محمد مظلوم:

بحروبه وعبوره وأعياه التائهة *

راسم المدهون "السفير الثقافي"

العدد 115

13/3/1998

لا يبتعد محمد مظلوم كثيراً عن قصائد مجموعاته الشعرية الثلاث "غير منصوص عليه ـ ارتكابات"، "المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات" و"محمد والذين معه"، التي صدرت كلها في السنوات القليلة الماضية خارج العراق، فدفعت به إلى مقدمة شعراء قصيدة النثر العراقيين. محمد مظلوم في قصائد هذه المجموعة يواصل تقديم ذاته من خلال قصائد تناوش الوحدة الفردية، لكن غير المعزولة هذه المرة عن ضوضاء المحيط، بما يجلبه هذا المحيط من أسباب إضافية للحزن:

"أشخاص مزدحمون

بما يشبه سجناً مهدداً بالوباء

أتأملهم من نوافذ برق ينتحر

أشخاص كانوا أنا

قبل أن أضيّعهم في الممرات".

تجربة محمد مظلوم هي الأكثر نضجاً بين شعراء المجموعة الخمسة، هذه التجربة التي تستفيد من منجز قصيدة النثر العربية في مختلف أقطارها وتؤسس ملامحها الخاصة. محمد مظلوم يبدو خلال قصيدته مزدحماً بالأسئلة التي تنفتح على فضاءات شعرية أكثر تشابكاً وأكثر رحابة في الوقت ذاته. قصيدته لا تسلم مفاتيحها بسهولة ويسر، بل هي تدفع قارئها إلى التوغل الفاعل فيها من خلال إعادة تركيب مفرداتها وصورها في مخيلته من جديد، أو إذا شئنا الدقة، إعادة كتابتها على إيقاعه الخاص:

"هذا الشجر أثماره أحزان

لكأن قوارب الهاربين

توابيت عيد فاسد".

تشبه قصيدة محمد مظلوم جدلاً شعرياً لا يتوقف مع العالم المحيط، كما هي تعيد هضم هموم المنفى ومآسي الوطن وتبعثها مرة أخرى ممهورة بدم التجربة الذاتية التي لا تركن إلى قوة الحدث وفاعليته بل تعمل بدأب على تجديد نفسها من خلال تجريبية لا تتوقف عند منجز إلا لكي تنهض لتجاوزه من جديد. تطفح من حواف هذه القصائد مفردات تعبق بالأسود وتشيع منها رائحة الحداد الدائم المنبعث من جنازات القتلى وأحزان الأمهات الثكلى. ومع ذلك، فإن جمالية هذه القصائد إنما تكمن في قدرتها على مراوغة ما في هذه الموضوعات من ميلودرامية والإفلات إلى تكوينات شعرية فيها الكثير من الدرامية ذات الوشائج الحارة، والتي تطمح إلى أن تكون بلاغتها مستمدة من بنيتها الكاملة، لا من هذه الصورة الشعرية أو تلك المفردة، فالإيقاع الخارجي إذ يدعه الشاعر جانباً، تعوضه بنية شعرية تقوم على السردية مرة وعلى المونولوغ الهذياني مرات أخرى.

"ولا أسميه

لولا أنه يتهجاني

في بياض كامل

دائماً الرجل الخاسر،

أصعد السلم

وفي يدي رسائل معدة للتأجيل

بينما أتأمل في الأسفل ابتعادي".

في مجموعاته الشعرية الثلاث السابقة، قدم محمد مظلوم قصائد فيها الكثير من الانتباه لأهمية التكوينات المشهدية، المزدحمة بصوت مفرد، ولكن في حالة حوار دائم مع المحيط والآخرين، مع الزمن والذكريات، تكوينات تعصف في عمقها وأطرافها أحزان ذات وشائج قوية بكل ما يشد الروح إلى مكوناتها وعناصرها القديمة. يبدو الماضي في قصائد محمد مظلوم راهناً تستحضره القصيدة من سكونه وعزلته في زوايا الذاكرة، تحاوره من جديد، وهو هنا يواصل هذا الإنشاد الخشن بكل ما في نغماته المتعددة من إصغاء للهواجس الفردية غير البعيدة عن الحزن العام، ولكن الأمنية على فرادة الروح القلقة في بحثها المضني عن ألفة ما، لا تتحقق مع المكان المفقود بكل ما يعنيه فقدانه من خسارات للآخر الإنساني الذي نلمح ظلاله تتخايل في القصائد وصورها الشعرية، حتى حين يتحدث الشاعر عن نفسه بأسلوب المونولوغ، وكأنه يقول لنا أنه موجود بقدر ما هو يعيش ثنائية العلاقة مع ذلك الآخر. هذه الروح تبدو في قصائد محمد مظلوم الجديدة أكثر تكثيفاً فتمتلك شاعرية أكبر في مسيرة شاعر يعد بالكثير.

 * من مقالة حول تجربة خمسة شعراء عراقيين ـ مختارات الصادر عن دار الجندي بدمشق.. وضمت الشعراء زاهر الجيزاني ومحمد تركي النصار ومحمد مظلوم وحميد العقابي وكريم جواد

 

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر