المؤسسة الثقافية في العراق كانت دائماً ضد المثقفين..

ومن خصوصيات الشعر العراقي أنه يقاوم الكارثة

جريدة الأوسط

17/4/1999

حاوره كريم جواد

 

الشاعر محمد مظلوم واحد من الأسماء الشعرية البارزة في ما اصطلح عليه بجيل الثمانينات في العراق، وقد واصل بعد خروجه من العراق قبل ثمانية أعوام العمل بدأب على مشروعه الشعري فأصدر حتى الآن أربع مجاميع شعرية هي تباعاً: غير منصوص عليه، المتأخر عابراً بين مرايا الشبهات، محمد والذين معه، النائم وسيرته معارك. إضافة إلى كتاب مختارات من شعر عبد الوهاب البياتي. الأوسط التقت الشاعر محمد مظلوم في حوار حول ما يسميه هو بـ"ضفتي" الثقافة العراقية وقضايا الشعر العراقي:

ـ ربما هو سؤال تقليدي، لكن بعد أربع مجاميع شعرية كيف يرى الشاعر محمد مظلوم إلى وظيفة الشعر؟.

* الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن أن تكون تقليدية. لا أعرف وظيفة محددة للشعر. بمعنى أنه لا يمكن حصره في اتجاه معين أو في أداء معين كالسياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع، ولكنه أساساً يعتبر الوظيفة الإنسانية الأسمى، بمعنى أنه ينحاز إلى عوالم الإنسان الداخلية وينحاز إلى تاريخ الإنسان، وإلى تطلعاته نحو الحرية والوجود والكينونة. وظيفته أن يثقف هذه المشاعر داخل الإنسان لكي يبدو انحيازه تاماً، تجاه قضاياه الروحية والكيانية. وظيفته أن يحرض فينا هذا الإرث من العذاب والسؤال عن معنى أن نكون. وظيفته جدوى وليست لا جدوى.

ـ في إطار الظرف الذي نعيش ـ كعراقيين ـ يجدر الاستفهام عن علاقة الشعر بالسياسة تأثيراً وتأثراً؟.

* الشاعر إنسان يرى المطلقات ويرى الأشياء المركبة. في ضمن هذه الرؤية التي تشبه رؤية الصقر، وهو يطل من السماء فيمسح جوهر الأشياء بنظرة ثاقبة، الشاعر يبدو لي هو عين الصقر، وتدخل السياسة ضمن التفصيلات في هذا المشهد. وتدخل تماماً في وجدانه وفي تكوين رأيه بالحرية وبالناس وبالجمال وبالخير والشر. بمعنى أن الشعر ليس سياسة ولا يطمح إلى غاية، وإن كان يتعامل بالممكنات ولكن الشعر في حد ذاته يتضمن السياسة، ليس السياسة بالمعنى المتعارف فقط، وإنما السياسة بمعنى التحليل للأوضاع واكتشاف ما يمكن أن تؤول إليه هذه الأوضاع والانحياز إلى قضايا الإنسان والمجتمع والحرية.

ـ في العراق حاولت "السلطة" استدراج الشعر إلى مهمة أخرى تجعل من الشاعر تابعاً للسياسي أو أداة بيده؟.

* الحقيقة، كلامي يبتعد عما يحدث في العراق. فهناك لا تحدث سياسة وإنما خبط عشواء. خصوصاً تجاه المثقف، هناك ما يسمى برموز الثقافة. أنا أقول رموز المؤسسات الثقافية، وليس الرموز الثقافية، رموز المؤسسات الثقافية هم أدوات بيد سلطة، وليتهم كانوا سياسيين بالمعنى الذي نعرفه. ولكنهم ينتمون إلى هذه العقلية التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه. عقلية المافيا والعصابة أكثر من كونها تنتمي إلى إرث أيديولوجي. فعقلية المؤسسة الثقافية في العراق استمدت سلوكها تجاه المثقف العراقي من هذه العقلية الأساسية، ورموزها مارسوا على المثقف العراقي وخصوصاً المثقف العراقي الشاب في بداية بروزه قمعاً مزدوجاً على اعتبار أن كل ما لا يمت إلى شعرهم وثقافتهم بصلة هو ليس بشعر.

ـ وماذا عن المثقف خارج هذه المؤسسة؟.

* المثقف العراقي الحقيقي كان يعاني هذه الإشكالية وكان ينحاز إلى قضايا الثقافة أساساً ولا يندمج في مؤسسات السلطة. ولو عدنا إلى عقد الثمانينات خاصة مع وجود الحرب العراقية الإيرانية نجد أن أصوات المدافع كانت تعني كل شيء. أما صوت القصيدة فلا يعني شيئاً.

لذلك صارت هناك قطيعة تامة بين الأجيال وبين النصوص، ومن جهة أخرى برزت في العراق ثقافة مضادة للثقافة التي تحاول السلطة إشاعتها وتمثلت على صعيد الشعر، في قصائد متملصة تماماً عما يشاع في الحياة اليومية والثقافية في العراق، لتذهب إلى حدود أخرى، ربما التصوف، ربما الغموض ـ المقصود وليس المفتعل ـ في محاولة لعدم الاندراج تحت السائد المعلن والتعبوي للحرب.

ـ لكن هذا التملص من السائد أسفر أحياناً عن مجانية على مستوى الموضوعات والأساليب التعبيرية أيضاً؟.

* هناك قصائد تمجد العدم وقد يبدو هذا مضحكاً، ولكن كانت تحمل موقفاً في أنها لا تمجد الحرب وإنما تمجد ما يعتقدون أنه عدم، ولكنها في الحقيقة تحاول أن تنير نقاط اليأس والخوف والقلق في داخل الإنسان إزاء ما يحدث وهي الحرب، لأن الإنسان في النهاية ليس سوبرمان يخاف ويجوع ويقلق فيعبر عن هذه الهواجس. وهناك أيضاً الغموض.

ـ ألم يكن ذا وظيفة سياسية؟.

* طبعاً الغموض بحد ذاته لا يعني وظيفة ولكنه كذلك حينما يكون تعبيراً عن موقف تجاه حالة معينة. وأنا أعتبر أن ما شاع من غموض في تلك الفترة كان موقفاً حقيقياً إزاء ما يجري، أما أن يستمر هذا الغموض كشرط في الشعر فهذا مالا أقبله لا لنفسي ولا للشعر. الغموض كما أعتقده هو صفة من صفات الشعر وليس شرطاً من شروطه. بمعنى أنه كان عنصر حماية ليس فقط من القمع وإنما عنصر حماية من الانجراف للسائد وفي الخطاب الأحادي للسلطة.

ـ في المنفى يحاول البعض من رموز ثقافة السلطة ركوب موج الثقافة المضادة، بتلفيق تواريخ بطولية؟.

* الغليان الذي شهده العراق بداية التسعينات عقب الانتفاضة أدى إلى حدوث هروب جماعي إذا صح التعبير، فظهر أبطال كارتونيون كما ظهروا أبطالاً في القادسية وأبطالاً في أم المعارك وكتبوا الصفحات السوداء، حسب تعبيرهم عن الانتفاضة و"الكتاب الأسود" هؤلاء ظهروا في الخارج وظهورهم هذا يدلل على وجود هشاشة في التكوين الثقافي العراقي بالمنفى، هشاشة تسمح بأن يخترق هذا الذي مالأ السلطة وتقرب منها بشتى السبل ساحة الثقافة العراقية في المنفى. بعض هؤلاء وجدناهم يحصدون جوائز باسم الاضطهاد ويدعون ادعاءات كبرى، بل انهم استكملوا المشوار بأن ادعوا أنهم مضطهدون من قبل المعارضة أيضاً. لكن أمثال هؤلاء لا يعيشون إلا على إشاعة الأكاذيب حول أنفسهم ولكني أعتقد أنهم سيموتون داخل شبكة الأكاذيب العنكبوتية هذه.

ـ كيف تفسر ضمور الكثير من الأصوات الشعرية في المنفى، خصوصاً تلك التي كان أصحابها في العراق يعدون بالكثير، على أن نتاجك الشعري يؤشر أنك واحد من قلة من الشعراء واصلوا تجربتهم وحافظوا على وهجهم من الانطفاء؟.

* الشعراء الذين انطفأوا وصلوا إلى نهاية ضوئهم فاكتمل (عيار الشمعة) كما يقولون، وهذه هي حدودهم. أعتقد أن القضية تتعلق بالمشروع الشخصي للشاعر. الذي حدث أن بعض الشعراء من جيلنا كانوا في الداخل مهووسين بالسفر والاستقرار في عالم آخر والوصول إلى يوتوبيانهم الخاصة، أو لنقل الوصول إلى "ايثاكا" حسب تعبير كافافي، ووصلوا إلى ايثاكا باكراً وانتهت رحلتهم. أنا شخصياً كان خروجي من العراق هو لإنقاذ ما أعتقده مشروعاً شعرياً، أحاول أن أواصله خارج العراق في جو من الحرية، ومن الأفق المفتوح، حاولت أن أحافظ على هذه الجذوة التي اشتعلت بالعراق، ولا يهمني أن أصل إلى ايثاكا المدينة، ما يهمني أن تبقى ايثاكا الحلم هي الشعلة المقدسة التي أستنير بها.

أنا أتفق معك، هناك شعراء انطفأوا تماماً وأستطيع أن أقول أنهم انطفأوا، هناك شعراء أيضاً صمتوا أو آلوا إلى العزلة، وقد لا نعرف ماذا يخرج منهم، وهناك شعراء قدموا ما قدموه وظهر أن ما قدموه في المنفى كان لا يتناسب مع طموحاتهم التي تبلورت في النصوص الأولى التي كتبوها داخل العراق.

ـ ألا يقودنا هذا إلى السؤال عن علاقة الشعر بالمكان؟.

* هذه إشكالية أخرى خطيرة وهي هل أن من يخرج من الأرض الأولى والجذر الأول تنقطع صلته بعالم السحر، ولنقل مجازاً عالم الإلهام ويبدأ في متاه آخر؟ هل يفقد بوصلة الشعر حينما يكون في المنفى؟ أعتقد أن المحافظة على الجذر الأول لا ترتبط بالمكان وإنما ترتبط بالمفردات والعناصر التي أججت تلك الجذوة في ذلك الجذر.

ـ عدم خروجك إلى بلد أوربي ألا تعتقد هو تعبير أو كتابة عن رغبة بالبقاء قرب الجذر؟.

* ربما كان هذا، الحياة هنا فيها من المفردات ما يذكرني ببغداد. أنا إلى الآن أحافظ على ذهابي شبه المعتاد إلى المقهى، أحافظ على بعض المفردات في الحياة اليومية التي تذكرني ببغداد ولكن ما لم أعد أحافظ عليه هو المشاكسة.

إذن وجودي هنا أتفق معك فيما طرحته قد يكون محاولة لإيجاد صلة بالضفة الأخرى، وأنا الح في كل أشعاري وفي كل دواويني على الضفتين واعتقد أن الضفتين من النهر الذي عبرته من العراق إلى سوريا هو يمثل ضفتي زمنين، أنا أحاول أن اربط هذين الزمنين فيما أكتب من قصائد.

ـ في مجاميعك نلحظ أن هناك تبدلاً في الرؤية إلى الشعر، مقترناً بتبدل المكان؟.

* هناك عوامل كثيرة منها ما يرتبط بجو الحرية واتساع مساحة القول. فقد تبدلت حتى الموضوعات. طبعاً لا تنسى أنني غادرت العراق منذ ثماني سنوات. كنت في أواخر العقد الثالث والآن ربما أواسط العقد الرابع، وهذه مرحلة خطيرة أيضاً تجعل الإنسان ينضج أكثر ويكوّن رؤية واضحة تجاه الأشياء ويقلل من الاندفاعات غير المحسوبة ويحاول أن يرى ببصيرته وليس ببصره فقط، ويحاول أن يصغي إلى ظلامه الداخلي أكثر. هذا جعل شعري يختلف تماماً، صرت أيضاً أشعر بارتباط عضوي في جماعة أو مجموعة محاصرة وخارج بلدها وتنتمي إلى متاعب وظروف استثنائية وهذا أوجد رسالة وهذه الرسالة تحتم على الشعر أن يكون ذا جدوى أكثر مما كان. نلاحظ في مجموعتي الأخيرة هناك قصيدة عن هابيل، الأخ القاتل والأخ المقتول، هناك عن نفي آدم من الجنة إلى الأرض. هذه الموضوعات نجد معادلها في حياتنا، وترتبط بتاريخنا الحديث. ترتبط بالواقع الذي لمسته هناك كلكامش الذي وجدته رمزاً عضوياً في شعري.

ـ توزع التجارب الشعرية العراقية في المنافي هل يترك متسعاً للقول بوجود قصيدة عراقية؟.

* على الصعيد الواقعي ما يبقى قليل ونادر جداً، الشعراء في المنفى يكتبون شعراً يبتعد شيئاً فشيئاً عن روحية الشعر العراقي، وبعضهم للأسف أصبح وكأنه غير معني بالشعر العراقي وأعتقد أن الشعر العراقي غير معني به، ولا أدري لماذا، إذا كان غير معني بالشعر العراقي، يكتب بالعربية ولا يكتب بلغة أخرى، انه لا يعترف حتى بالشعر العربي ولكنه متمسك بالكتابة بالعربية. بعضهم لا يقرأ رموز الشعر العراقي الكبار مثل الجواهري والسياب والبياتي وسعدي إلى آخر القائمة، ويبتعد حتى عن الشعر العربي، للشعر العراقي حساسية خاصة واستثنائية داخل الشعر العربي وهي الحساسية الأصعب والأخطر وجميع من يحاول أن يتملص من هذه التسمية فإنما بسبب عدم قدرته على التواصل مع هذه الحساسية. قيمة الإنجاز في الشعر العراقي لم يصله شعر عربي مطلقاً، ما يقال عن الشعر في أجزاء عدة من الوطن العربي هي إشاعات صحفية، أما الشعر الحقيقي والإنجاز يبقى مرتبطاً بالشعر العراقي، هذا الكلام ليس تعصبياً أو إقليمياً ولكن هذا هو الواقع، بمعنى أنك الآن تستطيع أن تجد مئة شاعر في العراق، ولا تجد في بلد عربي آخر سوى عشرة لا يضاهون جزءاً من أولئك، ولذلك ظهرت قضية الأجيال، وهي قضية فريدة مرتبطة بالشعر العراقي واستعيرت في بلدان عربية أخرى لكي تطبق على مجموعات صغيرة.

ـ هناك من يحاول أن يُدرج ضمن حالة التدهور التي يعيشها العراق سياسياً واقتصادياً، الثقافة أيضاً، بما فيها الشعر؟.

* قلت، أنا مطلع على ما يكتب. هناك شعراء يكتبون خارج إطار السلطة والتسميات الأخرى، وهناك شعراء مبدعون مثلما كانوا في التسعينات والثمانينات والسبعينات. هناك شعراء يكتبون تحت مطرقة السلطة، هذا واضح تماماً ولكن الذي يمكن أن نشخصه في المشهد الشعري العراقي، أن الشعر العراقي الحقيقي الذي يعنينا ونعنيه، هو دائماً متمرد على السلطة بكافة أشكالها. التاريخ العراقي كان دائماً مليئاً بالدم، والشعر العراقي هو الزهرة التي تنبع داخل بحيرة هذا الدم، وأعتقد أن جزءاً من خصوصيات الشعر العراقي تأتي من كونه دائماً مقاوماً للكارثة ومقاوماً للخراب، وهذا يدحض كل ادعاء بأن التدهور الذي يشهده العراق يورث تدهوراً شعرياً. أنا أعتقد العكس، ان التدهور الذي يشهده العراق توازيه حياة كبرى في الثقافة والأدب.

ـ لكن رغم ذلك بقيت الثقافة العراقية والشعر بشكل خاص عرضة لأزمة تسويق تاريخياً؟.

* العراق أكثر مستهلك للثقافة والشعر ولديه الإمكانية للتسويق الثقافي ولكن هناك كساد بسبب ما سميته بأزمة التسويق. نعم هذا ما يحدث. وهناك شعراء كثيرون أصدروا مجاميع شعرية داخل العراق لا يعرفهم أحد. نحن خرجنا من العراق بعد عشر سنوات من النشر وتوقعنا إننا سنكون معروفين في الخارج، لكن اكتشفنا أننا كنا في مقبرة. وفي الخارج نفس الشيء يحدث، فليست هناك مؤسسات ثقافية تتبنى نتاج المثقفين العراقيين. حتى المؤسسات الثقافية العراقية في المنفى أخذت طابعاً أيديولوجياً وطابعاً نفعياً تجارياً، بل إنها أصبحت تحاصر المثقف العراقي وتمارس دوراً لا اريد أن اقول شبيهاً ولكنه بشكل أو بآخر يعادي المثقف العراقي. وهذا يثير سؤال: طيلة هذه السنوات من المنفى هناك أجيال سبقتنا إلى المنفى، لماذا لا توجد مؤسسة ثقافية أو تقاليد ثقافية عراقية في المنفى تتبنى المثقف؟ وهناك أخطر الأسماء الثقافية، لا أتحدث عن نفسي وإنما عن الرموز الثقافية الكبرى.

ـ إلى مَ تعزو ذلك؟.

* غياب المؤسسة الثقافية العراقية الموحدة في الخارج. أما على صعيد الداخل فإن المؤسسة الثقافية الرسمية كانت دائماً ضد المثقفين، وهذا هو السؤال.. لماذا لا يصل السياب إلا عبر بيروت، والبياتي إلا عبر القاهرة، رغم اكتمال مشروعيهما.

 
 

حوارات مع الشاعر