الشاعر محمد مظلوم:

انهارت الأسئلة القديمة فانبثق

شكل شعري جديد!

مجلة الشاهد

العدد 111

تشرين الثاني 1994

حاوره: فاضل الربيعي

 

كيف يفكر الجيل الشعري الجديد في العراق؟ قد تكشف قراءة متمعنة في أبرز الاتجاهات الشعرية اليوم، عن بوادر ثورة شعرية ثانية ليست بأقل صخباً من ثورة الشعر الحر. بيد أن الوقت وحده كفيل بإثبات ذلك أو دحضه. ومع هذا، فإن التجربة الجريئة لجيل شعري جديد في العراق جديرة بالدراسة لا بإصدار أية أحكام مسبقة. ومحمد مظلوم الشاعر العراقي المتميز يطرح أسئلة في السياق ذاته.

قلت لمحمد مظلوم:

ـ سأناقش معك وجهة النظر التالية: لقد بلغت ثورة الشعر الحر اليوم نهايتها مع التغير الشامل في شكل القصيدة العربية المعاصرة، تغيراً يكاد يقطع مع ماضيها القريب (من 1947 وحتى الستينات) ذلك يعني أن موجة جديدة، أكثر شعرية كما يقال، قد انطلقت، ويسمع صخبها على ضفاف الوطن العربي برمته. أليست هذه الموجة الشعرية الجديدة ضرباً من ضروب محاكاة الشعر الأوروبي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية؟ أي تماماً كما كان الشعر الحر نفسه، وذات يوم، نمطاً من المحاكاة عينها؟.

فقال:

* سؤالك يقود إلى أكثر من اتجاه، وينطوي على إثارات شتى، قبل أن يتحدد في موضوعة مرجعية الشعر الحديث. وعليه، أجد أن علي تعقب هذه الاتجاهات قبل أن أصل إلى البؤرة الرئيسية للسؤال: الشعر العربي الحديث، اندفع خلال العقد الأخير، نحو فضاءات أوسع واشمل مما كانت عليه الحال، ومنذ الثورة الشعرية الأولى التي ابتدأت مع السياب والرواد، وامتدت مقترحاتها التعبيرية لدى جيل مجلة "شعر" وأدونيس، بقي الزمن الشعري العربي يعيش إرهاصات التحول التالي، وأعتقد أن حدود قصيدة الشعر الحر وأخلاقيات كتابتها، امتدت بتأثيراتها حتى السبعينات، لتبدأ منذ الثمانينات مرحلة أخرى، مختلفة في الطبيعة والدرجة عما سبقها، إلا أنها لم تقطع معها قطعاً نهائياً.

وقائعياً، شهدت الثمانينات حدثين مهمين، كانت لهما تأثيراتهما السياسية والاجتماعية والثقافية في "المركز الشعري العربي" وهما الحرب العراقية ـ الإيرانية، والغزو الإسرائيلي للبنان. هذان الحدثان، بما أديا إليه من تقويض لصياغات سياسية واجتماعية وثقافية واهية، أحدثا، كذلك اختلالاً في العلاقة بين المثقف والخارج. هذا الاختلال الذي يراه "هيدجر" ضرورياً لانبثاق السؤال، لذا فإن انهيار الأسئلة القديمة وانبثاق أسئلة أخرى، ترتب عليه إبدال وتحول في الشكل الشعري ومضمونه معاً.

في الجانب الآخر، كان الانفتاح على الثقافة الأوروبية الحديثة (في العراق دار نشر رسمية خاصة بالترجمة هي دار المأمون) حيث نقلت إلى العربية مئات المؤلفات الباحثة في الفكر ونظريات الأدب وأخلاق القراءة وسواها. فكانت تفكيكية "ديريدا" وأفكار جوليا كريستيفا وجيرار جنيت عن النص، والكتابات الفلسفية الجديدة لجورج باتاي وموريس بلانشو وغيرهم، تحدث تحريضاً قوياً لدى الشعراء لهجر التعبير الشعري السائد. وكما ترى، فثمة أكثر من علامة تشير إلى التشابه بين ملامح الثورة الشعرية الأولى، وبوادر الثورة الشعرية الثانية، لجهة توافر الشرط الوقائعي التاريخي، وتزامنه مع الانفتاح على الآخر. غير أن ما أود التأكيد عليه، ان الانفتاح على الآخر بقصد مساءلته لا يعني بالضرورة التماهي في الآخر ومحاكاة لأنموذجه الشعري. أعتقد أن الشعر العربي الحديث، سواء بقصيدته الحرة أو بنصه الجديد، استفاد من الآخر، من أجل إقلاق اطمئنان الذات إلى ثقافتها وسؤالها.

ـ هل طرحت ـ إذاً ـ تجربة الشعر العراقي الحديث، على جيل شعري جديد في العراق، مسألة الاندفاع وراء تأسيس تجربة خاصة به لإنتاج شكل شعري يقطع أو (يفك الارتباط) مع الشكل الشعري السابق؟ ما هي ملامح هذه القطيعة؟ اللغة؟ الشكل؟ الموضوعات؟.

* في العراق، كما أشرت، كانت فترة الثمانينات ـ بما اختزنته ـ من كثافة وقائعية استدعت أسئلة أخرى ـ مؤهلة تماماً لاقتراح نص آخر. ولأن الشعر في العراق له خصوصيته في كل من النص والممارسة والتجربة، فقد كانت مسألة الأجيال الشعرية شكلاً من أشكال الحوار في جانب، والصراع في جانب آخر. وبما أن كل عقد زمني، يحتم ولادة جيل شعري جديد بحس تقاليد الشعر العراقي، فقد شهدت هذه الفترة حمى التجريب الشعري التي استغرقت بسخونتها النصف الأول من الثمانينات لتسفر في النصف الثاني عن تشكيل ملامح واضحة للنص الجديد داخل المشهد الشعري العراقي. هذا (النص الآخر) كتبه تيار شعري واضح، انطلق من اقتراحات السياب واحتمالاتها غير المكتوبة، واستفاد كذلك من اندفاعة شعراء الستينات نحو اقتراح تعبير مغاير، يتقاطع ليختلف مع الشعر الحر. وفي هذا الصدد كانت تجربة "جماعة كركوك" جذوة أخرى استدل بها الشعراء الجدد ليضيئوا سماء أخرى في أفق الشعر العراقي. وينبغي هنا أن نشير إلى أن هؤلاء الشعراء من جيلي السبعينات والثمانينات الذين سعوا إلى الانعطاف بالشعر والتغاير مع السائد، شكلاً ومضموناً، لا ينتمون إلى قصيدة النثر كما نقلها بعض الشعراء العرب عن أنموذجها الفرنسي بل انهم يتجنبون حتى تسمية قصيدة النثر في ما كتبوه من نصوص ومن آراء، ويميلون إلى تسميات أخرى من قبيل: القصيدة الجديدة، النص الآخر، النص المفتوح وسواها. وفي سعيهم هذا اشتغلوا على استعادة المفردة من كهوف البلاغة وإطلاقها في فضاء الحياة، كما حرروا الثقافة الشخصية من قيدها التذهيني إلى شكلها التجسيدي. لهذا، فبعد أن كان النص يحيا في البلاغة، صار مع هؤلاء الشعراء، يكشف عن البلاغة في الحياة، كما ينتبه إلى السيرة الشخصية ويسعى إلى تدوينها، ويسعى أيضاً إلى الإصغاء لصوت التجربة الشعورية.

لذلك تجد النص لديهم منفتحاً على التجربة الشخصية والحياة من جانب، وعلى الأجناس الأدبية الأخرى من جانب آخر، وفي انفتاحه هذا، يبدو النص وكأنه يتقصد اللا تشكل، ولعل ذلك صورة أخرى من صور تشظي الذات الكاتبة، كما يمتاز بهيمنة البنية السردية عليه، وتتراوح جملته بين التدوير والاستطالة الأفقية أحياناً، والتكثيف وإضمار القول حد المحو أحياناً أخرى.

الاحتفاء باللغة

ـ لكن تجربة هذا الجيل الجديد تطرح معضلة (اللغة) بما هي أساس الافتراق بين الشكلين؟ إننا نلاحظ ميلاً صريحاً نحو إنشاء القصيدة بوصفها شكلاً لغوياً. أي (لعبة شعرية). هل ينطوي الشعر على نوع من اللعبة؟.

* مهمة اللغة في هذا الشكل الشعري تصبح مزدوجة ـ ولعل في هذا الازدواج ما يجعلها صعبة نوعاً ما ـ إذ أن اللغة في العموم، لها وظيفة تعبيرية توصيلية، ولها كذلك مستوى تعبيري، ومع الثانية يسعى الشعر إلى إطلاق اللغة إلى أقصى مستوياتها دون تدمير مساراتها وازدواجها الثاني هو في المهمة حيث يجعلها تعمل في اتجاهين (محو وإثبات) فهي تمحو دلالات ما قبل لحظة الكتابة، وإثبات أو اقتراح دلالات ما بعد الكتابة ولسوف تبدو لنا ثنائية التجربة ـ التأليف سؤالاً ملتبساً في سعينا إلى توصيف الشغل اللغوي في النص الجديد. فالشعر في جانب كبير منه، ينطوي على صناعة ومهارة، وهو مشخص في النقد العربي القديم من خلال كتب بأسماء (صناعة الشعر) أو ( عيار الشعر) وغيرها مما يشير إلى أهمية المهارة والخبرة في تشكيل النص، وبما أننا أشرنا إلى أن النص الجديد هو محصلة انفتاح ثقافي معرفي شامل، فيمكننا تعيين اتجاهين في الاشتغال على اللغة، فثمة التجريب الحاد والاحتفاء باللغة وتشكيلاتها التي تنحو إلى التأسيس في كيمياء الفعل، حسب رامبو، وهذا الاتجاه متولد نتيجة التأثر بالشعر الفرنسي ـ إلى ذلك ثمة اللغة التي تتجه إلى الحياة اليومية لبناء النص وتعتمد على التجربة الشخصية وطبيعتها. وتميل إلى الالفة العميقة، وهو ما يتميز به الشعر الانكليزي.

النص الجديد في العراق ـ كما يبدو لي ـ تكمن فرادته في أنه ألغى هذه المسافة بين الاتجاهين (علماً أن لكل من الاتجاهين شعراء في العراق) وهو كما ترى نص صعب، يتطلب إلى جانب البراعة، رؤية عميقة وخاصة للثقافة والتراث.

مرجعيات النص وبراءته!

ـ هل توافقني على أن الشكل الشعري الذي أنتجته المخيلة العربية لا يزال أكثر فعالية وتأثيراً والتصاقاً بالبيئة الثقافية والاجتماعية والروحية العربية، من الشكل الأوروبي المستعار؟ هل (القالب الشعري التقليدي) هو العائق أم أن المسألة تكمن في تغير إيقاعات العصر والتي استوجبت تغييراً شاملاً في شكل القصيدة وإيقاعها، بما يضع ثقافتنا في قلب العصر والعالم؟.

* الشكل الشعري صفة، أكثر من كونه معياراً حداثياً، ومن هذا المنطلق فليس كل ما يكتب تحت لافتة (النص الجديد) هو حديث فعلاً. إن الإشكالية لا تكمن في الحدود الإيقاعية الموحية للشعر العمودي أو في التحرر من الشطر لصالح التفعيلة (الشعر الحر) أو في الانفتاح على لا نهائية الاختلاف (النص الجديد).

فالشاعر التقليدي وهو يحافظ على التوزيع الإيقاعي في قصيدته، إنما يكتب (قصيدته) بإيقاع الشعر لا بإيقاعه هو. وإذا كان إيقاع الشعر هو ذاته منذ أكثر من قرن ونصف فلنا أن نتخيل شكل الكتابة وهي تتحول إلى تذكر كل هذا التاريخ من الإيقاع. في حين كان ينبغي لها أن تتجه إلى الاكتشاف الحر لا أن تبقى أسيرة الذاكرة، وإذا كان الشاعر قد أبدل التكرار الإيقاعي بالتنويع في قصيدة الشعر الحر، فإنه مع النص الجديد، صار يكتب إيقاعه هو، بل أن إيقاع الشاعر نفسه يتغير من نص لآخر. لقد صار لكل نص إيقاعه، متمثلاً الإيقاع المتحول للحياة والتجربة والعصر عموماً. وفي سؤالك عن تحديد المخيلة العربية والتصاقها بالبيئة، ما يحتم البحث عن مقترح آخر، مقترح جديد يعتمد قوة التخيل، لا يبقى رهن الذاكرة، بل يتعدى إلى الحلم وبرأيي ان كتابة نص عربي مشرقي يستفيد من تجربة الآخر لترسيم تحولات الذات وإعادة قراءتها واكتشافها عبر التواصل والحوار مع الآخر، دون التماهي فيه، هو سمة الراهن الشعري العربي ونصه الجديد في ظل عصر تميل فيه الثقافات المعاصرة، إلى التشابك وخلق أنموذج (الثقافات الهجينة) حسب ادوارد سعيد. لقد كان التحول في الشعر العربي متساوقاً مع طبيعة العصر ونمط التواصل فيه، فمن البيت بوصفه مأوى المعنى ووحدة تامة ومقفلة ـ وهو ما شكّل بنية الشعر العربي القديم ـ إلى النص الفضاء الذي يتسم بالتداخل النصي (التناص) الذي يعني أن ليس هناك نص بريء تماماً، بل ان لكل نص مرجعيته أو مرجعياته الغامضة أو الواضحة أو آثار لنص آخر.

هذه إحدى سمات النص الجديد، المعبر عن ثقافة مرحلة كاملة أصبح فيها مفهوم الهوية موضع تساؤل وتدقيق، وغدا المثقف فيها في مواجهة العصر وأمامه كل الإنجازات الثقافية. لقد تخلى النص الجديد عن معيارية الكم التي تستلزمها بنائية الشعر التقليدي. ويمكننا أن نحدد اتجاهات الشعر العراقي الجديد في ثلاثة اتجاهات: الأول هو التيار الواضح، والذي يمثل التطور الطبيعي لتاريخ الشعر العراقي الحديث، منبثقاً من شكل السياب الشعري، ومنعطفاً به إلى آفاق أخرى. يعتمد شعراء هذا التيار على ثقافة عميقة بالتراث مع انفتاح على الثقافة العالمية، ويظهر ذلك في نصوصهم حيث التداخل النصي والتمثيل المعرفي والرؤيا الشاملة المستخلصة من تفصيلات الحياة وتجربة الحواس اليومية والشخصية. وأبرز شعراء هذا التيار: زاهر الجيزاني في (الأدب في مسائه الشخصي) وكمال سبتي في (متحف لبقايا العائلة) و(آخر المدن المقدسة) ورعد عبد القادر من السبعينات.

أما من الثمانينات فهناك: محمد النصار في (تنافسني على الصحراء) وخالد جابر في (البحث عن المهب) وعبد الزهرة زكي في (اليد تكشف) وعبد الحميد الصائح في نحت الدم.

التيار الثاني (الاتجاه) يتمثل في قصيدة النثر وكتابتها بشروطها التي انتقلت إلى الشعراء العرب (اللبنانيين والسوريين خصوصاً) مع كتاب (سوزان برنار): (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا).

أغلب هؤلاء، كانت بدايتهم مع قصيدة النثر تحديداً، وبعضهم لا يجيد الكتابة بالإيقاع، وآخرون انتقلوا لها سريعاً. من شعراء هذه الموجة خزعل الماجدي وفاروق يوسف. في الثمانينات برز باسم المرعبي في (العاطل عن الوردة) ونصيف الناصري ورياض ابراهيم وحكمت الحاج.

أما التيار الثالث وهو ما يمكن أن نسميه بـ(الاتجاه المحافظ) فقد ظل متواصلاً مع منجزات الرواد والشعراء في حقبة الستينات. ومن هؤلاء: جواد الخطاب وغزاي درع الطاني وعدنان الصائغ وعبد الرزاق الربيعي ودينا ميخائيل وفضل خلف جبر وعلي الشلاه. بالطبع لا يمكننا تجاهل البوادر الجديدة التي بدأت مع ظهور إرهاصات جيل السبعينات. انهم ينتمون إلى سلالة شعرية قادرة على العطاء أيضاً.

حوارات مع الشاعر