"غير منصوص عليه":

كتابات عن صدمة اللغة بنفسها

 كمال سبتي جريدة "الحياة" 18/9/1993

 

 

الكتاب: "غير منصوص عليه"

الكاتب: محمد مظلوم

الناشر: دار الحضارة الجديدة ـ بيروت

لم يبق الشعر، تلك الأغنية القصيرة، الموزونة، المقفاة، ولا تلك الومضة الخاطفة، المتلمسة تضاداً مع ما هو معلوم. إنه شيء أكبر من كل هذا: هجر تام لتقاليد الكتابة المتوارثة. ولركاكة اللغة الناتجة عن التقليد البائس للترجمة العربية للشعر الأجنبي.

أكتب هذا، وأنا أقرأ المجموعة الأولى للشاعر العراقي محمد مظلوم (أحد شعراء الكتابة الجديدة في العراق ـ يعيش حالياً في دمشق)، المعنونة "غير منصوص عليه ـ ارتكابات".

ترفض الكتابة الجديدة في العراق، أن تسمى "قصيدة النثر" لسببين: الأول يتعلق بالمصطلح نفسه، والثاني يتعلق بتاريخية هذا النمط من الكتابة في الشعر العربي. أثار هذا حيرة بالغة لدى النقاد، ولدى من تصدى لهذه الكتابة، إذ كان من الصعب على هؤلاء أن لا يسموا كتابة تهجر الوزن بـ"قصيدة النثر" وكان القارئ العربي، ولأسباب تخص الوضع الثقافي العراقي ـ الرازح تحت سلطة رقابية صارمة ـ لا يستطيع الاطلاع على الكتابة الجديدة في الشعر العراقي، إلا بصعوبة، وعبر طرق جد ضيقة. غير أن هروب عدد من شعراء هذه الكتابة من العراق، بعد الحرب مع ايران، أو بعد حرب الخليج، وإصدارهم مجموعات شعرية في منافيهم الجديدة، ساعد القارئ العربي ـ إلى حد ما ـ على تكوين صورة أشبه ما تكون بالواضحة، عما أحدث من ثورة كتابية في الشعر العراقي.

"النهار كاسد، والكلمات الملونة تتسابق خارج البياض، ملابس النساء واجهات المحلات، الباصات وأعدّ  الرماد للسطو على قارب الملح وإغلاق السواد على غيم كثير، اللحظة شيخ يتنازل عن عصاه، فأشاهد الغائب نيابة عني، والسجان أصفادي التي تدخل المبنى نيابة عني، واشاهد السبايا في الباص، يغادرن أيامهن، أو في الكليات يخلعن قمصانهن، أو في السوق ينابزن باعة السمك، وأصغي إلى ذهب أحمر يهطل من لحم مشمس في ربيع مفقود، أنا المحذوف بالتكرار، لكنهم راسخون في التقويس، أسماؤهم مطري، وأعيادهم ندمي، والمزارع صفقت لي، خاسراً، أهلاً بالسعة التي نجت مني، أهلاً بالفضة التي تلتهم الفرق بين الصحراء والسوق، السوق التي لم أعد أرى فيها العباءات السود لأصرخ: يا أمي".

تقصّدنا أن نورد مقطعاً طويلاً نسبياً من إحدى قصائد المجموعة، لكي ندلل على أن الشاعر يستنجد بعلاقات أخرى، مضادة لتلك التي تسود كتابات كثيرة، كي يخرج بها إلى هذا العالم بريئاً. والثقافة الشخصية كلها، الذي يشكل التراث جزءاً مهماً منها، تتحول هنا إلى رؤى ومشاهدات لطفل مدهوش بكل ما يرى، وبكل ما يعرف في الوقت نفسه. وحين يشي النص بتلك العلاقات اللغوية الساعية إلى "القصيدة الأخرى" فإنما يؤكد محاولة التخلص مما دعوناه ذات مرة "الشكل الزائد للمخيلة".

ليس ثمة شكل للكتابة الجديدة، كما أنها ألغت من ذاكرتها تلك الجملة البائسة "العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون" والتي شكلها مسعى دائم لكسر كل قانون.. وهنا يحاول محمد مظلوم، أن يحقق شيئاً من هذا، فما لا يبدو شعراً في الشارع، وما لا يبدو شعراً في اللغة، يمكن أن يكون شعراً صافياً، حيث ترى الكتابة الجديدة: أن لا الحياة رئيت كما ينبغي، ولا اللغة التي قتلتها القرون البلاغية الطويلة:

"ولذا فابتداء من الآن، وإلى أن أتذكر أنني أول الخارجين من باب المقبرة، سأبقى أتحدث بلسان الشاهدة".

أو:

"ما هو السبب الذي يدعوني إلى محاجبة فتاة في سني بأنها أمي؟".

أو:

"الإحساس ذاته تولد في، عندما التقيت بصديق قديم ولم أتذكر اسمه، مما جعلني أتساءل عن جدوى اسمي".

أو:

"الجنوب جميع أراملي العانسات، الجنوب فترة مهزومة إلى ساحة عاطل، الجنوب كفن أسود، لمحاربي القرى المستترة، الجنوب شابة تلتذ بانحنائها على زرع ميت، الجنوب أدلة محجوبة على أن الغيمة شقيقة للغيمة وتصغرها بسبع سنوات".

"غير منصوص عليه ـ ارتكابات" بحث في اللغة والحياة، بحث في اللغة: عما ليس من اللغة في شيء، وفي الحياة: عما يرى، ولكنه لا يرى:

"بكيت حين انتبهت إلى وجود نافذة ثالثة في البيت".

إنها صدمة اللغة بنفسها، صدمة تشي بمقدرة على تكوين عالم الرائي المغاير. وتلك سمة المجموعة التي يستطيع أن يتلمسها القارئ سريعاً. والأمر يتعلق هنا بالجملة الشعرية نفسها، التي تتكون آنياً، إذ أن موروثها الكتابي، هو موروث متشكل تواً. جملة تسعى إلى مغادرة كل تسمية، وفي سعيها هذا، تنشد شعراً، لا يخاطب أحداً، لا يقول شيئاً. ما يتمناه هو تحقيق ماهيته، فحسب:

"ليختلط اللغز، وتنفض الطيور غبار دموعها، ولتنم حدائق السكاكين، لتنم مقاهي المواعيد القصيرة، ولتسافر قوارب المتأخرين عن المعارك والمصحات التي تنتشر في ظلام حياتنا، ليختلط اللغز، ولكن مقابل ذلك، لي أن أقول: "ماذا تحت لسانك أيها القصاب؟".

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر