"الكتابة ضد المؤرخ" أو

المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات

ناصر مؤنس

ضد المؤرخ

ضد الصرخة المدثرة بالكتابة، ضد الملثمين بالثأر الفائت، وعلى عيونهم أقفال الكتب المهدومة، ضد الماضي الواقف تحت سماء بلا إشاعات يأتي "المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات" ليعارض الإفادة المعلنة للشعر والصادرة عن المراجع الرسمية للكلام، فالقصيدة لم تعد مطبخاً قروياً مسكوناً بحيوانات ناطقة، لم تعد زهرة المصيبة التي توحي بالأمل والتي تشبه الجذر السحري الذي نما من بذره الإنسان المنتحر، هذا ما يجعلنا نحس في هذه المجموعة الشعرية الصادرة عن دار الكنوز الأدبية في بيروت للشاعر محمد مظلوم بأننا نقف خارج المؤرخ، خارج هذا الموت المتحرك، المنكسر، كأنها تقول لنا أن الكتابة ضد المؤرخ هي محاولة لإيقاف المحذوف وتثبيته، تماماً، أشبه بمن يوقف آلة تصوير متحركة ويثبت كادراً بعينه على الشاشة، لكننا حين نوقف حركة الكتابة لن يكون لدينا غير الصمت فحسب لا كتابة على الإطلاق، فالمحذوف يمكن أن يسجل الكتابة ولكنه أيضاً يمكن أن يسجل المحو بل انه في الواقع يفضل المحو، ولكي نقرأ قصيدة محمد مظلوم علينا أن نمسك بالمحذوف، نمسك بالصامت، ونمسك بما يقع خارج الكتاب، لكن المحذوف (غير منصوص عليه) كما جاء في مجموعة الشاعر الأولى، فكيف نتمكن من كتابته مادام كل ما نكتبه يقع خافتاً خارجنا، وما دامت الأشياء محكومة بذخيرة الكلمات، إذن، لابد لنا أن نطور أنواعاً أخرى من الرموز تلك التي لا يتمثل المعنى فيها بالصور التي تحددها الشفرات.

وفي مثل هذه الشفرات تتم كتابة ذلك العالم المراوغ للكلمات الذي يهيئ للوحدة مع الأشياء المتعالية، الأشياء التي تكسو كشوف الشاعر وتخلع عليها تلك الديمومة الرائعة، لهذا يستحيل النظر إلى هذه المجموعة من زاوية شعرية خالصة، في معزل عن السري والجوهري، يقول الشاعر: "أنا المحذوف، والمأمول، المتلو في ظل المقابر". (المتأخر ـ ص125)؟

أو:

"لأن الهواء

يفضح الكلام، وسعال البرق، وما  إلى ذلك من مكائد معلنة،

تبقى الرسائل.. صياغة سرية لتأويل المحذوف،

ويبقى الغياب ـ باستمرار ـ ألذ صورة للحضور!

وعندما ينشأ المحذوف مبتكراً ثراءه الشاسع

فإن ثمة ما يدون المحذوف خارج منشئه،

ثمة ما يخترق فضاء الحدس

ويقيم أعراسه حيث يدثر الصمت رائحته بالانتظار

ثمة ما يقوس الفراغ لعزله عن البياض التام

ثمة ما يستدرج البريد إلى الفراغات المقوسة في البياض، أيضاً،

ثمة ما ينحني لإرباك الأفق المنشغل بمراقبة العابرين.

لكن..

دائماً ليس ثمة من يؤول المحذوف في رسائل الساكت (المتأخر ـ ص56) كأنه يقول: لا أشاهد.. لا أكاشف.. بل أتفرد، وكأنه يضيف: لست أظهر.. لن أصول.. لكني أفهرس المكائد، قصيدته مغلقة في عالم خاص بها وهي في ذلك أشبه بأيقونة لفظية مرسومة بالكناية الغائبة التي تتزيا بالغائب في الوقت الذي هي شارته، لكنها تكشف في نفس الوقت أيضاً عن ذلك التشاكل بين المتناثر والمجرد والصامت، ولهذا ما أن يبدأ الشاعر سيرة نحو الكتابة والتي هي خريطة القول حتى يصرخ مذهولاً:

"ليس لي سوى غيوم منهكة يجرها ثعلب أعمى،

ليس لي سوى تقولات من يحرفون نومي".

(المتأخر ـ ص46)

إذن من هنا يعبر الشاعر بين مرايا الشبهات فوق حواجز الكلام، ليبدأ سفره مع المتأخرين من مسافري الكواكب حين يجوبون ـ بورع ـ المجرات المزينة بالبياسين والأحصنة وهم ينشدون الأناشيد العفيفة، فتتبعهم مصائد الأرواح، والممرات المسحورة، والبراهين التي قادت المحذوف خارج منشئه، لهذا قصائد هذا الشاعر تترك نفس انطباع نقوش النذر على جدران المعابد، ألهذا إشارته ممتلئة بأهازيج ومعانقات ويظهر المحو في مدوناته.

نحس في قصيدة محمد مظلوم ببهوين للكتابة، أحدهما في الخارج، والآخر في الداخل، والمعنى مختلف في كليهما، ونحن لم نكن نصغي لكتابتين فحسب بل كنا نسمع المتأخر، وهو يرزم الأمكنة أمكنة ظاهرة، تطلق أبواقها الفضية وهي بانتظار المرشحين للنسيان، وأخرى مختبئة في الداخل ترد بنفخ الآلات النحاسية وبصوت مدو لتكسر الكلمات العالية لعل الشاعر يصطاد فخاً دافئاً ينيم به غايته العائدة من فواتها.

وبما أن لكل الأمكنة فراغها الداخلي، فلا نفاجأ، إذن حين نرى محمد مظلوم يمضي بالنص المرئي إلى الفراغ المرئي، كأنه ينسج قصيدته من تكوين المبنى، ومن حروف اللين المفتوحة في حوائطه، وكأنه يضيف شكل الكلمة إلى الحجر العاري، وكأن الحجر يختصر الكثير من الصدى، وكأن حوائط القصيدة مملوءة بالمقصورات التي تطل على المتأخر وهو يطبع تصميماته على أسطح منحوتة من أجل أن تصبح الكلمات أشبه بالغرف التي يصممها المعماري.

وحين نصل إلى "لا نبوءة للبحر" آخر قصيدة في هذه المجموعة الشعرية فكأننا نصل إلى مهجع الشاعر الذي يشبه شرفه غنية بالنقوش يجلس فيها الشاعر مختلياً بكلماته الحميمة ليتهامس معها:

"لطفولة التاريخ،

المنفى المسور بالمعابد والصغير،

لرهط منشغلين عني بالندى للسيف

يكسر باب مقبرة ويبحث عن رفات الشيخ

أنذر جثتي، وأعد خسراني". (المتأخر ـ ص139)

بهذا يضع الشاعر محمد مظلوم آخر لمسة للمعماري في هذه القلعة الرائع، ولكن دون أن ينسى كيف يزخرف أبعد النقاط.

 

عودة الى آراء و دراسات في تجربة الشاعر