البنية الموشورية

قراءة في ديوان "غير منصوص عليه" ارتكابات لمحمد مظلوم

قراءة: سهيل نجم  ـ "الثورة اليمنية"

 

في قراءة هذا الديوان لا يمكن أن تدعي أي نوعية من القراءة أنها القراءة الشاملة الواقية ـ المحللة للنصوص التي فيه.. وعليه افترض هنا أننا أمام بنية استعارية جديدة تستعصي على القراءات التي ألفناها في تناول النص الشعري.. إنها بنية ليس من السهل تصنيفها ضمن أبواب مضمونية أو شكلية محددة ما لم تتهشم تجربتها الحداثوية.

وأفترض أيضاً أن ثمة بنية موشورية مفتوحة لمختلف ألوان التأويل من خلال زوايا النظر المختلفة وان زاوية النظر الأحادية تحتم سذاجة وضيق نظر لا محيد عنهما.

هنا محاولة للتحاور مع داخلية نصوص هذا الديوان دلالياً على أن هذا التحاور يبني شرعيته من انعكاس تجربة قراءة النص ولا يعتمد على إيضاح سافر للمعنى أو على منهج معد سلفاً.

في هذا الديوان تقتحمنا اللغة دون أن تنتظرنا كي ندخل في طياتها هكذا تريدنا أن نعيش إشاراتها دون انغماس في ابتذال الوضوح .. يطرق الشاعر أبواب خطابه فيستحث قدرة المجاز على المعرفة من خلال لملمة شظايا النداء الشعري ويظل القارئ في هذا البنية الجديدة غارقاً في بحثه المضني عن عبث التفسير.. فلا تفسير يمكن أن يسبر غور الكلام الذاهب أبعد من معناه المتوقع إن التجربة هنا تحاول تحد لما يسمى بالمعنى بل لوعدنا إلى إليوت واستعرنا منه نظرية المعادل الموضوعي لوجدنا تمثلاً واضحاً لهذه النظرية في البنية الشعرية هنا أن التناقض المركب يكمن في بين الصورة الشعرية والانفعال الشعري فيسير بذلك القول الشعري وكأنه يسري إسراء بين شرايين اللغة.

في النهار الذي لم يحدث أكمن في الكلام الذي لم أقله

إيضاح مرتفع على أن أجتازه لأعانق التأويل.. لم أمتلك نسياني فأحدث عن حياتي وبلا ذكريات لأندم. (ص10).

إن الأشياء تصبح رموزاً واستعارات ويتبدى لنا الشعور الذاتي وكأنه منعزل عن الشاعر.. هكذا تتعقد البنية في تأسيس تعادلاتها الموضوعية.. اللا مرئي يتخذ من المرئي صورة له يتخفى خلفها معلناً عن بوحه البعيد والعميق في الدلالة إن من الصعب حقاً مجاراة هذا الخطاب إلى مداه البعيد ذلك لأنه يعطي لنفسه حق التموضع في اغتراب اللغة عن مألوفيتها ومن هنا يدخل الشاعر في مغامرة لم تألفها اللغة.

وتنوع الذات في صورتها كي تخلق تفردها، ضمن حك آخر جديد للتداول تمركز الدلالات هويتها من تمفصلها حتى عن ذاتها المشروخة التابعة:

أنقذ حياتي من جذام المرايا

أنقذها من انهيار مؤكد

بأسنان الأزهار ارقش المجهول

لأمنع موتي من الانتظار

ارتديت نظارة سوداء

متهيئاً للمعانك

بأظافر تشع بالريبة

انهش قميص الغياب وارتد إلى حدائقي

ويكون التداخل بين التجربة واللغة خالقاً لعلاقة فاضحة للخدعة التي طالما سميناها الحياة وهي ليست كذلك. ويوافينا هذا التداخل بقميص جديد يشبه قميص الملك العاري. إن الكلام يتحول إلى كائن تفور في داخله اللغة ـ التجربة التي تمزج في ثناياها التقريري مع الرمزي تمازجاً أخاذاً:

هذه ليست حياة

وكان أن مزق صورة العائد من أعياد لم تسفر

عن حياته في الخيمة الصفراء

نفكك أحلامنا بحثاً عن نوم تام

عن نهار نعيشه تماماً

عن هواء مختلف

نحن الهاربين خارج الربيع

حضورنا محايد وننتظر العهد المغلوب. ص(29)

وكذلك:

"مفقودة أعمارنا في الذهاب إلى معسكرات العزلة ومزارع الانتظار مفقودون في إعلانات منسية ينقلها هواء رث إلى اليابسة وليس ثمة ما يصلح للحديث سوى التخلي عن وصاياي". (ص48).

على أن التراجيديا هي أعمق ما يمكن لنا أن نحياه ولهذا تعمقت محورياً في التجربة واللغة فماذا إذا كانت كارثية يعلن طوفانها انسحاق تزامنية المرتجى والمعاش فإنها سرعان ما تجد تشكلها بعتمتها البيضاء إنها لتبدو وكأن بنيتها الاستعارية المتضادة السوداء الساطعة لا تحتاج إلا لقناص مبدع كي تعلن ذاتها بحرارتها المعهودة إنها التراجيديا الرثائية المغسولة بالنواح يخطف الشاعر حركيتها وتحولاتها محتفياً بها حتى تحين اللحظة فيحشد دلالاته ويخرج متجاوزاً كل خيباتها قاصداً التواصل مع الضد:

نرسل في البريد أعيادنا لتحتفظ أيدينا بالمراثي عند مصافحة الفرحين..

الآن أين والجنوب أعزل من وشاية الربيع، الجنوب عتمة بيضاء تستقر في ذاكرتي الجنوب جميع أراملي العانسات الجنوب فترة مهزومة إلى ساحل عاطل الجنوب كفن أسود لمحاربي القرى المستترة الجنوب شابة تلتذ بانحنائها على زرع ميت، الجنوب أدلة محجوبة على أن الغيمة شقيقة للغيمة وتصغرها بسبع سنوات، الجنوب غابة من نهار محايد وعليَّ اقتسامها مع الربيع الجنوب صحراء والأفعى مرتين وفي المساء أعلن الطوفان أطلق الحمامة التي تستقر على مقبرة ولا تعود ومع هذا استيقظ في السادسة أحلق ذقني وأسرح شعري وأرتب ربطة عنقي وأخرج لملامسة الفرح وتسمية الأشياء.

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر