قراءة في مرايا الذات والعالم

 

حسين نصر الله مجلة "الكفاح العربي العدد 941 تاريخ 12/8/1996

الكتاب: محمد والذين معه (شعر)

تأليف: محمد مظلوم

الناشر: سلسلة إصدارات كراس.

طبعة أولى 1996

 

الموت، والمنفى والنسيان والاغتيال والخسارة، عماد هذه المجموعة الشعرية التي اختار لها الشاعر عنواناً فرعياً (موت كلكامش عن إيابه بلا صحراء). ونحن هنا أمام شعر الاعتراف، الذي يصنع الذات أمام المرايا، ويصف مآسيها في عالم اجتاحته النوائب. هذا الشعر، يحاكم الحاضر، ويعري أوهامه وآماله الكاذبة في المستقبل، ويواجه قيم الواقع، على ضوء الكوارث والحروب، ليقول بتلاشي الأمل الساذج في مستقبل إنساني ومثالي. يقول: "في ما مضى، أخذني منك أصدقاء فرحون بمراث لا تستحقهم، كم مرة ناديتني، أتذكر. كان صوتك يتدحرج في منحدرات غامضة، وهو يلقي علي وصية الكامنين في منعطف صغير، أتذكر.. "عندما ـ نحن رهائن المستقبل ـ تلثمنا بملاحمنا وعدنا فضيق السنة الأخيرة". هكذا يشكل الشاعر في العواطف والمشاعر إزاء واقع قاس مجرد من كل عاطفة وتجانس، كأنه يجرد الشعر من عاداته القديمة. ويطرح علينا أسئلته المصيرية هذه الكتابة تصدر عن شاعر متوحد مع نفسه، وعن طاقات تميل إلى التصادم والتصارع، أكثر مما تميل إلى الانضواء تحت لواء حركة أو مدرسة متجانسة. دائماً القصيدة عند محمد مظلوم، في حركة دائمة وتحول لا يعرف الراحة والاستقرار. فالشاعر يعيش فوق الأرض بعينين مفتوحتين تدركانها وتستوعبانها، ومثل هذا الشعر، يعتني بالتفاصيل الموضوعية والواقعية، ويعتني أيضاً بظواهر أخرى متعددة الأبعاد والمستويات. لكن رغم هذا الاعتناء بالظواهر، سرعان ما يحتمي بالصمت: "أعيد ترتيبك كي أستدل عليك.. فلا أتشكل"، "شيئاً فشيئاً ستضيق هذه الكلمات، حتى تمحي عندها ـ وليس عند ذلك! أصفك، دون أن يمسك الكلام". هكذا يقترب الشعر من صفاء الشكل، وينحاز إلى الاقتصاد في اللفظ، والابتعاد عن العواطف المسرفة. لكن هذا الأسلوب، لا ينتهي إلى التجرد ولا يقف عنده، بل سرعان ما تتحول القصيدة من الرمز إلى الواقع الملموس. وعند الشاعر النفاذ إلى سر العالم الذي تأتي منه. والقصيدة عند مظلوم هي سر الاقتراب من هذا العالم وتطويق أسراره بالكلمات. إنه شعر إنسان يشارك معاصريه آلامهم، شعر مكتوب للمحاربين في معارك خاسرة، للخائبين والتعساء، ولكل الذين عاشوا وخبروا بؤس العالم:

 الذين معي ملفقون، بينهم ملفقون، وردهم حجر، وغاباتهم ثمارها جمر. الغربان في قلوبهم، وعيونهم عناكب، ينكسرون في المساء مثل دمية وحيدة، ويبدلون حناجرهم في المرات. الذين معي، يهتزون خلف صورهم ولا ينكشفون.

هذا الشعر يعيش فوق الأرض وتحتها، داخل طبقاتها، وينحاز إلى حد الانبهار بالطبيعة، ويحضر الشعر من خلال الشجر والصخر والطير، ليصبح لحظة من تاريخ هذه الحيوات لدرجة التلاشي والذوبان داخلها. "انتظرتك بالورود كلها، واعتذرت بكل الفصول، بقي مني: هذا الذي لا وردة لانتظاري، ولا فصول لأعتذر. أتلقى غيابك، كمن يتسلى بدفن جثته، لذلك أراوغ في الاعتراف لنفسي، بأنك أيام ممحوة، ولا أتداول آثارها".

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر