أن تأخذ مداها وفق منظور من التجانس والصيرورة وتقاسم الهم والفرح مع ذاته وذوات أخرى. ويأتي هذا الوفاء متأطراً بذكريات وأشواق من الماضي الذي أخذ يتحرك في حاضر الحرب (كنت أحسب أن ربيعك محصور في قطاع (50) في مدينة الثورة) ـ "أيها الموت". الذكريات تلك تبدو أحياناً متأزمة تحت طائلة الموت (فكم أبقيت من نسيان لأعرفك) ـ "أيها الموت"، ولكنها ذكريات الهم والألم (أتذكر؟ عندما ازدحموا في الحافلة) ـ "أيها الموت". ذكريات الشجن المتخندق على هاوية الرحيل وتوثيق وصية الأحبة (ولم أكذب وصيتهم الوحيدة) ـ "أيها الموت". وهكذا يعتمل الوفاء على قاعدة من عواطف بكائية يختلط فيها الرثاء بالمناجاة (إلى أين أوجه رسائلي) ـ "أيها الموت". تساؤل مشروع في وحدة موحشة مسيجة بالموت ومحتواة بقدرها. مظلوم وهو يكتب عن الراحلين ونجاته إنما ليتجلى روحياً معهم. يتجلى أيضاً مع (الهاربين من الحرب والمتعبين من الحب والباحثين عن الله). "كاميرا المجنون" (وهذا نوع من المتفاوتات الجميلة في المجموع والواحد على السواء). فهم كلهم (متشابهون وكثيرون) ـ "وصيته". ذكريات الشاعر تنحو منحى أكثر تنوعاً في قصيدته "أيام". هذه الأيام في وحشتها (مطابقة لماضيها) ـ "أيام". هي نتيجة منطقية لرتابة جافة رمادية. هذه الصورة التي تمنينا على الشاعر لو كان قد توسع في أفقها وأبعادها الداخلية ـ هي أيام سوداوية في حرب عصابية (أيام بلا أحلام) ـ "أيام"، وأيام الرحيل إلى المجهول (وأيام تهاجر عندما نصل) (الصورة تلك تقودنا إلى حس جمالي مرهف، ولا أجد حاجة لإكمالها بمقطع "بلا أيام"). أيام خريفية يحتشد فيها الحزن ويختمر بالشوق، أيام هوجاء يموت فيها الأمل (أيام بقدمين ضريرتين) ـ (ولا أدري لماذا استعمل الشاعر صفة ضرير للقدم؟) والأيام تلك موزعة خارج الحرب أيضاً، في بلاد أخرى، أي عوالم أخرى يعيشها مظلوم نفسه. (أدخل باب توما ومعي شجر حزين.. معي مراث لا تجد أحداً) ـ "يتبعني النهار فأتلفت". (الصورة تلك تختزن شفافية الألم والأحزان وترقى بخيالها وانسيابيتها وقربها للنفس) ويتواصل انسياب الصورة وصدقها فنواجه حينئذ (النخيل الهارب من آثامه) ـ "يتبعني النهار فأتلفت".

إن ذاكرة الشاعر الثرة تخترق جدار الذات إلى ذوات الآخرين عبر مراث حزينة لذاته وللراحلين ومتاهات أحداث تلاحق الأنفاس فقد (تبدل كل شيء) ـ "آباء النسيان". وحيث نجد صوراً جميلة في تلك القصيدة (تخطف قرنفلة الغريق وتغرق). المراثي تلك هي مراثي المأخوذ بالحياة قبل الحشرجة الأخيرة، مراثي دموع الرجال (فالرجل هو الذي يعرف كيف تدمع عيناه) ـ كما يقول أراجون، ومراثي حلم ضائع وتيه لا خلاص من وقعه في أعماق النفس ومحاولة للخلاص منه أيضاً (اترك البحر يبكي وحيداً) ـ "سنة سارة". يريد أن يقول ذلك لامرأة في الذاكرة مخاطباً (ولدت لأضيعك) ـ "سنة سارة" حيث يضيع كل شيء في الأضغاث والكوابيس (ستصلك أشجار عزلتي) ـ "كفجر يلثغ". كل ذلك يأخذ محور الذات الخاص والعام، الكل في الواحد والواحد في الكل حيث هموم جلجامش "الشاعر الذاتية في زمن الحرب "إجازته، وصيته، ساعته، جواز سفره". الهم الذاتي العام الهارب إلى الداخل دائماً وإلى المجهول حيناً، ولكنها إلى روحانية المتنسك بمادية الجسد "الميت ـ الحي". فلن يبقى إلا أن (يلغي مواعيده مع الله) ـ "ساعته". تجسد الحصار الداخلي بالخارجي أو العكس على قاعدة الوفاء المر ومن خلال عاطفة تشرئب بآلامها (اهذي بلادي؟! بلادي التي لم أرها ولم تغنِّ باسمي، وكنت فيها، وكانت تحاصرني فاخترتها، لكي أتكاثر خارج الظل) ـ "الموت بين نهرين".

مرثية الوطن الذي اختاره تكتمل بلا شك بهؤلاء الذين كأنهم تبددوا في الذكريات دون خيار في الحرب. ترى مظلوم في قصيدة "هؤلاء أنا" يتطارح نفسه فيكون إياهم ويكونون إياه (أشخاص كانوا أنا) ـ "هؤلاء أنا". يتجسد في ماضيه وحاضره عندما كان لاعب كرة ومدرساً وسائق دبابة قبل أن تضيَّع حياته (في الممرات) ـ "هؤلاء أنا". يتأملهم من خلالهم (خلاله) وخلال ماض لا يكتمل إلا بمرارة ذكريات لحظات الصمت العابرة بين التفجيرات ثم تتبدد وتتلاشى. هذا البعث التقسيمي يبدو جريئاً كما في أشياء جلجامش ـ الشاعر ـ "جواز سفره وساعته.. الخ" ويؤدي بلا ريب إلى محاولة قد تنمي لاحقاً لتأخذ أسلوباً يترسخ بتنوع المضامين. إن ذات الشاعر وماضيه يتداخلان بذات الآخرين وماضيهم حتى وإن لم يبرز بشكل مباشر أحياناً. نلاحظه مرة ونحسه مرة أخرى في حصاد الآمال لشباب اكتمل عودهم، وفي لذاعة اليأس وبكائية النفس (نفسه) (ها أنا نار تنتشر باليأس) ـ "صدمة ليل"، وتقود إلى نوع من قدرية يعيشها الشاعر نفسه وكأنه (موعود "أنا" بالوقوف على المرتفعات البعيدة) ـ "وصيته" الذات المعتملة بأرق الماضي نجدها في "لاعب الكرة" و"تعداد" حربي، وهناك (أشخاص مختلفون وأرقام الجنود) ـ "لاعب الكرة". كذلك في (سائق الدبابة) المجند في الحاضر الحربي ـ وفي "مدرس العربية" في كردستان العراقية والحضور الضامر المستتر فـ(حاضره "مظلوم" مستتر تقديره كان) ـ "مدرس العربية".

الحلم ـ أضغاثه ـ رقابة الموت

الذات الحية المستجدة في موت جلجامش وفي جنازته تخترق فرقعة الحرب بأحلام اللحظات، وتتجاوز خندقه المخاوف بأماكن محلقة وتستريح في أضغاث الماضي ووجوه نساء تتوزع خارطة ذاكرة الشاعر. نراها في قصيدة "صدمة ليل" المقطعية حيث الحلم المهدور وهموم الليل والصحوة المسلوبة، وانكسار الذكرى العائلية (فأرى عن يميني طفلاً أسميه أخي، وعن يساري أختاً أسميها أمي) ـ "صدمة ليل". هذا الحلم الشخصي يختلط بالهم العراقي منذ فجر سومر حيث يكون (بين ضفتين تختلطان فيَّ) ـ "ذلك الشتاء". الحلم ولو للحظة هو استرجاع الماضي والانصراف إلى الذات قليلاً، وبارقة محبة تتجمر داخل النفس وتوق عامر بالشوق "مهداة إلى فاطمة": أن تكوني أول من اقبّلها كل سنة) ـ "سنة سارة". هو حلم بـ"نساء من كل الجهات"، ومتكرر للمرة الألف في لحظات، ومنتظر برحيق الحياة والورد كله (انتظرتك بالورود كلها) ـ "سنة سارة"، غلا أنه أضغاث حلم لأنها (لم تأت بكل الفصول) ـ "سنة سارة". وبقدر ما ينتظرها للمرة الألف يفقدها للمرة الألف ـ "سنة سارة"، ولن تبقى في النهاية إلا ظلالك ـ "سنة سارة". هذا السرور المؤقت والمحلق بالحصول على المرأة يضمحل دون إرادته (وبعد لم أحصل عليك) ـ "جسدك المأهول بالبط". يتحول إلى وصف صامت على شريك الرغبة (أصفك دون أن يمسك الكلام) ـ "جسدك المأهول بالبط". إنها أحلام الذات العراقية المتجزئة على خيال عابر حيث احتراق المشاهد والنخلة والضفتين والعراق. مفازات من الانكسار وظلال العبور إلى الموت. ويعود الحلم ليتحول إلى إحساس يومي مسروق من أتون الحرب، ولتصبح المرأة حالمة تنوب عن الذاكرة بجمالية مأخوذة بتعليل النفس (ينام وتحلم عنه.. وفي الصباح تغسل وجهها نيابة عنه) ـ "ساعته". هو تحصيل حاصل لاتقاد الذهن ومحاصرة النساء ـ الحلم يتنقل خيالياً ويتعدد من فاطمة إلى خديجة، ويتوق إلى ماء الحياة على يد عشتار لإنقاذ تموز في أزلية التماثل. ولكن عشتار ـ المرأة ـ التي سكنت الذاكرة مراقبة بالحروب والمتاريس، نجدها خارج الصورة (أما أنتِ أنت التي لم تصلي فلم تصلي بعد) ـ "خارج الصورة". ولكنه أمل ما بوصولها وإيمان بدورة سومر الأبدية. وبقدر ما يتحول البدء في صورة الحلم إلى فضاءات مجنحة في اللا واقع إلا واقع الذاكرة، ويوم يتجسد الحلم بالمطارحة يتلاشى الزمان والمكان والكتابة الشعر أي الانصراف إلى الذاكرة كلياً خارج المحسوسات (ويوم أحلت له نفسها لم يكن ليل ولم يكن نهار، ولم يكن كتاب) ـ "حين كتب"، فإن النهاية بعد المطارحة والتلاقح تتجسد برجوع قانون الحياة الطبيعي وحركتها ودورتها المحسوسة والكتابة اليومية (وكان ليل وكان نهار، وكان الكتاب) ـ "حين كتب".

إن تلك التفصيلات التي آليتُ الخوض فيها في قصيدة محمد مظلوم تعطي ولو تصوراً محدداً عن ماهية ومضمون وشكل هذه القصيدة الواعدة بالتجدد والجريئة في تكنيكها ومضامينها، سيما وأن الشاعر لا يألو جهداً من اختطاط مسار من الصعب اختطاطه بسهولة ـ هذا المسار الذي يبقى محاولة للخروج من مأزق سيادة الأسماء الكبيرة مستفيداً بلا شك من تجارب الآخرين وقدراته الذاتية ـ كما أن وجود الأسماء الكبيرة لا تشكل برأيي رادعاً للقصيدة الشبابية من أن تتجرأ في تعاملها التجريبي مع الشعر. وأملي أن يواصل محمد مظلوم محاولاته في بناء قصيدته دون خوف بروح متأنية متفاعلة، وتكثيف تركيبتها وملحميتها وذهنيتها، والانتباه إلى بعض الشراك في التعامل مع الصور سيما وأنه يمتلك حساً وخيالاً شعرياً قادراً على البنا

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر