حول قصيدة النثر والمجايلة الشعرية والغربة

الشاعر محمد مظلوم: الكتابة داخل العراق لها شروطها الاستثنائية

جريدة بغداد

23/8/1997

حاوره: علي الزامل

 

دون جلبة، يهز المظلوم غصن روحه المكتظة، بأمكنة وشخوص وعوالم، قد ارتشف الزهو والعشق منهما، فتتساقط ذكرياته، وتلتمع نصوصه بها، فيحيلك إلى شوارع قد دثرت برماد الحروب، ويوقظ فيك غافيات الشوق نحو الوطن، وأهله ونسائمه البليلة بالعافية. بهدوء.. يتوحد المظلوم مع لغته ووجده الصوفي وشاعريته ليعانق إبداعه فينتج "ارتكابات"، "المتأخر عابراً بين مرايا الشبهات" "محمد والذين معه".

عن قصيدة النثر وما يثار حولها والمجايلة الشعرية وعن الغربة وذاكرة الوطن.. كان لنا هذا الحوار:

ـ المتأخر عابراً بين مرايا الشبهات، جاء يحمل هماً وجودياً، تعدى مفهوم الغربة كاستلاب، فهل يعني بتقديركم أن هذا الهم مستوى مطلق، من حيث مفهوم الهم الوجودي الواحد عند شعراء المنفى؟.

* مجموعتي الشعرية الثانية "المتأخر عابراً بين مرايا الشبهات" الصادرة العام 1994 كتبت أغلب قصائدها في العراق، بل ان بعض القصائد كتبت قبل قصائد المجموعة الأولى "غير منصوص عليه ـ ارتكابات" 1992، هذا يعني أن ما تشير إليه في سؤالك ينطوي على كثير من الدقة، بمعنى أن شعوري بالغربة غير مرتبط بالمنفى المكاني، بل بهذا السؤال الأزلي والإحساس اللا زمني بالانفصال عن مثل ما، وحقيقة ما، لذلك سأعقب على الشق الثاني من سؤالك وأقول ان هذا الشعور هو عام لدى كل شاعر وليس لدى شعراء المنفى تحديداً، بل إن ثمة شعراء عاشوا داخل أوطانهم لكنهم كتبوا عن إحساس قاهر بالنفي. وفي الجانب الآخر لدينا الكثير من الشعراء في المنفى يقع تحت وطأة الإحساس السطحي بالنفي، فتتحول قصائدهم إلى أناشيد حنين رومانسية باتجاه الذكريات هناك، دون أن تشحن هذه الذكريات بقوة حضور أخرى تجعلها مادة شعرية حية، قلة من شعراء المنفى من استفاد من المسافة الزمنية التي يخلقها المنفى ولم تقع أشعارهم أسرى المنفى المكاني.

ـ من مغادرتك العراق إلى المنفى وحتى الآن، أصدرت ثلاث مجموعات شعرية، هل كانت هذه حصيلة الوطن، هل هناك ما يمكن تسميته بمرحلة تفصل بين الكتابة ـ داخل ـ خارج العراق؟.

* الشاعر الحقيقي هو الذي يستفيد من كل تحولات الحياة ويدوّن سيرته واعترافاته ورؤيته إزاءها لذلك فإن ثمة شعراء لا يستطيعون، هناك شعراء خرجوا من العراق ولم يقدموا ما يوازي إنجازهم في الداخل وهم بهذا وصلوا إلى حدودهم النهائية بمجرد خروجهم من حدود الوطن. فيما يتعلق بي فإن مجموعتي الأولى قد كتبت داخل العراق وكذلك القسم الأكبر من الثانية.

في حين كتبت المجموعة الثالثة "محمد والذين معه" خارج العراق، وأعتقد أنها حققت تخطياً ما لإشكالية الكتابة في مكان آخر. الكتابة داخل العراق لها شروطها وسماتها بفعل طبيعة الوقائع الاستثنائية هناك، الوقائع التي سحقت عدداً لا بأس به من الشعراء سواء في نوعية الكتابات أو حتى في دوامة الوقائع نفسها، غير أن الكتابة بعد مغادرة العراق تفترض أن الوقائع أخرى، بمعنى أنها تستدعي نصاً مختلفاً تبعاً لتغير هذه الوقائع وخلال هذا التحول الخطر في الوقائع يتخلف كثير من الشعراء عن المرحلة الجديدة وهنا تتجلى أصالة الشاعر الحقيقي الذي أشرت إليه.

ـ تنتمي لجيل شعري لا يزال منجزه الإبداعي موضع تقييم بسبب غياب النقد، هل يمكنك أن ترسم ملامح التشكيل الشعري لدى جيلك؟.

* هذه القضية بالذات أعتبرها شائكة وتستدعي مزيداً من النقاش قد لا يتسع المجال لها هنا. وبشيء من الاختصار أقول: لقد عاش جيلنا وقائع ساخنة حياتياً وشعرياً فقد تشكلت تجربته خلال حربين قاسيتين وكثير من شعرائه كانوا جنوداً خلالهما، وشعرياً كان هناك لتقييم العقدي وفقاً للجيل فوجد أمامه ثلاثة أجيال شعرية "الرواد والستينيين والسبعينيين" وبعيداً عن التقسيمات، كان عليه أن يجد له مكاناً شرعياً على خارطة الشعر العراقي والعربي، ثمة مجموعة بقيت في حدود منجز الأجيال السابقة فكتبت في ظل هذه التجارب وقنعت به، فيما اتجهت مجموعة أخرى للاستفادة من منجز قصيدة النثر في بلاد الشام، لكن المجموعة الأهم برأيي، هي التي انطلقت من منجز قصيدة الرواد ولاحقيهم وكانت لها تجربة مع قصيدة التفعيلة ثم تحولت إلى كتابة خارج الأوزان لكنها لا تسقط في منجز قصيدة النثر المعهود في البلدان المجاورة، بل شكلت ميزة أخرى ونكهة مختلفة وأعتقد أن هذا الكلام لا ينطوي على ادعاء بل أضحى مرئياً بعد خروج عدد من هذه الأسماء إلى تجارب زملائهم في الوطن العربي.

ـ إذ قلنا بأن الأسلوب مستوى من مستويات المعنى فمجموعتك الأخيرة "محمد والذين معه" جاءت مختلفة في بنائها من حيث الأسلوب، فهل يمكن أن نعده أسئلة نحو الإفصاح عن الذاكرة الوطن ـ المنفى وتجلياتها، أم هو مشروع مكمل لديوانك "المتأخر عابراً بين مرايا الشبهات"؟.

* كل شاعر أصيل يسعى إلى استقصاء صوته الشعري ولهفته المميزة عبر استثمار مناطق دقيقة وغير مأهولة في الذاكرة والحياة، غير مأهولة بمعنى أنها تخصه وحده، ومنها شكل مادته الأولى ويسعى إلى تكريس الأسلوب بما يتناسب معها، وذلك لا يتم إلا عبر جهد حقيقي ودأب مستمر على الاشتغال على نصه وتنقيته باستمرار، وبالمقابل عليه أن يجتهد على تجاوز نفسه وتحول تجربته وخلق منعطفات واضحة فيها، هذا ما أطمح إليه فعلاً وما لمسته من آراء حول مجموعتي الثالثة بالذات يؤكد هذا، فقد كنت معنياً في المجموعتين الأوليتين باستثمار طاقة اللغة والمخيلة الشعرية بشكل أساسي لكنني أعتقد أنني لم أغفل مفردات الحياة نهائياً، لكنها كانت مرمزة ومحجبة بفعل كونها كتبت تحت وطأة واقع ضاغط وقمع شرس، ربما تأنسنت لغني أكثر والتصقت بالتفاصيل أكثر في المجموعة الثالثة ولكن أيضاً ليس على حساب طاقة اللغة والمخيلة الشعرية، أنا حريص على مراقبة تجربتي من الخارج باستمرار وأستمع جيداً إلى الآراء حولها لأنني في النهاية أريد لإنجازي أن يكون مرئياً للآخرين وليس لي وحدي.

 

 

حوارات مع الشاعر