محمد مظلوم (محمد والذين معه)

محمد تركي النصار

جريدة بغداد ـ العدد 208 ـ  29/11/1996

 

تثير مجموعة محمد مظلوم الأخيرة (محمد والذين معه) السؤال المحدد التالي: هل ان التبدد والتلاشي بالمقارنة مع الثيمات الشعرية المتداولة يكفيان لتبرير الوجود الإنساني شعراً أثناء الإقامة على هذه الأرض، أم أن الإقامة ذاتها تحرض الشاعر لابتكار المزيد من الأسئلة لقلقلة هذا الوجود وإثارة الريبة حول المفهومات المتماهية معه!! هكذا تغدو الحوارية الشعرية منجماً للمزيد من حالات الإفشاء أو استيهام هذا الإفشاء بعبارة أكثر دقة. فالتجربة الشعرية كما أراها في تجليها الأكثر أصالة تأكيد جوهري لعزلة تغالب حنيناً مشبوهاً لتحطيم حجابها وتمزيق حبستها الباهظة، وبدلاً من هذا الخيار الهش، المباح، يتبدى النص الشعري فريداً في غربته، أقرب إلى خطاب الجنون لكنه ضروري، له علة تشبه علة الوجود نفسه مع إضافة حيرة أخرى تنشأ من صراع الكائن مع اللغة بوصفها امتداداً مؤسساتياً شاملاً، أعني أن اللغة تستغل عاهاتها المغروزة في الدم البشري وتحولات نشأته وصولاً إلى نضج الوعي والحساسية الشعرية.

وهكذا يقف الشاعر في جهة لغته منابزاً هذا العالم وللأخير أسماء أخرى: سلسلة الوقائع، وهو أيضاً مجموعة حطامات وأحوال تداع فريدة، والعالم أيضاً هو الفراغ المزدحم أي التاريخ على حد تعبير أحد الكتاب. فهل تكفي صرخات الاحتجاج بلغة السيف وسياقات العشيرة والمفردات التي تمتحفت.

وسؤال أكثر إقلاقاً: هل يمكن للشعر أن يكون حجة لمقارعة لا تحتملها طبيعته بوصفه خطاباً خاصاً أم أنه خيار جد فردي للذود عن شفافية الإنسان ضد عمليات التمسيخ والتلطيخ المتلاحقة! أنا أميل إلى اعتبار الشعر ملجأ.

ومن موج التراث وفيه تطلع تجربة محمد مظلوم لكنها سباحة حرة، ربما لا تبررها سوى شهقات الضياع حيث يتذبذب الكائن في حركته بين خيارين لم يخترهما وتلك مفارقته الغابرة، والطازجة باستمرار أيضاً. فلا الموت يكتمل ليشفي الكائن من هذا اللهب الأسود الذي.. عن إشهار الملح من ضروراتها الفاهية، التي تتآكل الوجود وتهدم بهاءه.

وفي هذا يستدل الشاعر على عماه، على مقلوب البصيرة حين تظهر بروقها مثل أطياف تحرس من بعده، سكناه المضطربة بين الصقيع، تتبدى التجربة الشعرية والحالة هذه مثالاً خاطفاً لوجود ضائع، لكينونة انطمرت أو غيبت عقاباً على إثم التواجد في هذه الأراضي البور.

هل سؤال الشعر يجترح معضلة ضرورية أم أنه يكتفي بإلفات الضوء على إثم التواجد في هذه الأراضي البور.

هل سؤال الشعر يجترح معضلة ضرورية أم أنه يكتفي بإلفات الضوء المدمى في سيرورة الظلام. شعر محمد مظلوم دخول في المتاهة بعدة من الأرض التي تتلاحق فيها الحوادث وعمليات التدمير، حيث نرى كائناً يتذكر وجوده الآخر داخل متاهات يهدمها باستمرار على أنقاض ملله ويأسه وتلك خاصية شعرية أصيلة، خاصية اللعب البريء لكنه اللعب الواعي أيضاً، وعياً لتاريخ أحمر يصنعه طغاة بقفازات ويبررون فيه أحلافاً تصنع الموت المجاني والكوارث التي تخنق الهواء! ليس ثمة شيء مقدس في تجربة محمد مظلوم سواء في هذه المجموعة أو في مجموعتيه السابقتين، إنها ـ أي التجربة ـ تبرر وضعها بالمزيد من الحفر على دم حار ساقط من أثر الفريسة التي سُحلت وتم دفنها خلسة هناك، وليس من عودة في هذه التجربة لأنها ذهاب من اللا مكان إلى اللا مكان وهي أيضاً أرهاص بإمكان ما، مستعص على الظهور، تأكيد للغربة، تهديد للموت، حنين مضرج بالرغبة غير المستهلكة ريبة لا تنفك عن التعالي ضد أباطرة مزيفين ووجودات مزورة. اعلان للتوبة عن خيانة مستمرة أمام امرأة الحلم المستحيلة تأكيد لهوية غامضة لكنها مهمشة بما يشبه الفضيحة في عالم التوازنات الوقحة الصلفة.

هذه ملامح عامة عن تجربة محمد مظلوم في ديوانه الأخير (محمد والذين معه).

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر