أتعقب جلجامش وفي يدي خريطة أخرى..

جريدة "نداء الوطن" اللبنانية

11/9/1998

حاورته: رولا حسن

 

ينتمي الشاعر العراقي محمد مظلوم إلى الجيل الجديد في الشعر العراقي وأصدر أربع مجموعات شعرية هي "غير منصوص عليه"، "ارتكابات"، "محمد والذين معه"، "المتأخر عابراً بين مرايا الشبهات"، "النائم وسيرته معارك".

كان الحوار معه حول مناخات مجموعته الشعرية الجديدة "النائم وسيرته معارك" التي تستفيد من الميثولوجيا في ردة عكسية عليها وتمتلىء بإشارات الحرب وتبث إشارات مستقاة من السيرة الذاتية حيناً، وتتسم في أحيان أخرى بالتفجع والرثاء واستعادة المكان الأول.

وهنا التفاصيل:

ـ تحفر القصائد عميقاً في السيرة الذاتية وكأنك تسعى إلى التأريخ شعرياً لحياتك؟!.

* ثمة فرق نوعي بين التاريخ والسيرة، وأنا بهذا المعنى غير معني بالتاريخ، بوصفه حدثاً في المكان، لكنني معني بجوهر المكان وحركة الذات وتجلياتها فيه.

نعم ان شعري أريده أن يعرّف بحياتي، ليس الشخصية، بل التجربة الحية التي تعترض باستمرار، على مصيرها.

الحياة تلك الحياة المنتهكة والمبددة في مشاغل يومية، هي ذاتها التي تثير لدي السؤال عن جوهرها، إنها حافز وليست موضوعاً، وان بدت في القصائد لامعة الصورة، لكنني أشتغل في الحقيقة على وهج باطني خلف هذا اللمعان.

ـ أيضاً ثمة استفادة من الميثولوجيا "بلاد الرافدين" والعمل على إدخالها في سياقات شعرية جديدة، هل ما زالت الميثولوجيا القديمة تصلح لاستلهامات شعرية؟.

* وهل انفصلت التسعينات عن الحركة الجوهرية للميثولوجيا؟ لا أظن. الميثولوجيا ليست دائرة أغلقت أو اكتملت، إنها في اللحظة الشعرية، شاعر على سبيل المثال كديريك ولكوت، يعيش في جزر المارتينيك، ويكتب أحد أهم دواوينه بعنوان "الالياذة" لكنها ليست (الياذة) هوميروس، كذلك كافافي وهو يستعيد طريق "اوديسيوس" إلى ايثاكا.

غير أن الشعر لا ينبغي أن يقع في فخ الميثولوجيا تماماً، بل أن يعيش اللحظة وكأنها الأبد، بمعنى أن تحيا الميثولوجيات فيه لا أن يحيا هو فيها. هذه هي رؤيتي وأنا أتعقب رحلة جلجامش وفي يدي خريطة أخرى، الميثولوجيا تستدعي نفسها، بوصفها جزءاً من الحاضر، ولا أتقصدها، لا مثاقفة ولا شرطاً تكميلياً للقصيدة.

ـ ومع هذا، تضيف إلى قصائدك، مساحات كثيرة من الذاكرة الجمعية. هل ترغب في كتابة سيرة جماعية بوصفها سيرتك أنت أيضاً؟.

* المسألة لا تتعلق بكوني أرغب بل تتعلق أساساً برؤيتي للأنا وعلاقتها بالآخر، هل هي جزء خارجي؟ أم أن الالتباس بينهما هو جزء من السؤال الوجودي.

السيرة عادة ما تكون مهدورة في رحلتها للكشف عن هذه العلاقة، ومحاولتي للبحث عن "أناي" وسط تشظ للألوان المتعددة يتيح لي التعرف على تاريخي الشخصي الملتبس هو الآخر في سير شتى.

أنا عشت الحرب كبقية جيلي من شعراء وفنانين وجنود يحلمون بجسد المرأة، وسط خندق تتناقص أفراده كل يوم، وعشت المنفى، ملتحقاً بجيل سبقني بأكثر من عقد، وعبر هذا الشتات أحاول جاهداً أن أصيغ المشهد، ويسعدني تماماً إذا استطعت أن أتقصى حركة هذا المشهد الواسع.

ـ في قصائدك، تعبر عن بعض الرموز التاريخية، الأمر نفسه موجود في مجموعاتك السابقة، ما علاقة قصيدتك بالتاريخ؟.

* لا علاقة لقصائدي بالتاريخ بوصفه وثيقة أو برهان على الوقائع. لكن في الوقت نفسه لا تنقطع عن الواقعة نفسها، وبهذا فأنا لا أسعى إلى إطلاق أحكام على الوثائق. وما تجدينه في بعض قصائدي من أسماء أشخاص وأحداث وأمكنة تاريخية، لا تنتمي في الحقيقة إلى الوثيقة، بل تترسخ في اللحم الحي للحاضر، أنا مشغول فعلاً بردم المسافة بين اليومي والتاريخي، وثمة مساحة واسعة من التأويل بينهما. أعتقد أن الحداثة الشعرية العربية في دورها الأول وقعت أسيرة الذهاب إلى التأريخ والغياب فيه، بينما كان عليها ـ برأيي ـ تنشيط الحواس من حولها لالتقاط حرارة الراهن الموصولة ـ بالتأكيد ـ باللحظة التاريخية.

ـ تكتب القصيدة النثرية لكن في مجموعتك الأخيرة "النائم وسيرته معارك" هناك قصائد موزونة "وجه هابيل. من البحر الكامل"، "نسر على جواز" و"هنا" من المتقارب. هل هذا عبارة عن استراحة أم تنويع؟ أو لعله خيار لاحق لكتابة قصائد موزونة؟.

* للإجابة على هذا السؤال أقول: أنا أحاول أن أكتب القصيدة بلا نثر أو أية إضافات أخرى، أحترز هنا على مصطلح قصيدة النثر، وهو مصطلح وافد من الثقافة الفرنسية تحديداً، لكنني أحاول مقاربة هذا الشكل الوافد مع معطى القصيدة العربية، بمحاولة جعلها طبيعية في المتن الشعري العربي، ولهذا لا تمثل ما قرأت من قصائد موزونة في الديوان الأخير، خياراً محدداً، ولا استراحة. فمنذ ديواني الأول وحتى الرابع لم أتخلَّ عن كتابة القصيدة الموزونة، أنا لست من دعاة الحزبية لقصيدة النثر بديلاً للتفعيلة، ولا من دكتاتوريي القصيدة الموزونة، أنا مع الشعر الشعر، وهذا كان خياري المختلف إلى حد ما عن غالبية شعراء جيلي في العراق الذين انقسموا منتصف الثمانينات إلى نثريين وموزونين فليست قصيدة النثر امتيازاً حداثياً ولا لشعر التفعيلة شفاعة وحيدة.. إن الامتياز والشفاعة هما للشعر الحقيقي وحسب.

ـ ثمة صياغة شعرية للفولكلور العراقي في عدد من قصائدك. هل تسعى إلى تحويل قصيدتك إلى كشكول فولكلوري أم أنك ترى ذلك من متطلبات العملية الشعرية نفسها؟.

* لا أدري، إن كان ما تقولين، ظاهرة واضحة في شعري، عموماً، أنا لم أسع إلى ذلك، لكنني أعي أن قصائدي تتجه إلى مشهد الحياة وتحاول رصد تجلياته، ثمة ذكريات ووقائع في الطفولة، ما عادت موجودة حالياً، ألعاب شعبية، ومشاغبات جريئة، واعتقادات تجمع بين الخرافة والحلم. ثمة "أساطير بيتية" إن صح التعبير، شكلت بداية وعيي لتحليل عدد من الظواهر، حتى وإن كان هذا التحليل عشوائياً، وهنا أعتقد أن الطفولة هي مادة أساسية لشعري خاصة في الديوانين الأخيرين المكتوبين خارج العراق. وإذا كنت تعتقدين أن هذه المادة، هي مادة فولكلورية، فلا بأس والحالة هذه، أن يتجه الشعر إلى هذه المنطقة الحيوية، بدلاً من اتجاهه إلى تهويمات لا حدّ لها.

ـ في بعض قصائدك، عمل على نثر العبارة إن صح التعبير والاستفادة من القص، هل يتجه هذا المسعى إلى محو التخوم بين القصيدة والقصة؟.

* أتفق معك، في هذا الوصف الذي ينطبق على بعض النصوص في المجموعتين الأولى والثانية، وخصوصاً الأولى، التي كتبت أغلب قصائدها في النصف الأول من الثمانينات، حيث كنت مشغولاً بالتجريب وسؤال المغايرة، ومحاولة مقاربة أجناس أدبية مجاورة. لكنني، بقيت معنياً بالشعر بشكل أساسي.

لاحقاً صار لدي تصور وقناعة بأن الشعرية متوفرة في الرواية أو المسرح أو السينما أو القصة. مثلاً، كما في الشعر. لكن الأساسي هو كيف يكتب الشاعر القصيدة داخل هذه الشعريات. وهنا أصبح لدي فصل نوعي بين الشعر والقصيدة. فالقصيدة ينبغي أن تكون شعراً، وليس باستطاعة كل الشعر أن يصل إلى القصيدة.

ولذا فإن تقنيات السرد التي أشرت إليها، كانت نوعاً من البحث عن قصيدتي وسط تشابه مريب يحيط بالكتابة الشعرية من حولي.

ـ ثمة بحث واستعادة للمكان الأول في شعرك، رغم استقرارك في مكان آخر. ما تأثير المكانين عليك؟ ولماذا تغيب المكان الثاني؟.

* لا يمثل المكان الأول بالنسبة لي، وطناً بالمعنى السياسي أو المدني المتداول. ولهذا فأنا لا أرتاح لتصنيفات النفي الأيديولوجي أو الجغرافي. الإنسان بطبيعته منفي إلى عالم ثان منذ خروجه من المكان الأول "الرحم" وأسطورياً فإن نفي آدم إلى الأرض من الجنة يندرج في هذا السياق، كذلك منفى قابيل إلى شرقي عدن بعد قتله لهابيل.

لكن الإحساس بهذا النفي اللا زمني لا يتعمق ـ برأيي ـ ما لم يرتبط بتجربة شخصية بمغادرة المكان السابق إلى اللاحق، إننا نغادر الطفولة عندما نكبر، لكننا نبقى مشدودين بحنين غامض إلى المهدور من ذكرياتنا.

شعرياً أحاول الاستفادة من وجودي في المكان للتأمل في الامتدادات العميقة لوجودي في مكان آخر. وعندما أعبر النهر من مكان إلى آخر أحس أنني انفصلت عن حياة أولى إلى حياة ثانية، فأجهد في تأمل حياتي هناك متزوداً بحياتي التالية، وبهذا المعنى فأنا لا أغيب المكان الثاني، لكنه حافزي إلى أن أسافر في نهر الشعر وأنا أتأمل حياتي على الضفتين.

 
 

حوارات مع الشاعر