عابراً بين مرايا الشبهات

عدنان الصائغ صحيفة "آخر خبر" عمان

العدد 103

الاثنين 7/2/1994

الثلاثاء 8/2/1994

 

عرفت مظلوم في الثمانينات، وكانت الحرب في أشد أوارها، أشياء كثيرة تجمعني معه وتفرقني عنه:

نلتقي في المنتديات الأدبية، ونفترق إلى الجبهات، نتفق في وجه الشعر، نختلف في مفاهيم الحداثة، نتشتت في الوطن، ونجتمع في المنافي، نأتلف في المحبة، ونفترق في الأصدقاء والمشاكسات، وبينهما يظل مظلوم من أكثر الأصدقاء الذين أحببتهم، إخلاصاً للتجربة وصدقاً في الوجع، وتوهجاً في الشعر.

بعد ديوانه الأول "غير منصوص عليه ـ 1992 بيروت" يواصل الشاعر العراقي محمد مظلوم تأسيسه لعالم شعري يقوم على أنقاض عالم منهار، من خلال رؤيا حداثوية مغايرة تبلورت أكثر في ديوانه الجديد "المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات" الذي صدر مؤخراً عن دار الكنوز الأدبية في بيروت.

ابتداء، يستوقفك هوس الشاعر في تركيب فضاء النص خارج أطر التكوينات الشعرية السائدة، تركيباً كلامياً، لكنه لا يعتمد على الشكل وحده، وحين يخونه التوصيل (رغم أنه لا يعنيه كثيراً) يتشتت بين عناوينه، في محاولة من  جهة لاختراق نصه منه أكثر من جهة، فهو لا يكتفي بالعنوان الواحد أحياناً دالاً على ما هو خارج المنصوص، لاحظ معي: شبهات الخروج ولا أحد، وتحته مباشرة عنوان بارز: المتأخر مبكراً، حيث تتفرع منه القصائد: تحت سماء مثقوبة، أعياد متنكرة، مراثي المؤجلين، وهذه القصيدة الأخيرة تتفرع إلى إرث المعزول، إرث المجنون، إرث المنتحر.. وهكذا..

إن محاولة الاتكاء هذه أشبه بتشييد أعمدة رخامية وسط صحراء لا يستدل منها القارئ العادي إلى شيء، وهذا الغموض هو مأزق الشاعر الحديث وليس مأزق مظلوم وحده.

"مشاغل القطار، رغبة النهار في التلفت قبل المغامرة

والوصية التي تنظف الرسائل

حريق معلب في وجدان شاعر

استدلوا عليه بأدويته إذن، ولا ترثوا عصيانه

علقوا سلاسل غيمه في غرفة الدرس".

هل كان استخدام اللغة بحد ذاتها عنصراً للوصول إلى الشعر على حد تعبير "بندتوكروتشه": "إن أي استخدام للغة هو بحد ذاته شعر، وبالتالي يكون عمل الشاعر هو هندسة اللغة وفق أشكال متجددة، مبهرة، إلا أن مارسيل بروست يقول: ان المتعة التي يتيحها لنا الفنان، انه يجعلنا نرى عالماً إضافياً"، بل ان ايديث ستويل تذهب أبعد من ذلك في تحديد هوية الشعر التي لا تحدد من خلال المفهوم الإنساني، بالاعتماد على المضمون أيضاً، وليس على الشكل وحده، قائلة: "الشعر ضوء الصباح العظيم الذي من خلاله نرى الكائنات التي تمر أمامنا مثالاً لكل الجمال، وكل البهجة وكل الحزن العميق" إن في داخل مظلوم حزناً عميقاً تشي به جمله السود الضاربة عميقاً في الجرح الإنساني لكنه ولخشيته من السقوط في دبق المباشرة، نراه يحلق بعيداً في فضاءات التشكيل، لغة وتراكيباً وأخيلة، في إيقاع متصاعد أقرب إلى السلم السمفوني سواء جاءت قصائده، نثرية أو ذات تفعيلة. لذلك تجد جراحه مغطاة بغيوم شفيفة لا تبدو للوهلة الأولى:

"الحياة ليست هزائمي..

ما من نخلة تتلفت لأدعي أنها أمي

ما من بريد لكي أؤرخ أيامي

ما من صمت بعيد واسود فأغتالها

إذن.. ألبس قفاز حروبي، وأصافحها".

لقد اختار المظلوم المنفى وطناً، وهذا ما تشي به قصائده اللاحقة التي كتبها بعد رحيله عام 1991، لكن الأكثر دهشة أنك تجده في قصائده التي كتبها في الوطن أكثر نفياً، وإحساساً بالغربة، وهذه معادلة صعبة لا يفهمها إلا الخارجون من الجحيم:

"كانت الطائرات تنظف السماء

من ذكريات الطيور

ليكتب الطيارون بدلاً عنها

أسماء حبيباتهم".

لكنه لا يعتمد على لغة الوصف، آفة القصيدة الحديثة، بل يعتمد التلميح لغة تشير إلى المحذوف من النص رغم قوله: "ما حياتي إن لم أصف غيابها" أي ما حذفه الرقيب منها، أو ما حذفه هو منها مكتفياً بما وراء اللغة ـ ميتافيزيقيا اللغة ـ إذا جاز التعبير، "الكلمات أيضاً، حصى نردي به غراب الأسئلة" وصولاً إلى معناه "معنى الشاعر الخفي وهو يواجه شراسة العالم ولا معقوليته أحياناً، خارجاً من حروب عقيمة باتجاه ما تبقى له من الحلم، حلم الشاعر بيوتوبياه".

 

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر