عناوين الغياب في قصائد المظلوم

تهامة الجندي  "الهدف"

الأحد 11 آب 1996

العدد 1244

 

الكتاب: محمد والذين معه

مجموعة شعرية من القطع المتوسط في 96صفحة

المؤلف: محمد مظلوم

الناشر: كراس 1996

انطق من فرصة مهجورة لأقول أنا شريدك أيتها الحرب،

والنساء سجون لا يدفئن خرسي (ص42).

طالعاً من رائحة الحرب والوطن البعيد، موغلاً في تفاصيل الغياب، ينثر المظلوم أوجاعه قصائد تبحث عن علاقات جديدة، في مجموعته الأخيرة "محمد والذين معه" وهي الثالثة له بعد "غير منصوص عليه ـ ارتكابات"، و"المتأخر عابراً بين مرايا الشبهات".

محمد المظلوم شاعر وصحفي عراقي، بدأت تجربته الشعرية في أوائل الثمانينات، ومع أنه كتب الشعر العمودي، وشعر التفعيلة إلا أنه التزم أخيراً بقصيدة النثر، ومجموعته الأخيرة هذه ليست إلا امتداد طبيعياً لما بدأه في مجموعته الأولى الصادرة عام 1993، بمعنى أنها لا تعبر عن نقلة نوعية بقدر ما تضيء عوالم أخرى من تجربته الإبداعية التي تؤسس لمناخ شعري خاص يميزه.

منذ العنوان "محمد والذين معه" نشم رائحة انفصال الأنا عن المحيط والآخرين، رائحة تتأكد كلما أوغلنا في صور المجموعة التي تنسج خطاها في الهامش على وقع الغياب، وتتصاعد في بناء فلسفي يشير إلى قوانين واقع مفروض يلغي أسباب الفعل والحضور.. واستشهد بهذا المقطع الذي يبني صورة على أساس من قواعد النحو مجازاً لها أن تشي بقواعد المنطق والفكر.

حاضره مستتر تقديره كان،

ويداه وبلا تأكيد ـ تصفان غياب أجراسه،

وهو يخرج من سماء تعرب المجهول (ص50)

تتولد صور المظلوم الشعرية من خيال خصب يستحضر مخزون الذاكرة الشخصية والجمعية ـ التاريخية برموزها الأسطورية والدينية، ليمارس نوعاً من امتدادات طبيعية لصورة حية شفافة تضرب في عمق الجذور..

(أبحث فيك عن وصية السومريين لي/ فلو نظرت في صورتي التي التقطتها لي/ قبل 8000 سنة/ ستجدين شخصاً كان يفكر فيك!) ص70.

وتنطلق صوره من منطقه تمتزج فيها التجربة الذهنية بالحسية، ثم تبنى على أساس من مبدأ التضاد أو الحالة التي تنتج نقيضها وتوضحه (تنشط حياتنا بالخوف/ ونتوقف!) وفي ذلك استناد لمنطق جدلي معرفي ـ جمالي قديم يوظفه المظلوم بعناية في تخطيط لغوي متين، فتأتي صوره محتشدة المعاني والدلالات مضاءة، لكنها عصية على الإمساك وكأنه يوضح فعله هذا حين يقول:

لا تنتهي جملي عندما أتكلم!

ذلك أنني أثب بين بدايات متعددة

ولا أمضي إلى آخر المعنى!

ولا أمضي إلى آخر النهار،

فجراح التتمات تتمة أيضاً وفمها مفتوح (ص63).

تطل المرأة من لغة المظلوم مرآة لغيابه ومنفاه، تارة تظهر في تعب البحث والانتظار، وأخرى في ألم الاختلاف واللا قدرة على التواصل، مرآة تعكس صوراً غريبة لعلاقة مؤجلة بين قطبي الحياة تستكمل وتؤكد عطالة الوجود.

ستقولين: جاء بعد أوانه، وعاد دون إدلاء!

ستقولين: تجمع خلف عناوينه الهاربة، ومر (ص72).

إنه غياب اللحظة وانكفاء الفعل في لوحة مزركشة للعدم.

انتظرتك بالورود كلها،

واعتذرت بكل الفصول (ص74)

مناخ المجموعة جنائزي مزدحم بألوان الموت والافتقاد يقترب في طقسه من كربلاء، حيث يسعى نحو تطهر ذاتي عبر تكثيف رموز الألم، أما الإيقاع العام فيأتينا بطيئاً محتشداً بتوتره الداخلي يتدفق حزناً شفيفاً وعميقاً، يذكرنا بموسيقى نينوى وكل ما بثته بلاد الرافدين من حزن دفين عبر موسيقاها وأغانيها، وهذا يجعل من نصوص المظلوم مادة صعبة وعصية على التلقي السهل والسريع، لكنها تتكشف لدى القراءة المتأنية عبر منظومة فلسفية متكاملة لرؤى معرفية جمالية تعكس عمق موهبة الشاعر وتفرده وتؤكد قدرته على الاستمرار.

 

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر