الشاعر الحقيقي يحمل منفاه معه

 

جريدة المؤتمر

26/1/1996

حاوره عبد الرحمن الماجدي

الشاعر العراقي محمد مظلوم من جيل الكوارث أو جيل الحرب، فالحرب تسكن معظم تجاربه الشعرية، فبعد "ارتكاباته" و"تأخره" يستعد لإصدار ديوانه الثالث مطلع العام القادم وهو الآخر يحاول فيه التجاسد مع تجربة الحرب.. عن جيل الثمانينات، وقصيدة النثر والمنفى كما يعيشه الشعراء.. كان معه هذا الحوار:

ـ أنت من جيل الثمانينات، ذلك الجيل الذي ولد بين نيران الحروب، هل ترى أن جيلك مكمل لمسيرة سابقيه ـ خاصة جيل السبعينات ـ أم تعتقد أنه يمتلك خصوصية تميزه، وتختلف أيضاً، عن سابقه وعن لاحقه كذلك ـ جيل التسعينات؟.

* قضية الأجيال في الشعر العربي، تنطوي على أكثر من إثارة، تستحق لوحدها وقفة، فهي في مجملها تعبير عن تنوع وتعدد، يغني الحياة الثقافية في العموم، وإن كانت نتائج ظواهر سلبية في الشعر أحياناً. على أننا لسنا في صدد مناقشة هذه القضية هنا، ما أريد قوله ـ وهو ما شرحته في أكثر من مناسبة ـ أن علاقة اللاحق بالسابق في الشعر العراقي هي علاقة توتر وإلغاء في أول مظاهرها، حتى تلتئم في الجدل والصراع في منتصفه، قبل أن تؤول في النهاية إلى الوحدة التي تسهم في إغناء المشهد الشعري العراقي.

والحديث عن "الجيل" لا يمكن فصله عن المعطيات التي يتأثر بها، ويؤثر فيها، التي يصدّر عنها والتي يصدرها في الوقت ذاته، وفي مقدمة تلك المعطيات: الزمن، فعندما تقول تجربة السبعينات فإنك ينبغي أن تتذكر وقائع العقد السبعيني، اجتماعياً وسياسياً ونفسياً، وكذلك الحال بالنسبة للثمانينات والتسعينات.

الثمانينات هي عقد الحرب، بكل ما يلحقها من تصنيفات وما يندرج تحتها من عنوانات: الموت، القلق، الهدم، وما يطرأ على الأحاسيس الإنسانية من تغير خلالها، إذ لا تعود هذه الأحاسيس كالحب والوجود، والحرية، كما كانت قبل مواجهتها لسؤال الموت، الموت الحاضر دائماً وفي أية لحظة وبمختلف تقنياته وعبثيته.

الثمانينات إذاً، عقد محتشد بالوقائع المختلفة، غير المألوفة والمبالغة في الآن ذاته، وهي، على هذا الأساس، مادة غنية لعالم شعري مختلف، ولكي لا يبدو الكلام ملتبساً فإنني عنيت بالثمانينات عقداً شاملاً للأجيال ولم أقصد تجييره لجيل الثمانينات، على أن انعطافة تغيرية حدثت في الشعر العراقي في النصف الثاني من الثمانينات أسهم فيها شعراء من مختلف الأجيال ـ ثمانينيون وسبعينيون وحتى ستينيون وهذه الانعطافة كانت حافزاً للشعراء الجدد للتوغل إلى مديات أبعد بالمغامرة التعبيرية.

الثمانينات، كذلك، عقد التجريب الذي أفضى إلى صياغات أخرى في الشعر العراقي، وهي صياغات استفادت من منجز الشعر العراقي المكتوب، اجتازت به مناخات الغناء والإنشاد إلى عوالم التأمل وأنسنة الأشياء المفتوحة على أفق بعيد.

ـ كتبت قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، هل ترى أن الثانية تطورت عن الأولى في مسار الشعر وتحولاته؟ أم هي جنس أدبي آخر له صفاته وشروطه؟.

* قصيدة النثر مقترح وليست بديلاً نوعياً. وهو ما حرصت على التأكيد عليه منذ بدايات دخولي السجال حولها في الثمانينات، وهذه النظرة منحتني هامشاً أوسع من بعض زملائي الذين رأوا في قصيدة النثر بديلاً لقصيدة التفعيلة فهجروا هذه نهائياً، ولم يكتبوها أصلاً! واضعين رهانهم الشعري في شكل محدد ومضحين بأي خيار سواه، أعتقد أن هذه الرؤية نمط آخر لا يقلّ خطورة عن نمط النظر إلى قصيدة التفعيلة على أنها النضوج الأمثل للشكل الشعري ولا يليه إلا الخراب!.

قصيدة النثر لدي احتمال آخر ينبثق عن سؤال الشعر نفسه، وهي لا تتقاطع إلغائياً مع قصيدة التفعيلة، التي لا أرى من الضروري شطبها من حاضر الشعر، خاصة وان من الشعراء العرب الكبار من لا يزال يقترح ويطور في تراكيب وصياغات هذه القصيدة ويقدم بها عالماً شعرياً لا يقل أهمية عن منجزات قصيدة النثر.

والشعر عموماً ليس خياراً بين هذين الشكلين فحسب، بل يمكن متابعته في مقترحات أجدّ من قصيدة النثر وتتمثل في الكتابة الشاملة، والنص المفتوح، والقصيدة الجديدة وسواها من الأشكال التي مازالت بتسمياتها عائمة ومتداخلة في بعض الأحيان، لكنها تمثل في العموم، مقترحات أسلوبية لا ينبغي فصلها عن تطور المستويات التعبيرية داخل اللغة الشعرية وشكلها وموضوعاتها كذلك.

ـ إذن ما سبب كثرة شعراء النثر؟.

* هذا السؤال متفرع عن السؤال السابق له، ولذلك فإن إجابتي ستمتد من الإجابة السابقة كذلك.

فكثرة الشعراء بهذا العدد ـ وأياً كانت الأشكال الشعرية ـ ليست دليلاً على أن الشعر بخير، بل ربما على العكسّ فالبعض ممن يكتب قصيدة النثر بلا مواهب حقيقية، وبلا تجارب حياتية مهمة، لكنهم يخوضون في تجارب مفتعلة، وقصائدهم منصات مثالية للادعاءات اللغوية التي تفصح، في أحسن الأحوال، عن صور شعرية غاية في الصغر، إن لم تكن معدومة أساساً.

هؤلاء يكتبون الشعر بمواصفات الموضة وما دامت قصيدة النثر لا تحتاج إلى الصعوبات التقنية فإنها أصبحت أوطأ الحيطان للعبور إلى أوهام الشعر! لكن قصيدة النثر ليست بهذا الاستسهال الذي يشيع الآن، فهي تتطلب موهبة شعرية خاصة وتجربة وجودية شاملة، إضافة إلى مهارة لغوية تنفذ إلى روح الكلمة ولا تخدع بظلالها.

ـ المنفى، هذه الظاهرة تطرح تساؤلات عديدة تلقي بظلالها على الشعر العراقي المكتوب في الخارج ـ سلباً وإيجاباً ـ بين سياقي الوطن ـ المنفى، هل ثمة مؤشر للمنفى في تطور القصيدة لديك؟.

* لا يتشكل الوعي بالمنفى خارج تشكل الوعي العام للشاعر، وعلى هذا الأساس فالمنفى ليس عالماً طارئاً يواجهه الشاعر في لحظة ما، الشاعر الحقيقي يحمل منفاه معه منذ تشكل القلق الوجودي لديه، وعلى المستوى الشخصي فإنني تحسست المنفى ـ بالمعنى الوجودي ـ في الأشعار التي كتبتها داخل العراق ولم يكن خروجي إلى المنفى سوى محاولة لإسكات هذا القلق في المكان الذي يعيش فيّ ويناديني ـ في الوقت ذاته ـ للخروج إليه باستمرار!.

المنفى المكاني، أتاح لي مسافة من التأمل في المشهد السابق منذ أدركت أنني غادرت رحم أمي إلى الأبد. فصرت الآن أعيد صياغة المشاهد السابقة بنظرة من رأى كل شيء، حتى ذاته، وهي تغرق في تداخلات المشهد، إني أتصور المشهد حاضراً فيّ. أو أنا في لجّته أكتب عن حاضر ملفع بالماضي! بهذا المعنى.. فالمنفى بوقائعه المختلفة، يغير إيقاع الأشياء من حولي نسبياً، ويعطي حواسي إمكانات أكبر في اختيار قدراتها، وفي تجديد المتخيل والمتذكر باستمرار.

ـ يتهم شعراء المنفى ـ خاصة كتاب قصيدة النثر ـ بالسطو على "الإبداع الأجنبي". هل هي حقيقة أم تهمة؟.

* ليست لدي وثائق عن حيثيات هذا الاتهام، ولم تقدم لي أنت شيئاً منها. ومع هذا فالسؤال يتضمن تعميماً ربما يقربه من التعسف، وينطوي على أكثر من تداخل، فالإبداع الأجنبي مصطلح غير مستقر، عدا عن كونه يستدعي معرفة السارق باللغة التي يسرق منها! فإذا عرفنا أن عدداً ممن قد تعنيهم ربما لا يجيدون لغة أخرى فإن التهمة قد تبطل، أو إذا قصدت الإبداع الأجنبي بعد الترجمة فإن (إبداعات) الترجمات السيئة أثرت فعلاً، لكن بأولئك الذين لا يفرقون بين الخطأ اللغوي وبين الابتكار في التركيب.

ـ أخيراً، ما جديد محمد مظلوم؟.

* جديدي كتاب شعري ثالث من المفترض أن يصدر في بداية العام 1996 ضمن سلسلة إصدارات "كراس" صحبة ديوان للمرحوم آدم حاتم وآخر للشاعر السوري أحمد محمد سليمان، وكتابي الجديد يحتوي على قصائد ونصوص لم أنشر منها سوى قصيدة واحدة. ثمة قصائد موزونة في الديوان (أربع قصائد قصيرة) وعدد من النصوص، والقصائد خارج الوزن، وتراوح بين الطول والقصر في ثلاثة أقسام تمثل مناخات خاصة ترتبط مع بعضها هي: الموت، الحرب، المرأة. حاولت فيها التجاسد مع تجربة الحرب التي عايشتها، بكل مفرداتها بوضوح، الكتاب أنجزت نصوصه جميعها خارج العراق، وبه أحاول أن أفترق عن تجربتي في الكتابين الأول والثاني، دون قطيعة نهائية.

عموماً، لا أريد أن أتحدث عن المستوى الفني فهذا ليس شأني، لكنني أصف الطبيعة الخارجية لها فحسب. أيضاً أعكف على إنجاز كتابي عن جيل الثمانينات الذي أعتقد أنه سيكون رصداً أنطولوجياً لتحولات الشعر العراقي في الثمانينات بمختلف تياراته واتجاهاته.

 
 

حوارات مع الشاعر