عبد الوهاب البياتي :

الشاعر الحقيقي لا تحدّه سلطة والذين يستسلمون ضعفاء لا شعراء
جريدة "السفير"

الجمعة 8/8/1989

 

في ثمانينيات الحرب العراقية ـ الإيرانية كان البياتي خارج العراق، يأتي إلى بغداد زائراً، وعادة في مهرجان "المربد" الذي كان يقام سنوياً خلال الحرب، ومع هذا فلم ألتق البياتي خلالها إلا كما يلتقي غريبان في مطار ليغادر بعده كل منهما إلى جهته.. كانت الحرب على الجبهات، قد استهوت جيلنا لينقلها إلى جبهات الشعر! فكان يشن هجمات بلا هوادة ضد الرواد وقصيدتهم من دون أن تسمح الحياة الثقافية بالحوار.

مؤخراً أتيح لهذا الحوار أن يبدأ بعد أن انفتحت هجرة جديدة لجيل جديد من الشعراء إلى خارج العراق.

في دمشق أتيح لنا أن نلتقي وعلى امتداد أسبوعين حيث حضر البياتي للمشاركة في تكريم الجواهري فكان لقاء وكان كلام متداخل عن العراق ومنه هذا الحوار المدوّن عن الشعر.

 

ـ المرأة، المدينة، القصيدة، مثلث التأنيث الذي يسافر فيه شعر البياتي، أين وصل بعد نصف قرن من السفر؟ كيف تكونت المرأة في شعرك؟

* المرأة في القصيدة غير المرأة في الواقع، فجوهر الحب هو الأصل، والمرأة مظهر من مظاهر هذا الجوهر، لهذا فالحب في شعري لا يعني امرأة بالذات، كما في شعر البرجوازيين الصغار، الذين يتغنون بالمرأة. صدقاً أو كذباً، فيؤلفون ما يسمى قصائد غرامية. شعري لا ينتمي إلى هذا النوع. الحب عندي يبدأ من امرأة واحدة، ربما ظهرت واختفت ذات يوم قبل خمسين سنة أو أكثر، لكن حبها ظل يحضر في صور شعرية، مثلما تظهر الآلهة في معتقدات الشعوب القديمة، في مظاهر الطبيعة بأشكال مختلفة، لكن القصيدة لا تعكس هذا التمظهر ـ إن صح القول ـ إنما تعكس جوهر الحب نفسه، بوصف الحب تجربة أو مغامرة عميقة تضع الإنسان على حافة الخطر، أو تجعله يشعر، دائماً، أنه على حافة الخطر.

في بداياتي لم تظهر المرأة بشكلها المحدد الواضح، كما في (ملائكة وشياطين)، فالمرأة في هذا الديوان أقرب إلى النموذج الرومانسي، لكنه ليس النموذج الرومانسي لدى علي محمود طه أو السياب. بل هي امرأة لكنها لم تولد، تريد أن تولد لكنها تظل في حالة المجاز أو حالة المطر أو الما بين! بعد ذلك، تحاول المرأة أن تتعين في أباريق مهشمة، لكن ولادتها لم تتم تماماً في هذا الديوان.. ربما ظهرت المرأة جوهر الحب وشكله الحقيقي ابتداء من نتاجاتي منذ منتصف السبعينيات، والتعبير عن الزمني والأبدي لهذه المرأة الأبدية، هو: المرأة الأولى التي تمثل جوهر الحب، أما الزمني فهو التجلي للمرأة الأخرى وهي في حالة تحول.

ـ ألم تشع، في ظلال هذه المرأة، مدينة؟.

* هناك إشكالية في موضوع المدينة، فالمدينة ليست التي ولدت فيها، فالولادة لهذه المدينة كانت قد تمت، أو أنها لم تتم بعد، وعندما أنظر إلى بغداد التي ولدت فيها لا أحس أنها بغداد القديمة، أو بغداد التي كان ينبغي أن تولد، إذ دخلت عوامل مختلفة شوهتها، وكلما قارب النضوج الاجتماعي والثقافي والفكري والحضاري على الاكتمال، دخلت عوامل على المدينة لتمزق نسيجها الحي، مثل الغزو الأجنبي، أو الداخلي، أو بالهجرة من الأرياف إليها. مثل هذه العوامل جعلت المدينة اشبه بثوب من الحرير أو النسيج، كلما أوشك على الاكتمال حلت خيوطه، ويبدأ من جديد، أحياناً بشكل فج وعشوائي لا بشكل أصيل. فالمدينة تحتاج إلى النضوج، والنضوج الحضاري لا يتم إلا بمزيد من المدارس والمتعلمين والمثقفين الهامشيين. المدينة بوتقة للاختمار الروحي، وما لم يكتمل هذا الاختمار فلن تكون مدينة، بل مجرد فندق كبير ومجمعات سكنية.. بغداد الطفولة كانت بالنسبة إلي هي المدينة المثلى، إذ انني كنت ألهو فيها أو أتجول في طرقاتها وأتأمل فضاءاتها قبل انبثاق الوعي لدي، غير أنني بدأت أعي بؤس المدينة والفقراء الذين يعيشون فيها، وبدأت الحقائق تتكشف لي ووجدت أن هذه المدينة أشبه بمدينة مزيفة أو شحاذ يلبس رداء مكوناً من خرق متعددة ومختلفة الألوان، لهذا لم يكن البحث عن النموذج هيناً، كان أشبه ببحث المتصوف عن الله.

مدن الضرورة

ـ لكن هل وصلت إلى تخوم مدينتك المفقودة؟

* حاولت في قصائدي أن اصنع نموذجاً للمدينة المثلى، لكن يبقى هناك فضاء بين المدينة الفضلى والواقع. معظم المدن في العالم مازالت مدن الضرورة لا مدن الحرية، مدن فيها بنوك، وسجون، ومدارس، وحدائق، وشوارع متربة، وذباب، ولصوص، وعيارون وشطار. يتجمع فيها الناس ويسرق بعضهم بعضاً بالقانون وغيره! وتهيمن عليها سلطة غاشمة. وهناك بقاع في العالم كادت تصبح مدن الحرية، لكنها مازالت "مدن ضرورة". لكن الشروط الإنسانية فيها أهون، خصوصاً المدن الأوروبية، الإنسان الأوروبي حر، لكنه يخضع لساعات العمل واليقظة والذهاب إلى المصنع أو المؤسسة التي يعمل فيها. هنا أتذكر قصيدة لجاك بريفير يصف فيها عاملاً كان يذهب كل صباح إلى العمل لكنه، ذات صباح مشمس، قرر أن يهب هذا اليوم لنفسه لا لصاحب العمل.. إنه تعبير عن هذه الظاهرة التي أشرت إليها.

حاولت في شعري وصف نماذج من المدن، في "مراثي لوركا" حاولت تصوير مدينة تشبه ارم ذات العماد، لكنها ليست نسخة عنها، ارم ذات العماد إنسانية وليست الجنة. كذلك في قصيدة "بستان عائشة" أصور مدينة أو بستاناً، والقصيدة لا تتحدث عن امرأة، بل عن حلم إنساني في المدينة، مدينة الحرية الحقيقية لكنني اتخذت من المكان والتاريخ وعاء مشتركاً، حيث تصورت عرب الشمال الذين كانوا موجودين في الهلال الخصيب قبل ظهور الإسلام حيث شكلوا الاختمار الروحي ومهدوا للثقافة العربية في ما بعد. كان ذلك تعبيراً عن محاولات، من ثوار أو فلاسفة أو متصوفة، وربما كان المتصوف أكثر وعياً وحدة في محاولاته من الثائر أو الفيلسوف، فهو يحتفظ في دواخله بأسرار خطيرة لا يستطيع إعلانها بسهولة.

ـ تؤكد، باستمرار، على أهمية أن تسكن التجربة داخل اللغة. ومع هذا فإن القارىء لشعرك يرى استعارات وأقنعة تستدعي شخصيات وأحداثاً تاريخية، ألا يبدو هذا الذهاب إلى التاريخ انشغالاً عن التجربة الشخصية بإيجاد مرجعيات معرفية؟.

* لا.. أبداً.. تحدثت عن ذلك في أكثر من مناسبة. ما أريد أن أقوله هنا انني أحاول أن أجعل من الأسطورة واقعاً وبالعكس. أذكر لك مثالاً: عندما توفي عبد الناصر لم أكتب كما كتب عشرات الشعراء من قصائد رثاء. لكنني بعد سنة أو أكثر كتبت قصيدة "مرثية إلى أخناتون" أخناتون التاريخي أصبح قيمة ثابتة تاريخية وحضارية، وبعيدة عن النقد كذلك، فالتاريخ أخذها وابتعد بها بحيث لم يعد من هم المعاصر أن يبحث في سيرة أخناتون. وهذا ما جعل منه صورة مثالية جميلة.

بعض الذين قرأوا القصيدة، أذكر منهم الدكتور لويس عوض، قال عنها: كأنها مرثية لعبد الناصر بالذات، لكن الشعر أحالها من قصيدة مناسبة إلى قصيدة أخرى.

كذلك، عندما أعدم عبد الخالق المحجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني في عهد النميري، وكان صديقاً حميماً لي، لكني لم أهتم بكتابة قصيدة عن موته. فالشعر ليس في مطاردة الأحداث ورثاء هذا أو ذاك، ما لم تتبلور به قضية جوهرية تتخذ إطاراً فنياً، لكنني كتبت "بعض المحكومين بالإعدام بعد سقوط كومونة باريس" وكل الذين قرأوا هذه القصيدة قالوا انها عن عبد الخالق المحجوب، لكنها دخلت في سياق فني ابتعد بها عن المناسبة. كذلك حاولت، قدر الإمكان، عندما ألجأ إلى القناع أو الأسطورة أن لا أتقصد الهروب من الواقع، لكن "أسطرة" هذا الواقع، لكي تصبح القصيدة أكثر حصانة.

ـ حصانة ضد ماذا؟.

* حصانة ضد الزمن، بمعنى أن القصيدة تقرأ الآن وتقرأ بعد خمسين أو مئة سنة كما تقرأ الآن ألف ليلة وليلة والأسطير الشرقية والعربية، هكذا انهج في الكتابة.

ربما ذلك لأنني أكره شعر المناسبات من أعماق قلبي منذ بداياتي، وكنت عندما أقرأ المتنبي أو سواه، فما أن أشم رائحة مناسبة في قصيدة حتى أبتعد عنها ولا أقرأها. "أستثني المناسبات الكبرى التي تلتصق بالشاعر" فالمناسبة تجعل الشاعر يزيف ما يكتب أو يزيف الشخصية التي يتحدث عنها لغرض مادي أو معنوي. فالشعر في جوهره محاولة للانتقال من الذات إلى الذات العليا.

ـ وهل نجا شعرك تماماً من قصائد المناسبة أو تلك التي تتوجه إلى شخص ما؟

* ربما تجد قصائد في نتاجاتي الأولى موجهة إلى فلان أو فلان لكن عندما تقرأ القصيدة تكتشف أنه ليس المقصود، لكن أحاول أن أجعل الشخصية نموذجاً لا أحوله إلى أسطورة فحسب، بل أقاربه كنموذج إنساني في إحدى حالاته. هذا الوعي في كتابة القصيدة لازمني منذ البدء نتيجة قراءاتي للتراث العربي وغربلته، وكنت حينما أقرأ قصيدة ولا أحسها تقترب من جوهر الشعر الحقيقي، لا أتمثلها في وعيي، بل أتركها وأنبذها. كذلك في قراءتي الشعر الأجنبي، كنت أحاذر قراءة الشعر الرومانسي لأنه يسقط في المطولات والثرثرة أو المثالية والإنشاء، باستثناء شيلي إذ أحببته لتركيز قصائده، لكن بايرون مثلاً قد يدخل في بحر من الرومانسية لا ساحل له على الإطلاق. فأصاب بالإشباع بعد صفحتين أو ثلاث من قصيدته فأتوقف. لكن الانتقال من الوضوح إلى الغموض من الواقع إلى الأسطورية، وبالعكس، يمنح القصيدة مستويات عدة للقراءة، فهناك من يقرأها على أنها واقعية وهي ليست كذلك، أو ثمة من يقرأها بوصفها أسطورة وهي ليست كذلك أيضاً.

في "بستان عائشة" مثلاً، وفي قصيدة "مترو باريس" بالذات، حاولت الاستفادة من نزول البشر إلى جوف الأرض وتحرك المترو بهم، وفيهم من ينام لأن محطته بعيدة، ومنهم من يقرأ الجريدة، ومنهم من يتملكه الوجوم والصمت. واستفدت من أسطورة نزول عشتار إلى العالم السفلي، وصورت حلم الجميع بالولادة الأخرى والانبعاث. لكن لن يولد أحد لا في الفعل الواقعي ولا في الفعل الرمزي.. والمترو سيصل حتماً إلى محطته الأخيرة.

أيضاً في قصيدة "مجنون اشبيلية" كنت ذات يوم في ساحة مقابلة للجيرالدا: "وكانت من أكبر المآذن ثم حولت إلى كنيسة وهذا لا يعنيني، الذي يعنيني رمزها الأدبي بمشهدها المهيب.. رأيت إلى جانب الجيرالدا رجلاً أشبه بمجنون ظهر واختفى، وبدلاً من أن أفعل كما يفعل بعض الشعراء العرب الذين يكتبون بشكل باك عن الفردوس المفقود ويبكون على الأندلس، تصورت إنساناً يموت تحت الجيرالدا، يصرخ صرخته الأخيرة ويموت.

ـ حديثك عن الموت يثير لدي سؤال، حول ثنائية الموت، الحياة وجدلهما الواضح داخل تجربتك ـ مثلما تتضح داخل تجربة الرواد ـ لكن ما يؤشر هنا أن هذا الجدل أو الفهم للموت لم يكن بالمعنى الوجودي الشامل، بل كان اقتراباً من موضوع الموت عضوياً.. كيف تميز تجربتك في هذا السياق عن بقية الرواد؟

* لا أستطيع الحديث عن غيري لكنني أستطيع القول ان الشعراء الرواد عبروا عن فكرة الموت كما قرأوها في الكتب! غير أنني لم أنطلق من قراءاتي بل من تجربتي المتواضعة مع موت الأشياء، الطبيعة، الإنسان، الأطفال، وهو ما أثار فيّ السؤال الوجودي: ما معنى الموت؟ وهذا انتهى بي إلى تبني فكرة أن الإنسان يموت من الحياة ولا يموت من الموت. وكنت أظن أن هذه الفكرة جديدة، لكنني اكتشفت الوعي بهذه الحقيقة لدى بعض الشعراء العرب القدامى، وان اكتافيو باث قد تأثر بهذه الفكرة عن طريق الاغريق ـ لكن العرب سبقوه ـ أذكر هنا طرفة بن العبد عندما يقول:

"أرى العمر كنزاً ناقصاً كل ليلة".

فالإنسان يموت من الحياة.. الذي يبلغ الثلاثين معناه أنه مات ثلاثين عاماً وهكذا.

هذه الفكرة لم أجدها في الكتب، قبل إحساسي بها، القراءة ساعدتني فقط على الوصول إليها لتأكيد ما أحس به أصلاً.

في ديواني الجديد "كتاب المراثي" قصيدة بعنوان "الشاعر والقصيدة" تلامس هذه الفكرة حيث أصور القصيدة غولاً يأكل السنوات الميتة لكن موت الشاعر يحل في القصيدة فيصبح حياة. فالمعادل الموضوعي للموت الذي يموته الشاعر هو: القصيدة..

ليس هناك ثنائية بين الموت/ الحياة، لهذا أفضل كلمة جدلية، فهما يتداخلان وأحياناً يسبق أحدهما الآخر.. فالشجرة لا تموت لأن البذرة تعيد خلقها، والإنسان يولد ليس هو نفسه بل من خلال أبنائه، أو إبداعه، أو من خلال الذاكرة الجمعية. أحس أحياناً، وأنا أكتب مقطعاً في قصيدة ـ انني سبق لي أن عشت قبل مئات السنين. كنت في هذا المكان قبل هذا الزمان وانني كتبت هذه الجملة ولكن لا أعرف. وحتى لا ندخل في الخرافة، أعتقد أن هذا يعود إلى العقل الجمعي. الإنسان يولد من خلال الذاكرة الجمعية لكنه ليس هو.

ـ ديوانك الجديد "كتاب المراثي" ـ يصدر خلال أيام ـ من المرثيون فيه ؟ ولماذا الغرض ـ الرثاء ـ؟ هل تعتقد أن الزمن العربي زمن رثاء؟.

* حاولت أن أقترح فكرة جديدة في الرثاء.. هناك مراث عن ابنتي قصيدتان طويلتان "إحداهما كتبتها بعد موتها مباشرة، والأخرى بعد سنة"، لكنها ليست مراثي عائلية بقدر ما هي تأمل جديد في وجه الموت. هناك قصيدتان عن "لويس عوض". تأملت بهما في وجه الموت من خلال مصر "البيئة والثقافة" وعدت بهما إلى امتداد الكاتب المصري ـ المصريين القدامى ـ كذلك قصيدة "الموت في المنفى" عن غائب طعمة فرحان. كنا رفاق طفولة نحاول الوصول إلى مدن العشق لكننا لم نصل إذ نكتشف أن ليس كل الطرق تؤدي إلى روما!..

في الديوان أيضاً قصيدة قصيرة عن ناجي العلي لكنها ليست قصيدة سياسية.. حاولت اقتراح نموذج للرثاء لم أسع إليه لكن موت الأصدقاء جعلني إزاءه. القصائد لا تقترب من الرثاء بالمعنى التقليدي إذ انني خرجت من الغرض تماماً بتقديمي نموذجاً جديداً.. وسوى مراثي الأشخاص هناك مراث للزمن "مرثية العمر" و"مرثية القرن العشرين" بخيباته وهزائمه إذ تتحول مدن مثل بخارى أو سمرقند إلى مدن أسطورية لا واقعية، هذه المدن لا أصورها كسائح بل كفلاح دخلها للمرة الأولى وعندما يعود إلى أهله يصفها بشكل أسطوري وخرافي لا يمت إلى الواقع بصلة، فالمدن عندما تغيب عن الذاكرة تأخذ أشكالاً أسطورية وهذا ما حاولت السينما الاستفادة منه بإنجاز سريالي بشكل مختلف.

في "كتاب المراثي" لم أتمثل غرض الرثاء، لكنني قدمت نموذجاً يختلف عما يكتب، لا علاقة لي بما يجري فأنا امضي كقطار يحترق.

التقنية

ـ بودي أن أنتقل إلى موضوع يتعلق بالتقنية في شعر البياتي، وتحديداً على مستوى الجملة.. فجملتك قصيرة ومختزلة كأنك تتقصد قطعها عند حد ما، ألا يشكل هذا التقطير عبئاً على الفيض الشعري لديك؟

* لا أبداً.. فأنا لا أحب الإطالة، ليس في الشعر فقط، أحياناً عندما أحضر محاضرة أكتشف أن المحاضر كان يمكن أن يتحدث خمس دقائق فحسب وتنتهي المحاضرة. لكنه يبقى يثرثر حتى يجعلني أنام أو يجعل الآخرين يملون.. في الشعر هكذا أيضاً، لاحظت منذ البداية أن القصائد الطويلة وخاصة المجلجلة تطرب حتى الناس الذين لا يفهمون الشعر إطلاقاً. ولأنني ـ أقول بتواضع ـ أفهم ما هي تقنية القصيدة فإن ما يزيد على الشعر يزيد. هناك شعراء تقع قصائدهم في عشرة أبيات، لكنهم يكتبون مئة بيت فتضيع الأبيات الجيدة، هذا يقودنا إلى التقنية، فأنا أرى الأشياء كما ترى الأشياء في الماء أو في أعماق البحر، أرى ما هي الكلمات وكيف أدخل التجربة وأقتنصها ـ بدون تخطيط ـ دون زيادة أو نقصان. وأحياناً بعد أن أنتهي أجد أن كلمات أو صوراً قد دخلت إلى القصيدة، لا علاقة لها بها، وإن كانت جميلة، فأسحبها على ورقة أخرى وأتركها وانساها لتظهر ذات يوم في قصيدة أخرى وفي مكانها بالذات. هذا الاختزال يخلق برأيي ـ الدهشة لدى القارىء.. وهو سر الشعر.

وعندما أكتب قصيدة طويلة فلا أكتبها دفعة واحدة بل على مقاطع، فتستطيع قراءتها مقاطع مستقلة، أو قصيدة واحدة، بحيث تكتمل وفق وحدة عضوية من الألف إلى الياء.

هنا أذكرك بقول غوته الذي يصف فيها الشعر الشرقي "يشبه البحث في أكوام من الفحم والحجارة فتعثر على عرق ثمين" أتمنى على الشاعر أن يضع لنا هذا العرق في قصيدته ويترك الحجارة.

ـ الأدب العراقي ـ الشعر خاصة ـ توزع على ضفتين: داخل/ خارج، سلطة/ آخر. وطن/ منفى.. بوصفك مطلاً على المشهد بضفتيه ألا ترى أن المنفى أصبح أيديولوجياً تبرر نماذج لا تمثل حقيقة المشهد، مثلما بررت السلطة نماذج مماثلة؟.

* قد يصح هذا الكلام على نماذج محددة، لكن الإبداع الحقيقي يتجاوز حدود المنفى/ الوطن، قد يكون المنفى مادة للشعر لكنه لا يصنع شاعراً. فالشاعر عندما يتكون يحمل منفاه معه دائماً سواء في المنفى أو الوطن. أنا شخصياً أميل إلى أن الوطن أو القضية الإنسانية بشكل عام إذا كانت غائبة عن الشعر، فإنه يتحول إلى ثرثرة. طبعاً هذا لا يعني أنني أدعو إلى شعر المناسبات الذي أرفضه أو إلى الشعر السياسي المباشر. لكن يجب أن تكون هناك قضية، ليست بالضرورة سياسية، لابد أن يؤمن الشعر بشيء، وليكن الحجر أو المطر، هذا أهم من التقسيمات. الشاعر الحقيقي لا يمكن أن تحده سلطة، وهؤلاء الذين يستسلمون لشروط غيرهم ضعفاء لا شعراء وسيتوقف إبداعهم عاجلاً أم آجلاً الشاعر الحقيقي عندما يولد، يتمرد، منذ القصيدة الأولى، على كل شيء حتى وإن أبدى الخضوع أحياناً. انك في السجن، ولكنك حر في أعماقك فلا ترضخ للشروط اللا إنسانية التي يحاولون فرضها. حرية الإبداع لا تعطى ولا تأتي من الخارج، بل تنبع من داخل الشاعر، وينبغي على الشاعر أن يحافظ على إبداعه من الخطر، فهناك قوى شريرة لا ندري من اين وليس مصدرها السلطة وحدها، هناك قوى شريرة من وسائل إعلام، وبعض الجرائد، الشارع، الشجرة، الشمس، الذباب، كلها قد تتحول ـ في لحظة ما ـ إلى قوى شريرة. أنا أخاف منها ولا أفصح ولكني أتوجس.

التنظير

ـ ثمة شعراء يكتبون "عن الشعر" أكثر مما يكتبون "في" الشعر. ما رأيك بالشاعر (المنظر)؟ وهل تستدعي التجربة الشعرية المتميزة، تجربة موازية في مجال التنظير؟.

* عندما يتحدث الشاعر عن تجربته أو تجربة البشر في الحياة، والتاريخ و.. فهذا ثقافة. ولكن عندما يمتهن هذا الشيء، يخرج عن كونه شاعراً.. الشاعر غير مطالب بالتنظير في شتى المجالات.. نحن تحدثنا ـ في هذا الحوار ـ وربما توصلنا إلى أفكار ومعان أكثر من النظريات. ذلك اننا كنا نلامس التجربة الحية الخلاقة للشعر وليس الحديث عن النظريات من الخارج.. فأندريه بريتون كان مفكراً كبيراً لكنه ليس شاعراً كبيراً! تستطيع إضافة اسمه إلى أسماء لينين وفرويد ويونغ، لكننا لا نعثر في إبداعاته الشعرية على قصيدة أو عمل كبير مثلما نجد عند أراغون أو سان جون بيرس أو بودلير. فعندما تغلب النظرية على الشعر فمعنى ذلك أن الشاعر أحس أن التنظير أفضل له، وأقدر عليه! وأنت تعرف أن التنظير موجود في كتب كثيرة وتستطيع أن تحصل عليه من أقرب مكتبة أو صيدلية! أما الإبداع فصعب لا يوجد شخص في التاريخ أبدع نظريات وحده، فالنظريات هي مجموعة من الإسهامات أما الإبداع ففردي.

ـ هل تعتقد أن الشعر العربي مهيأ لانعطافة نوعية في مساره الحالي، وهل تحققت انعطافات واضحة خلال نصف القرن الماضي؟.

* الشعر ليس كتابة فحسب، بل هو فعل إنساني بالإساس، والكتابة آخر مرحلة من مراحل الشعر، فالشعر لا يصنعه جيل بل أجيال. ولهذا فدائماً نحن على أعتاب انعطافة مقبلة والتحقق مستمر في الراهن كذلك.

ـ لمناسبة حديثك عن الأجيال كيف تنظر إلى هذه القضية خصوصاً وأنها من أبرز علامات التحاور وأحياناً التصادم في حركة الشعر الجديد؟.

* قضية الأجيال لا تعدو أكثر من كونها "إثارات صحافية" دخلت إلى الحياة الثقافية وأحاديثها اليومية من خلال الصحافة إلا أنها ليست ذات رسوخ نقدي. فالشاعر حتى لو كان في العشرين من عمره فقد يرفعه إبداعه إلى مصاف الشعراء الكبار، الشاعر الحقيقي، ومنذ أولى قصائده، يصيح كالديك معلناً عن نفسه، ولا جدوى من شاعر يكتب ولا يصل إلى نفسه. بعض الشعراء لا يجدون لهم مكاناً بين الشعراء فيحاولون أن ينسبوا أنفسهم إلى جيل معين أو إلى مدرسة شعرية. أنت الآن وريث تراث شعري عمره أكثر من ألفي سنة. لكنك لست مطالباً بإعادة إنتاج هذا التراث، إنما عليك أن تبدأ من حيث انتهى إليه إنجاز من سبقوك.. أنا أتساءل: كم من الشعراء أدركوا هذه الحقيقة، وبدأوا من حيث انتهى إليه هذا المنجز بتواصل وانقطاع؟.

ثمة شعراء أشبه بذرات عائمة في الفضاء وليس لها وصول، فهم غير قادرين على الطيران والتحليق. لكن هناك شعراء يؤسسون وكبار، مع أن تأسيسهم غير قائم على ذواتهم فحسب، وإنما ابتداء مما أنجز، هم يتربعون على ما أنجز، ويبدأون من هناك.

ـ وقضية الأشكال أو الأجناس هل هي بدائل من بعضها أم تطوير داخلي ونمو طبيعي لاحتمالات الشكل الشعري؟.

* قضية الاشكال الشعرية من عمودي إلى تفعيلة، إلى قصيدة نثر هي أشبه بمحاولات النعامة لإخفاء رأسها.. الاختباء  خلف الشكل الشعري لا يعنيني، ما يعنيني حقاً، هو الإبداع. وإلى جانب هذا يحزنني أن أقرأ بعض الكتابات التي لا تحقق شيئاً سوى الدوران حول ماهية الكتابة، وتضعك أمام سؤال: هل "الكتابة" إنشاء؟ أم إنجاز لغوي محض؟ وإذا ما تحققت الكتابة فما هو الجديد؟ هل تستبدل العمود بالتفعيلة أم التفعيلة بالنثر؟ أعتقد أنه لابد من دوافع تقود إلى مغادرة شكل شعري إلى آخر مختلف، لابد من مشروعية ترسخ أهمية المغادرة وتبررها، وبعد هذا لا يهم الشكل الذي تكتب به.. قرأت مؤخراً كتاباً ضم رسائل ناظم حكمت إلى أصدقائه وكانت من روائع الأدب العالمي، ولم يكن شكلها الأدبي عائقاً أمام إعجابي، كذلك قصيدة النثر حققت حضوراً لافتاً لحضور الشرط الإبداعي فيها.

ـ بعد "الأجيال الشعرية" و"الأشكال الشعرية" أثير معك قضية "العواصم الشعرية" هل تعتقد بوجود مراكز شعرية عربية؟ خاصة وأن أطرافاً هو هوامش بدأت تتقدم بوضوح داخل خارطة الشعر العربي؟.

* حتى عندما نعود إلى الجاهلية أو الشعر العربي بعد الإسلام نجد شعراء يأتون من الأطراف وهم مبدعون وهناك شعراء يهربون من القلب إلى الأطراف لأسباب لا تجعلهم قادرين على العيش في المركز. أعتقد أن هناك حركة شعرية عربية، وأية قصيدة مهمة يكتبها شاعر حقيقي في أي مكان فإن تأثيرها يمتد خارج المكان الذي كتبت فيه وخارج ثنائية القلب/ الأطراف، أيضاً.. هذا أسلوب آخر للاختباء، إذ ليس هناك انتقالات للعواصم الشعرية، لكن في تصوري أن القلب هو الذي يمد الأطراف بالدم وليس العكس.

 

حوارات مع شعراء عراقيين