مجموعة "المتأخر" كتابة.. بالبياض على جدار القلب

د. أديب حسن محمد

جريدة الثورة السورية  16/1/1998

 

الهواء نفسه، ضيق ساخن، والطرقات ذاتها، سوى أنها ليست هي، والأنفاق بظلامها المزدحم، والجسور بتاريخها الماكر، والطعام بمذاقه المفقود، والنساء باحتمالهن المؤجل، والجميع بما جمعوا من المحال المؤكد!.

بهذه الكلمات يفتتح الشاعر العراقي محمد مظلوم نشيده "تحت سماء مثقوبة". محمد مظلوم هذا المتأخر عن القافلة المنفرد بسمائه يحاورها، يمشط نجومها بدراية وحرص، المنشغل عن الضجيج الخارجي بالإنصات إلى دوي أعماقه الشعرية.

متأخر دائماً، تأخر المفكر المعتزل، تأخر النشيد الموجع إذ يرتب مدارج الهواء لقيامة آتية.

في شعره، ننحاز بروحنا مع القصائد في انزياحاتها الزمكانية التي تغزل الكلمات، آهات، ووشياً، على جدار القلب، نعاينه بعيون وجداننا، وننساق مع فتنة الإصغاء، نرد التسميات إلى الأشجار، ونرقع الفشل بالكلام، ونتمسك بحبل أبيض ينجينا من حبر النسيان "المدافع محبرة تلاحق جثة الهواء/ لترسم بالدوي عرياً أسود". ص10

مع المتأخر نشعر بخيول الشعر تقطع سهوب أعماقنا المنسية، أشياؤه هي أشياؤنا، كلماته هي كلماتنا، لكنه حانق حيث تثير أعصابه الرهفة جلبة لنملة تطقطق أصابعها، أو حفيف لغبار يغير غطاء سريره.

"اصنع من رسائلي حبراً لمدافن الصمت/ وعيني إلى الغابة/ وهي تستعد لحصد بريد المتوقع/ بينما تفقد الغيمة قبعتها في الطريق إلي" ص16.

والصورة الشعرية متصاعدة الحس متوترة، بعيدة عن التقريرية التصويرية قريبة من نواة الأشياء من خلال استنباط لغوي لهيئات جديدة يمتزج فيها الانتصار والهزيمة، فتولد الأشياء، وتنوس في مدار الشاعر:

"بعد لم أولد/ وهذه الحياة/ رسالة أكتبها لامرأة لم أجدها". ص17.

إنه شفاف، في غاية الصدق مع ذاته ومع كلماته، مما يولد متعة.. فالشعر إن لم يمتع لا يكون شعراً، وقطعاً هذه المتعة ليست مجانية، لكنها تتولد من خلال إشراكنا ـ كقراء ـ في المغامرة الشعرية وانجرافنا مع التحدي الذي من صلبه يولد الكائن الشرعي المطارد الذي يقف بقامته وحيداً في هواء الرفض:

"استمر/ واقفاً أعد التوابيت التي لم تعد لقامتي/ استمر../ في الكتابة ضد الهواء المؤرخ/ في محاصرة الماضي الهارب من تابوته/ في الالتجاء إلى الكناية الغائبة/ في انتظار المرشحين للنسيان". ص19.

هذا هو الشاعر "المتأخر" الذي يرزم الأمكنة، الشاعر الذي يقف وسط طرائقه.. بلا زائرين ولا حشية تمجد زهوره.

هذه الشعرية تدهشنا في هندستها القائمة على قدرة فنية متميزة في ترتيب الحدث الشعري.. ووضعه موضع الإدهاش والخلق:

"دائماً كالتوابيت الغريبة/ أتلفت لعراك أعيادي في الصحراء/ كخيبة المفاتيح.. استمر/ كأمطار ترقع الذكريات بأزهار صدئة!" ص23.

وفي انسجامنا مع الشعر، نجد صعوبة في انتقاء قصيدة بعينها، لندل عليها بأصابع جراحنا، ونقول: هذه أجمل، أو هذه أوجع، أو هذه أبلغ. فالقصيدة عند محمد مظلوم بعيدة عن التفاوت والخلخلة، والتضاريس.

إنها ذات خط بياني يبدأ فيها محمد شاعراً، وينتهي شاعراً. وبين البدء والنهاية مساحة مملوءة عن آخرها بالرؤى:

"رجال يتركون حياتهم تنافس الماضي خلف سكك الوقت/ نساء يملأن بريد السماء بالثرثرات/ أحلام لا تنام".

وهكذا حتى نصل مع الشاعر إلى نوع من الاستشفاف المدروس واللا واعي في آن واحد للأشياء من خلال أسلوب ينفرد به الشاعر الذي يتأبط موته:

"موتي تحت إبطي/ ويدي توزع الزهور وتعزي حياتي/ أكتب كلمة/ وأحدس موتي ماكثاً في الكلمة التالية/ الكتابة إعادة للمستقبل" ص29.

وكقراء تحيرنا غرابة السبك، فلا ندري هل هي ذهنية أم تلقائية أم الاثنين معاً.. تذوبان في تربة القصيدة، ولعل هذا التمازج هو من خصائص تجربة محمد مظلوم التي تختلط فيها أنماط مختلفة من الأهواء، مثل الصوفية، والوجودية، والرومانسية، والغرائبية.

ولكي ندل على ذلك نقرأ:

"ما حياتي إن لم أصف غيابها

إن لم أمسح دم الذكرى عن خناجر الحاضر

برايات بيضاء

معزول عن بريد نومك وهذا انتظاري الحالم

مكنيني يا فصول من سياجك الذي يطارد أبناء صحرائي الذهبية

حشدي المصائد يا نهارات عصياني

لأطيح بالأمطار التي توجز فوضى الغيوم النائمة على عجل

يا بدايات هل ظلام يداك لأعرف جثتي" ص30.

الرومانسية:

"معزول عن بريد نومك.. وهذا انتظاري الحالم".

الغرائبية:

"مكنيني يا فصول من سياجك الذي يطارد أبناء صحرائي الذهبية".

الصوفية: "ما حياتي إن لم أصف غيابها".

الوجودية: "يا بدايات هل ظلام يداك لأعرف جثتي؟".

وفي توغلنا مع الشاعر في أدغال النصوص نكتشف في كل خطوة هواء جديداً، كلاماً وعراً، ودراما تتصاعد من حولنا لتأخذنا إلى المجهول، إنها رحلة مشوقة في حدائق غريبة معلقة بسماء شاهقة:

"أرضي مؤجلة وما أنا عليه الآن سواد الهروب اللاحق

عندما أشبه أحداً

أحرم أحلامي من التنزه في الهواء

الهواء الذي يتقاطع على غياب ليس لي". ص36

إننا لا نستطيع بشكل من الأشكال أن ندعي بأن هذه الغرائبية مفتعلة ومغلقة، بل هي طبعة دقيقة، أمينة، وصادقة لجوانب في أعماقنا لم يصلها الإدراك بعد.

أما الإيقاع الدرامي في قصائده، فموضوع بحيث يتدرج من الانفراج إلى التأزم مع ترك المشهد مفتوحاً على احتمالات هي حقيقة الباطن، ولنقرأ من قصيدة "إرث المعزول":

"موائد/ غير أن الهواء يحمل كره حامليه/ أقصد/ الملثمين بالثأر الفائت/ وعلى عيونهم أقفال الكتب المهدومة/ موائد/ فوقها مخلفات ما يوحي بخطة لإعدام الربيع المقبل/ بينما رقعة الشطرنج، والمسدس الرمادي.. ينتظران المطر!!" ص37.

بهذا الوصف النابض الدقيق، بهذه الحساسية المرهفة يحملنا الشاعر على الارتقاب والقلق فمن اتكاء مدروس على كلمة موائد ينتقل بالحدس صعوداً، من الهواء، الذي يحمل ما يحمل من انكسارات.

إلى خطة لإعدام الربيع المقبل، وانتهاء برقعة الشطرنج والمسدس الذي اختار له اللون الرمادي، والكل قلق يرتقب المطر.

ويلون الشاعر قصائده فينتقل من المقطع ـ الومضة القائمة على الصورة الواحدة في كناياتها المتعددة، إلى النص النثري المفتوح، الذي يشده إلى الثرثرة الغابرة عن أشياء لن تحدث:

"استريح أيضاً من أغطية الفكرة، وأتحسس قلبها بعماي/ أهرب هذه المرة من أظلة الفرحين وأريح انتظاري الحالم على كرسي مهمل فوق سطح الماضي" ص55.

وكما يبدع الشاعر في نثره، فيوقع الكلام في غرام التوهج، فإنه يكمل الإنشاد، بالإيقاع الذي يحن به الشاعر إلى طفولته الأولى فيقدم موسيقا لا تطغى على روح النص، إذ يبقى للنص رونقه ولنقرأ مثلاً "رؤيا الغياب الأول" التي تسير على تفعيلة المتقارب:

"أنا نسل نهرين مرا/ وظل الطريق/ يفسر للراحلين خطاي: بهمة ورد وجرأة ناي/ تقصيت عنك/ وجدتك نهراً/وأجلتني في مساي/ فسبحان ماءك حين تفجر/ وحين تخثر/ ويوم يصير رماد هواي" ص133.

أو كما في قصيدة "وجه لقناع الغائب" التي تسير على تفعيلة المتدارك:

"مازلت تدون سيرتك العمياء/ لتعلن عند هبوط القمر المطعون/ بأنك لم تولد/ وبأن الأرض المومس أنثاك" ص109.

وواضح بأن الشاعر بهذا يكمل تشكيلة لوحته ويمنحها شساعة قلما نجدها في شعرنا المعاصر، منتقلاً بين اللفظة النثرية والإيقاعية والجمل السهلة التي لا تقع في المباشرة، موظفاً التراث الديني توظيفاً محكماً إضافة إلى ترصيع نصوصه بالمشاهد التاريخية العريقة وتقمصها:

"أنا الركن المؤثث بالخرائب/ أتخيل الموتى بياضاً في جدار القلب/ فلذت بالألواح، واستنفذت كل ذخائري، إلا البنفسج والعصا، فأنا التحول، حكمتي نزقي.. وأسئلتي حصى".

يفكر بيديه ويتكلم بقدمه في الحذاء الضيق: "الوردة خلف الظلام تخطط لاغتيال هوائي/ وتدرب الهواء على الجلوس فوق كتفي".

هذه عينة من الصور الجميلة التي تزخر بها مجموعة "المتأخر" إنها صور تدعوننا إلى التأمل وتقلب جمر أفكارنا، تاركة الفرصة لنا للاسترخاء حيناً والانفعال أحايين.

صور تمتلئ بنبض جديد، حرص الشاعر على ترسيخه في مجموعته والتي كانت بحق من التنوع والإدهاش بحيث استمتعنا مع الشاعر في دواخلها.

إنها مجموعة مختلفة حقاً، من الغلاف الأسود الأنيق إلى المقدمات النثرية التي افتتح بها الشاعر نصوصه، والعناوين التي جمعت بين الغرابة والحداثة، إلى التنويع الشكلي، من الومضة الخاطفة والقصائد الطويلة ذات البنية الملحمية وبين النثر المطلق، والتفعيلة، بين التراث المتجذر، وبين الحاضر القلق.

محمد مظلوم في "المتأخر" شاعر مغامر وقياف ماهر للكلمات، وحارس أمين على كنوز الشعر، ومتورط في الجمال حتى الثمالة، وهو الذي يقول: "كما في المرة القادمة أصل/ متأخراً!!". ص36.

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر