شعر في المرآة رعش

مع عنوان قصيدة محمد مظلوم "مدن في المرايا ندم"

د. عابد اسماعيل: المنتدى العدد الثاني/ السنة الأولى كانون أول 1996

 

كل إشارة Sign هي مرآة بوجهين: دال Signifier ومدلول Signified تماماً كمثل مرآة الشاعر مظلوم بوجهيها

مدن/ ندم.

مدن هناك هي خارج فيزيائي ساكن سرعان ما يتكثف متحولاً إلى داخل هلامي متحرك أسماه الشاعر ندم.

المرآة هنا هي فاصل لا مرئي بين خارج مؤقت يفقد فضاءه بالتدريج وبين داخل شفاف ما يفتأ يوسع سماءه، أي هي حالة الفيزياء المؤلفة من حروف ثلاثة م د ن وهي تشف وتنحلّ في درجة الصقل القصوى المؤلفة بدورها من حروف ثلاثة:

ن د م.

المسافة معدومة بين مدن/ ندم داخل حدقة المرآة، إلا أن مدن المؤلفة من نفس الخلايا اللغوية هي تكوّن ندم تتعرض لتحول شامل Transformation يبدل من ماهيتها.

ثمة رحلة لا تقطع أية مسافة ـ لانعدام المسافة أصلاً ـ هي رحلة الحروف الثلاثة م د ن باتجاه نقيضها ن د م الداخل في صلبها إلى درجة التماهي، كأنما تذهب هذه الحروف لتعود وتسكن ظلالها الثلاثية المعكوسة على ماء ألق على شكل مرآة.

الكثرة المكانية المكونة لكينونة مدن تتعرض لتصدع يصيب اسمنتها التحتي جراء ما زلزلها أثناء مرورها المريب عبر موشورها الذاتي، إذ معادلة الشاعر تنص:

أنا/ في المرآة/ أنا

وأنا هنا ليست أنا واحدية عزلاء بل أنا كثيرة هي حاصل الأنا الأولى مضافاً إليها الأنا الثانية، المرآة.

مدن رأيناها تتزلزل من الداخل مبدلة ملامحها الهندسية في رحلة تبدأ من أنا وتنتهي في أنا، بمعنى أنها لا تبدأ ولا تنتهي، أنا/ مدن في المرآة أنا/ ندم.

ما يقف بين ندم ومدن ليست الواو بل أنا الشاعر التي هي مرآته باعتباره خزافاً بالغ الندم.

مدن في بهائها المكاني تنسحب إلى ندم في هبائه الكريستالي الباهظ باعتباره تدويناً جوانياً صرفاً.

أنا/ في المرآة/ أنا يمكن ترجمتها بتصرف إلى مدن في المرآة ندم. إنها معادلتي عن رحلة لا ميتافيزيقية تبدأ من بداية لا بداية لها وتنتهي إلى نهاية تأخذ في المرآة شكل البداية.

أنا رغم كوني أنا لست أنا في كيمياء المرآة والتي ـ أي المرآة ـ هي في الواقع أنا. أي:

أنا/ في أنا/ أنا

مع ملاحظة أن أنا أثناء عبورها خلال أنا تفقد أناها كلية، تماماً مثلما تفقد مدن جوهرها إلى ندم.

في المرآة أنا لا تشبه أنا بالرغم من وهم التشابه، إذ مدن لا تشبه ندم بالطبع بالرغم من تشابه الحروف.

الشاعر ذاته هو أنا داخل المسافة المعدومة بين أناه الأولى وأناه الثانية =

أنا ـ أنا ـ أنا

كأنما هو عناق لائب بين أنا وأنا جراء عملية حلول خفية بين نقيضين لإنتاج نقيض "ثالث" أسماه مظلوم ندم.

أنا تسكن الفيزياء الذي تسكنه مدن قبل حلولها إلى الميتافيزياء ندم الذي تسكنه أنا.

إنها الإشارة بحديها الدال والمدلول وقد ولّدت إشارة ثالثة هجينة لا هوية لها، إذ:

"أنا في سفري إلى أنا عبر أنا لست أنا" أو بشكل آخر، "أنا في سفرها إلى أنا عبر أنا ليست أنا".

كأنما هذا السفر الناقص الذي ينتهي لحظة بدايته هو ما يشكل الفعل الشعري الأعلى لدى مظلوم.

لكننا في هذا النوع من السفر نشم رائحة الموت، موت الشاعر كـ"أنا مبدعة وحلوله التام إلى أنا لغوية مبدعة. يشهد العنوان إذن غياب الكائن وحضور الكينونة، غياب أنا/ مدن وحضور أنا/ ندم.. أي نشهد غياب الشاعر وحضور الشعر.

لاحظ، مثلاً، أن مظلوم/ في المرآة/ مولظم. وهذا الصدى المنبعث م و ل ظ م هو حضور صوتي خالص، كأنما نسمع ذبذبات الهواء، أو نصغي لرجع الخَرَس.

إذن، إن هي إلا مدن صدّعها زلزال اللغة إلى ندم.

ومظلوم يحدق في المرآة ليشهد أنتولوحيا هبائه، هبائه المنقطع النظير الذي يأخذ شكل حشرجة مكتومة على شكل م و لو ظ م.

ما تراه الأنا الأولى متحققاً في أناها الثانية هو أناها الثالثة التي هي موتها، ومظلوم يؤكد هذه الحقيقة/ الوهم في ختام فراغه الأخير:

أنا/ في المرآة/ أنا

كرعشة من يموت

الموت الذي هو رعشة الشعر الأخيرة، وعنوان الشاعر شاهدة من الكريستال يسقط فوقها ضوء الهباء العالي، الموت.

كأنما رعش في المرآة شعر.

* القصيدة من ديوان "المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات" (ص21)

ــ

 

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر