عزلة الشاعر

عبد الهادي سعدون مجلة "الاغتراب الأدبي" العدد 36/ 1997

 

عبر ثلاثة دواوين شعرية صدرت منذ عام 1991 حتى اليوم، يخلق محمد مظلوم عالمه الشعري بحسه الصوفي ذي النزهة السوريالية (ربما قد غذتها تجربته الغنية في دراسة علوم الدين في فترة سابقة)، رغم أن الفاصل بينهما قد يتلاشى ضمن خصوصية الثقافة الذاتية للشاعر نفسه، إذ يحرك محمد مظلوم بقعة الضوء عن مدار الحس الإنساني والبحث عن الذات في تصوف البيت الشعري (إذا جاز التعبير). هنا يحاول محمد مظلوم عبر كتابه الشعري الأخير "محمد والذين معه" 1996 في بناء مشهده الخاص غير البعيد عن التجربة الذاتية الواقعية لخشوع الشعر ومفرداته في متون ديوانه الأخير، ان ما يتجاوزه الشاعر من مرحلة الكشف السري العام إلى محطة اختزال الكشف للخاص، يمنحها سمة الدخول في أقاليم أكثر شفافية، متلاصقة ومحددة في إيلاج الذاكرة المؤجلة للخرابات الذاتية: ألبوم الصور المؤجلة حتى لا يفضح العين لمعان دموع الوجع لذكرى قمقمية تتطاول كل يوم. ان سيرته الشعرية "محمد والذين معه" تختار نقاطاً واضحة من ثوب غربته الفضفاض لتصب ثقلها في رموز وأماكن وشخوص من تأجيلات عزلة الشاعر:

"في السفر إليك

لم يكن معي غيرك

أيها السفر إليه

لم أستدل على طرقي إلا لأتشتت

في مواجهات مع آثار مخادعة"

ينقسم كتاب مظلوم الأخير إلى ثلاثة إيقاعات هي: موت كلكامش، جنازة المفقود، ونساء من كل الجهات. ورغم تمديدها في أقسام تتلاقى لتفترق، فإن الهم الحاضر في غربة الشاعر يتأرجح بين قصيدة وأخرى في متون الديوان بأكمله.

محمد مظلوم في مواجهته لخزين البوم الدمع يحتاج مسميات أكثر انكشافاً لإدخالها في واقعية شعره، إن أسماء مثل كلكامش، حرب، لاجئون، الغام، سفر، جثث، رسائل، مدينة الثورة قطاع 50، الدبابات، الخنادق.. الخ) ذات مغزى في عين الرائي وتندرج في حرفيات الشخصي الدال:

"صديقي أيها الموت

لم تصلني رسائلك

مع أنني أرسلها دائماً".

كلكامش يتنازع جلده مع الآخر حتى تكتمل صورتاهما في ورق خشن يستعيدان به ذكريات مترابطة رغم النأي وألم فضح الداخل:

"كلكامش لم يحظ بموته في المرآة،

فخرج إلى نومه حياً وبكامل حروبه

حيث سبعون أنكيدو وأكثر، تركهم نائمين،

من أول الفرات إلى شرق دجلة".

ديوانه الأخير (محمد والذين معه) لا ينأى عن متتاليات الصور والمرجعيات وتقارب الأساليب الشعرية عن ديوانيه السابقين: "غير منصوص عليه" 1992، "المتأخر" 1994، إلا أنه يجتاز منحدر المغامرة إلى صورة الشاعر الواثق، الموحي باعتداد النفس، الشاسع والمتمكن من أدوات شاعريته. يقول:

"لا تنتهي جملي عندما أتكلم!

ذلك أنني أثب بين بدايات متعددة

ولا أمضي إلى آخر المعنى!

ولا أمضي إلى آخر النهار،

فجراح التتمات تتمة أيضاً وفمها مفتوح".

إننا لا يمكن أن نفي جيل الثمانينات حقه في مقال واحد أو اثنين، إذ أن أصواته الهامة وخزينها وخبرة شعرائها المتنوعة والمليئة في حياة متطاولة ما بين الوطن والمنفى تحدد علينا العودة لها في مقالات أخرى لاحقة، نتناول عبرها أصواتاً أخرى ذات أهمية بارزة في خارطة الشعر العراقي الذي لا ينضب أبداً وكأنه عشبة خلود هذا الشعب.

مدريد ـ اسبانيا

 

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر