الشاعر عبد الحميد الصائح.. عن قضايا الشعر

خطاب المنفى ينوح على جغرافيا بلا ملامح

الجيل الشعري خارطة مفترضة للاضطراب

وما يكتب بمعزل عنها يندرج في السائد  

الرأي الآخر

العدد الثالث

كانون الأول 1994

منذ هبوب الثمانينات حتى اكتمال العاصفة في التسعينات، ومن مقهى حسن عجمي إلى مقهى الروضة، من أول الجيل إلى عائلة الشتات، حيث كان إزاء مصيره الفردي، إبداعياً وإنسانياً ومن "المكوث هناك" إلى عناوين لمدن ونساء ولقصائد!

نلتقي بأكثر من مكان، ونفترق كل إلى قصيدته.

ومنذ خروجنا، اعتدنا اللقاء سنوياً، لندفع الحوار، في الشعر، إلى تحريض الكامن من الأسئلة. وهو حوار يكاد يكون منحسراً في المنفى.

هذه السنة التقينا أيضاً، كان شيء حقيقي، كالشعر، يجمعنا، لعله المصير.

ولذلك كان هذا الحوار، في قضايا، الشعر، بعد أن حاورنا الشعر بلغة أخرى

ـ أنت تنتمي لما اصطلح عليه بجيل الثمانينات. بل تمثل واحداً من الأسماء الأساسية في هذا الجيل. كيف ترى، بعد تشتت أغلب أسماء هذا الجيل، تجربتكم؟.

* قبل الحديث عن تجربة مؤطرة لمجموعة من الأسماء ينبغي الإشارة إلى قضية أساسية في هذا الصدد، تلك هي الظروف والدوافع التي تتأسس في ضوئها التجمعات والتيارات الأدبية وأجيال فيما بعد.. أبرز ما أود تأكيده هنا، أن الشعر العراقي اعتراه الكثير من المنعطفات، وهي منعطفات أساسية ربما كانت ردود أفعال عنيفة لما يحدث في هذا البلد منذ نشوئه الإداري الحديث من قلق واضطراب وتحديات، ففكرة الجيل الثقافي، ليست فكرة تلقائية أو تصنيفاً موضوعياً بقدر ما هي خارطة مفترضة للاضطراب، ومؤشر لمنعطفات التاريخ العام عبر الإشارة لجيل ما، والتاريخ الشخصي عبر أبرز رموز الحقبة أو الجيل، ولذلك كثيراً ما تتقدم تجارب شعرية أساسية في الجيل، وتضمر أسماء وتجارب لم تنتم إلى قضية الجيل أو الحقبة، وإنما اقتربت من رموزه اقتراباً سطحياً بفعل العمر أو الظرف الاجتماعي.

إذاً الحديث حول الأسماء حديث غير مجد بل غير موضوعي أساساً. هنالك تحديات أساسية وعالية، كان ينبغي أن يكون لها فرسانها. إن لم نكن نحن في الثمانينات فحتماً كان آخرون مهيأين للاضطلاع بها. وهي تحديات ذات مستويات عدة منها ما هو باطني باطنية فرضها الظرف السياسي ومنها ما هو صاخب صخباً تطلبته مواجهة التيارات السائدة. فضلاً عن مستوى تحدي الذات واستفزازها باستمرار. ومجمل ذلك أدى إلى إحداث خلخلة في الاتجاه الشعري، ومواجهة حتمية في الخروج عن المؤسسة، ليست المؤسسة الرسمية حسب بل المؤسسة بوصفها الآخر، الثوابت والتأصيل الخاطىء، وفهم الشعر من زاوية كونه جزءاً من الحياة لا الحياة برمتها. في ضوء هذا المناخ المتنوع المثير كان نمونا وتوجهنا وكانت جهودنا واستثناءاتنا، ربما بدأنا بصيغة ما، وانقلبنا فيما بعد في ضوء ما مضى وأخذت الأماء التي احتشدت والنصوص والقصائد التي سالت تتبلور وتتضح خلاصتها فيما يمثل جبهة جيل الثمانينات والخط الساخن في إنجازه الشعري. بمعنى أن الجيل الشعري، هو قضية شعرية واشكال عام. وما يكتب بمعزل عن ذلك سيندرج في السياق السائد حتماً.

ـ وهل بقي هذا الهاجس إطاراً ثابتاً للتجربة عموماً في ما أنتج شعراء الثمانينات من نصوص؟.

* أنا أشرت للمناخ العام. أما فيما يتعلق بالإنتاج الشخصي وهو لاشك متخرج في ذات الهاجس، فالأمر مختلف. لأن تجربتنا اصطدمت بأحداث ووقائع ضخمة استفزت براءتنا وتلقائيتنا جميعاً، وبالتأكيد بدت ردود أفعالنا متفاوتة غير أن ذلك أضاف إلى المشروع الشعري الشخصي كثيراً، وبالأخص تجربة المنفى ومداخلاتها وظروفها الغامضة، كذلك تنوع المناخات التي يكتب الشعراء في ضوئها. فالآن يقرأ محمد ظلوم لا كما يقرأ عبد الحميد الصائح أو محمد تركي أو نصيف الناصري أو ناصر مؤنس مثلاً.

وما يحيط شاعراً من ظروف وملابسات لا تحيط آخر. غير اني أصر على ان قضية الانقلاب الشعري ظلت على عناصرها وتطورت وأنتجت وأنتج في ظلها.

ـ في شعرك جو غرائبي جعل البعض من رواد القراءة العابرة يتهمونه بتهم شتى، فيما نرى من خلال رؤيتك مقاصد أعمق في تلك الأجواء هل هي استراتيجية شعرية. وكيف ترى ذلك؟.

* يضعني سؤالك هذا في دائرة من الحرج، لا لكونه محرجاً، بقدر ما يدفعني مرغماً للحديث عن تجربتي الشخصية، غير اني قد أفلت من ذلك كله، وأتحدث عن فكرة النمو والاستثناء داخل التجربة نفسها، فالشاعر ليس فكرة مبيتة مقصودة، انه مشروع مفترض، لتعتريه احتمالات شديدة، ولذلك لم أنوِ يوماً أن أكتب بطريقة مجددة. كنت وفياً لاحتمالاتي الشخصية وشديد التركيز على توسعة تلك الاحتمالات أكتب بتأن لأني أفكر بمشروع أبعد وأعمق وأكثر تيارية أفدت كثيراً مما حدث من منعطفات في الشعر والتاريخ والأحداث. ولم أضع تجربة محددة أو شخصية بإزاء ما أنتجت بل ربما كنت بطيئاً في تحولي، غير انه بطء مشحون بالحساسية لا إزاء ما أقرأه بل بإزاء ما أكتبه أنا شخصياً فحاولت من خلال شحن تلك الاحتمالات استثمار كل ما قرأته وتعلمته وحلمت به في سياق الأسطورة والملحمة والمسرح وأخذت فكرة الإنتاج الشعري كثيراً من ذلك بوصفها فكرة للفراغ والشطب. وليست فكرة للملء والإضافة. ولذلك يصطدم بعض القراء بنصوصنا لأنهم يحاولون رؤيتها في ضوء قواميسنا المعلنة في الحياة والمجتمع. وهذا مناقض تماماً للظهير الحسي والمعرفي الذي أنتج هذه النصوص. فنصك هو أنت كما هو لا أنت كما أعرف، وأنت، كما هو، لاشك يعتريك شيء من الاحتمال والقلق والغموض، بل سينطوي النص حتماً على إشكاليات وتحديات نفسية ولغوية حين يأتي القارىء التقليدي إليه دفعة واحدة، يكون كالأعمى حتماً، وحين يأتيه محملاً بالمحددات والثوابت وتقصي القاصد، سيخرج خالي الوفاض، غير ان استدراج النص وحيثياته إلى مخيلة القارىء ستنتج عالماً ممتعاً وآلية مشتركة من التأويل والانبهار بين المتلقي والمنتج. وفق هذا المنظور أنا أقرأ التجارب الجديدة وأتحسسها وأجد ما أتقصى مداه.

ـ مع هذا فثمة فارق بين مرحلة وأخرى من مسيرتك الشعرية، وخصوصاً في مجموعتك نحت الدم عن مجموعتيك السابقتين، هل يأتي ذلك ضمن إشارتك للتحول المستمر في التجربة؟.

* ليس من السهل الحديث نقدياً عن الاختلاف بين ما أصدرته ذلك اني أرى أن الرؤية النقدية لدى الشاعر تكون أساساً سابقاً يتدخل عفوياً في الإنتاج الشعري وليس فيما بعد كما هوحال قراءة ناقد لشاعر آخر، بل ان حكم الشاعر على ما ينتجه ينبغي أن يكون قاسياً وعنيفاً ومنقلباً كي ينحرف باستمرار عن ناتجه، وهو انحراف كفيل بدفع الشاعر إلى مفاجأة ذاته، ومفاجأة الآخر بالجديد من إنتاجه، غير ان هذا ليس مخططاً يضعه الشاعر، انه مخاض يخضع لظروف وضغوط وردود أفعال. وما حدث خلال الحرب وبعدها، ألقى بظلاله على مشروعنا الشعري، بل أخذت ثنائية اللغة. الحياة تتشعب وتنفرط وتتجدد. ولأن مشروعنا الشعري محفوف بتراكمات عديدة وتنوع ملحوظ، تمكن كل منا من احتواء المستجدات التي حدثت بطريقته وفي هذا المضمار جاءت النصوص التي كتبها بعد الحرب مختلفة، وساخنة وذات تصعيد وجداني ملموس، فيما كانت النصوص التي سبقت ذلك والتي كتبتها داخل الوطن وخصوصاً الركض ببطء، ليس الهابط، النوم في النقطة، آخر العداء، المبعثرة، وغيرها، تضج بالاشتباك بين اللغة بوصفها ذات وبين الصورة أو المشهد، بوصف الحدث فيه لغة تنمو وتعبر وتتوالد وتختلف. وذلك كله جاء بعيداً إلى حد ما، عن بداياتي وخصوصاً في المكوث هناك، التي كانت أحلاماً وتحديات وثقة أولى في اقتحام غابة الشعر، لاسيما الشعر في العراق.

ـ لا تقاليد ثقافية في المنفى! وعادة ما تستهل الأحكام خارج منهجية النقد لتصل إلى عقدة الاتهام والاتهام المضاد، والمثير أن يكون هذا الاتهام خارج الأعراف الثقافية. ما تعليقك على ذلك؟.

* سأجانب سؤالك قليلاً، لأجيب عنه بوضوح بعيداً عن التشنج الذي قد يوقعني في ذات الرأي الذي أشرت إليه، فتجربة الوطن ـ المنفى، كما يبدو تجربة شائكة وذات مواصفات شتى يصل بعضها إلى التقاطع التام مع بعضها الآخر، ومرد ذلك في اعتقادي إلى تعدد الموجات والاتجاهات التي غادرت الوطن أولاً ثم إلى تداخل الثقافي بالسياسي بالاجتماعي خارج الحدود، فالاختلاف مع المؤسسة لا يمكن أن يتجزأ، إذ ليس هو اختلافاً مع منهج أو تقاليد أو فكرة، أو سلوك كل على حدة بل ينبغي أن يكون اختلافاً شاملاً بدائلياً. أي تكريس تقاليد إنسانية أولاً ضمن هذا الاختلاف ثم ترسيخ البدائل الثقافية والسياسية وغير ذلك.

ويبدو أن غياب هذا أدى إلى غياب الحوار المتزن الهادىء بين المثقفين في الخارج، وهو على ما أظن يتصل بفكرة "الاحتمال" التي يعيشها الأديب والسياسي والمواطن الاعتيادي بالدرجة ذاتها من جهة، ومن جهة أخرى، في تداخل الاجتماعي بالثقافي في تكريس الشخصية، فالأديب في المنفى جعل من نتاجه، مبرراً لتمرده، واي حوار جاد وساخن مع هذا النتاج، يتحول إلى تقويض فكرة التمرد تلك والإشارة إلى شرخ في وجوده تماماً، في وقت كنا في الداخل نتوقع أن نحظى بتقاليد مثالية في إتاحة حيز من الحرية في الحوار الثقافي.

ـ إذن.. خارج ثنائية المنفى ـ الداخل، كيف تنظر إلى التجربة الجديدة في الشعر العراقي؟

* ربما يكون الشعر في العراق في السنوات الثلاثين الماضية أشد المشاهد غلياناً، وذلك لأن المؤسسة لم تستطع تغييب العناصر الأساسية لنمو الشعر وتحوله واختلافه مثلما حصل في جوانب أخرى من الثقافة والفنون ولذلك خرج الشعراء العراقيون الجدد من العاصفة المعلنة بعواصف سرية متنوعة، ما أن أتيح لها المناخ حتى تقدمت واجهة المشهد الشعري العراقي فضلاً عن ذلك ظهر شعراء كان يبدو للآخرين هناك أنهم ثانويون ليحملوا لواء الشعر الجديد في العراق، ليس من خلال نصوصهم حسب، بل من خلال مشروع شعري جديد له أبعاده وآفاقه التي عرف المثقفون العرب بعض امتيازاتها، وللحرب تأثيران في هذا الباب، أولهما جعل الشعراء الجدد وسط الكارثة وعلى تماس بظروفها، وثانيهما، دفع عدداً من الشعراء إلى البحث عن أساليب مغايرة في التعبير عن عالم استثنائي، ولذا أرى أن دراسة الشعر الثمانيني في العراق بعناية، سيتمخض عنه الكثير من المعطيات بشأن الشعرية واللغة والإيقاع والإيقاع المضاد، وما يكتنفه ذلك كله من ظروف نفسية وتاريخية وأخرى.

ـ الوطن ذاكرة تستعيد فيما المنفى ذاكرة تشتت. أين يتجه نصك بينهما؟.

* جدلية الوطن والمنفى تنحصر في منظومة علائقية شديدة الحساسية، ربما نبدو أقل خبرة زمنية في تشخيصها، غير أن فينا من الدهشة والإحاطة ما يدفعنا إلى فهم عالم ندخله الآن والحذر من ابتلاع مداخلاته لأمتعتنا المليئة بالحيادة والحزن والشعر والمجهول. فالعلاقة بين الشاعر والوطن تبدو أحادية غائبة الملامح في الداخل تنحو الذاكرة خلالها إلى الافتراض والاستعادة، وتبدو العلاقة شكلاً آخر في المنفى، شكلاً فيه من التعدد والتنوع ما يجعله حيز الحرية في المنفى علاقة شاملة بين الشاعر والوطن. بمعنى أن العلاقة في الداخل تتأسس في ظل احتمال واحد.

فيما تتأسس في الخارج في ظل احتمالات شتى ولذلك تمنح المسافة بين الوطن والشاعر حيزاً حراً من التأمل والأصناف والحلم فيكون الوطن حاضراً بكل تفاصيله حضوراً اختيارياً، ومساحة للإنتاج الوجداني وتأخذ مفاهيم الحنين، والعائلة، والموت، والطفولة، وغيرها مواصفات أكثر وضوحاً وهو وضوح كثيراً ما يتدخل بقوة في الخطاب الثقافي والسياسي في المنفى.

وهو خطاب مأساوي في أغلبه وله خصوصيته المختلفة عن خطاب المنفى الفلسطيني مثلاً، فالأخير أنشأ وطناً بكامل مؤسساته وملامحه وتراثه خارج الجغرافي، فيما بقي الخطاب العراقي في المنفى ينوح على جغرافيا بلا ملامح.

ـ أصدرت حتى الآن مجموعات شعرية ثلاثاً وكتاباً في المسرح ولديك أنشطة نقدية متنوعة. هل تعتقد أن المشروع الثقافي يحتم كماً لترسيخه أم أن هذا الكم لترسيخ اسم المثقف؟.

* إذا بدأت من ترسيخ اسم المثقف فإن ذلك لا يتصل بالمساحة التي يملؤها، بل بتأثيره في الحياة الأدبية والثقافية. وربما يصبح للكم خارج ذلك التأثير مردود عكسي في إشاعة اسم لا معنى لما ينتجه وهذا حاصل في وسطنا بشكل جلي. أما عن إنتاجي الشخصي فأنا أراه بطيئاً ولا يتناسب مع مساحة المشروع الذي أتبناه مع أبرز الشعراء الذين ظهروا منذ الثمانينات حتى الآن. وليس للكم أي مؤشر سلباً أو إيجاباً، نشر عبد الرحمن منيف ثمانية أعمال روائية مهمة في غضون فترة قياسية، في وقت نشر محمد خضير مجموعتين قصصيتين فقط ليس هو فيهما أقل شأواً عن الأول، فيما نشر السياب الذي توفي وهو في عمري الحالي، دواوين ودراسات معروفة للجميع. إذاً فكرتا الكم والكيف فكرتان مختلفتان عن بعضهما. لننصرف إلى طبيعة ما ننتجه، ولنترك كل ضجيج لا يتصل بدائرة النقد والحوار الجاد والرؤية الفاعلة البيضاء بإزاء محنتنا في الكتابة والحياة.

حاوره: محمد مظلوم
ــ

حوارات مع شعراء عراقيين