في مجموعته "النائم وسيرته معارك"

محمد مظلوم يرفع الشعر عن وحول الأرض إلى سماء الحلم النظيفة

مجلة قرطاس العدد ـ 46 ـ 1999

النائم وسيرته معارك، محمد مظلوم، دار الكنوز الأدبية: 1998، 111 صفحة.

عرض: د. أديب حسن محمد

يكاد الشعر يختصر بالأسئلة، أو كما يقول الشاعر سليم بركات: الشعر هو الشك، مادمت أكتبه فأنا منهوب بالشك.

والشاعر العراقي محمد مظلوم يثير كعادته في مجموعته  الشعرية الرابعة "النائم وسيرته معارك" أسئلة حادة: ما تلك الطاقة التي تحوك الكلام شعراً؟! يحفر الجوارح، ويثير أمواج التأويل والادكار. وما السر الذي يجعل من حروف تتراصف في هندسة معينة، تحرق الأعصاب، وتفجر براكين الغياب، وتغير نظم القلب، وتعمر الروح بأمطار الحبور.

إن الجواب يظل متوارياً خلف الكلمات التي يعجنها الشاعر بمداد مخيلته المنهوبة بجيوش الحزن، ومحمد مظلوم أمين على مفاتيح البوح التي بين أصابع قصائده، فهو فارس مغمور يستل سيفه الوردي من غمده النائم، ويجابه به القبح والظلم، فاتحاً في جدار الزمن شباكاً فسيحاً للقصيدة المتوهجة في عتمات الروح: كمن يتعقب آثار المطر الذي مشى تحته الرعاة

أنا أكتب المشاغبات (ص7)

فالأسئلة قدر الشعراء، ومفرداتهم الأشياء التي لا تتشكل إلا بالخوف، ومشاكساتهم هي التي تكشف الحجب أمام أرواح مغمورة لا تحيا ولا تموت:

أجتهد في كتابة الملل،

حتى يشع التراب بين أظافري،

ويرتمي خارج حدائقي الدخان،

حتى أرى لحم الملائكة هابطاً،

بزنابيل ومظلات (ص30).

وعندما ينام الشاعر، تكون لنومه رائحة أجراس حزينة، ولطالما كان الشاعر يهجس بأحلام إنسان محطم، مطرود، من المجد، فهو يستعيد تفاصيله وأجزاءه كل حين:

كأنه كثيرون ولا أحد،

مشتمل بنار،

وحرائقه هؤلاء المتشابهون (ص18).

حتى في سطوة شروده، لا يفتأ ينبش قيعان أعماقه، محاولاً رصد نبضها، وتعقب ظلوعها المزمن في إحداثيات حياة غائبة. ثم هو خاسر يرمي بنرده إلى الهاوية، ويجرح قلبه لقراءة بريد السماء للطيور، أو لالتقاط حجر من فم الأرض. قبيلة من أسئلة، وفم مشرع على المشاغبات، ودم يضحك حتى الفجيعة:

لم يكن الماضي بيتي،

لأشعل مكتبتي وأسعل حبراً ينسى،

وليس حاضري معطفاً

أتنزه فيه بين أمطار مشبوهة (ص27)

إن اهتمام محمد مظلوم بالتفاصيل، يمتع القارئ ويشركه في عملية الخلق الجديد للنص على صورة لم يقدرها الشاعر، والمقدرة الواضحة على اصطياد عبارات مغايرة تساعد الشاعر على السير في الاتجاه المعاكس لحركة الجسد، فالانزياحات في قصائده شلالات أسئلة، وأنهار مدهشة، نغتسل فيها من أدران المألوف والمكرر:

وها أنا أتسلق النسيان

لأسترد ناراً غير مسكونة

أتسلق النسيان ليوصلني إلى هضبة عويلي! (ص34)

بهذا الاحتدام المنساب حميماً من نواة الشعر الساكنة خلية الشاعر، يتحول الكلام إلى صواعق تفجر الذكريات التي تؤرخ ذكرى الإنسان المتلاحم مع تربة الأرض منذ الأزل.

هو محمد مظلوم.. الآشوري السومري، البابلي.. الغائب، المتأخر، أسير المحابر، والمقابر، والمقاهي، والمشاكسات المتناثرة في عواصم الضجيج.

يجرحنا محمد.. برايات الحقيقة الحزينة العارية، التي يرفعها في وجه أقنعة الأحياء، وابتساماتهم المؤقتة:

غريب،

بينما الغابات

تنسج عريها من إثم طيني،

والهواء

يلم من كتب الطبيعة حبر سيرته،

ويحرث في عيوني عتمة لهروبه (ص47).

وتتألق خلال القصائد الأماكن والذكريات، فترتدي ثوب الدهشة والافتتان، من خلال صور حادة، متوترة تقض أسرتنا وتكسر صخور رتابتنا.

ويبدو الشاعر في مجموعته هذه عاشقاً للتشابيه، ومولعاً بتقريب الفكرة من خلال فكرة أكثر إدهاشاً، يدلق أحزانه الساخنة فوق جسد غربته وينقسم على نفسه:

الماضي عيناه حرتان

كما لو أنه أعمى

ليت لي هذه النهايات

لأبدأ مرة أخرى!! (ص78)

عندما تتداخل الأشياء وتلتبس المعاني، وحين يلوك المنفى ظله يمتطي الشاعر تأملاته، ويمضي هائماً خلف حنين تائه:

هنا كل شيء هناك

سوى أن فيَّ سواي وأني كثير من الغائبين

سوى أن فاطمة استرجعتني من الشبهات

بلا إخوة كاذبين

سوى أنني أتفاوض في الطرقات مع الميتين (ص81).

إن محمد مظلوم في مجموعة "النائم وسيرته معارك" يرفع الشعر عن وحول الأرض ومستنقعاتها وشرائعها الوصولية إلى سماء الحلم العالية النظيفة.  

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر