سعدي يوسف

أنا شاعر حياة، والمواضيع لديَّ لا تنتهي

حاوره: محمد مظلوم

دمشق 

ملحق الثورة الثقافي

العدد /13/ الأحد 2/6/1996

 

 

سعدي يوسف: "المنفي المحترف" والشاعر "المبتدىء" في طبيعة تعامله مع الأشياء والعالم، أعطاه المنفى بوصلة مشاكسة فصار لا يلقي عصاه ولا تستقر به الأمكنة. وأعطاه الشعر قلقاً وارتباكاً جعلاه يضيق بالعبارات والأشكال، مقترحاً ـ باستمرار ـ أشكالاً جديدة سرعان ما يهجرها أيضاً.

عن أشكاله المسكونة بالقلق، وفي أمكنة تنسخ بعضها، تشكل هذا الحوار الذي بدأ ـ أساساً ـ عندما كان الصديق الروائي شاكر الأنباري "يدقق" مجموعة سعدي الجديدة "قصائد ساذجة" قبل صدورها عن "دار المدى" بدمشق إذ أن جاذبية العنوان، والمفارقة التي يحملها، في الوقت ذاته، دعتني إلى المبادرة بالسؤال عن فكرة السذاجة ليندفع الحوار، بعد ذلك، في أكثر من اتجاه.

ـ كتابك الشعري الجديد ـ الذي يصدر قريباً عن دار المدى ـ يحمل عنواناً مثيراً نوعاً ما، بعد ديوان حمل عنواناً مثيراً أيضاً هو "إيروتيكا".. إذن لماذا "قصائد ساذجة"؟

* ثمة أكثر من مبرر جعلني أطلق هذه التسمية "قصائد ساذجة" على ديواني الجديد.

أولها: انني أفترض أن القصيدة، حتى العميقة، توهم بالسذاجة، بمعنى أن السذاجة أحد عناصر الإيهام الضرورية في الشعر.

ثانيها: ان قصائد هذه المجموعة تحمل مزاجاً متفائلاً إلى حد ما، وهو مما يمكن وصفه بالسذاجة في مثل أحوالنا هذه.

المبرر الثالث: إنني أريد أن أذكر، دائماً، بأن مسيرة الشاعر تظل مترددة، تجريبية، إنني أريد وأدعو، إلى أن نتمتع جميعاً بقدر من التواضع إزاء الفن.

ـ وهل كان من نتائج عدم التواضل إزاء الفن، أن بدأ الشعر يبتعد عن الإنسان؟.

* ما قصدته هو أن الشعر فن عظيم مثل أي فن آخر، وربما أرقى، ويظل الطريق إليه قاسياً وصعباً وقد لا تتمكن حتى مسيرة طويلة من بلوغ مشارف ملكوت الفن.

ـ وما علاقة "قصائد ساذجة" بكتاب "ايروتيكا" موضوعاً وتقنيات؟.

* لا علاقة على الإطلاق لكتابي الجديد بقصائد "إيروتيكا".

ـ هذا يثير لدي سؤال يتضمن فكرة مفادها: إنني أرى في تجربة سعدي يوسف، خاصة في السبعينات وتحديداً في القصائد المكتوبة في المغرب العربي، "الأخضر بن يوسف، ونهايات الشمال الأفريقي" وسواهما.. أرى في هذه التجارب مقترحات شعرية هامة أسهمت في تجذير نهج شعري عمقه أكثر من شاعر عربي كبير لاحقاً، لكن الملاحظ أن سعدي يوسف نفسه لم يواصل انعطافاته الأسلوبية تلك خاصة في العقدين الأخيرين؟.

* أنا أجهد دائماً، في التوصل إلى قيم جمالية وتعبيرية معينة، أجد أن عدداً منها يمكن المضي معها في خطوة تالية إلى احتمال آخر، على أنني، في الوقت ذاته، أجد قيماً أخرى. وقد توصلت إلى أنني لم أعد بحاجة إلى المضي معها إلى الأبعد، فأتخلى عنها، من ناحية أخرى أنا لا أستطيع أن أبقى أسير أسلوبية معينة، فأنا كاتب، وفي الوقت ذاته قارىء، تؤثر في قراءاتي واطلاعاتي خاصة في مجالات اللغة، والجماليات، والفلسفة، كذلك تؤثر في قراءاتي لأنواع أدبية غير الشعر، تجعلني أقارب قيماً أدبية موجودة في أنواع أخرى ـ لعل في هذا أحد المقترحات التي قصدتها ـ لكنني أيضاً لا أستطيع مواصلة السباحة في الحوض ذاته والماء ذاته وقتاً طويلاً.

ومن بعد، أنا شاعر حياة، ليس لدي موضوع واحد أو عدد محدد من المواضيع التي تملي مقاربتها، أسلوبية موحدة ومستمرة. لديّ آلاف الزوايا، والمواضيع لا تنتهي لدي. كل قصيدة تختار شكلها في نهاية الأمر، ولست أرى بأساً في مثل هذه الحالة، هذا يشعرني بحركية دائمة.

ـ ما دمنا بصدد الموضوع، فقصائد "إيروتيكا" شكلت موضوعاً شعرياً جديداً في تجربة سعدي يوسف، إذن ما هو الموضوع الجديد في "قصائد ساذجة"؟.

* ليس فيها موضوع موحد، كما كان الحال في "إيروتيكا" لكنها تحتوي على موضوعية تتألف من عشر قصائد موجهة إلى عشرة أسماء، منهم: محمود درويش، حسب الشيخ جعفر، فوزي كريم، عبد اللطيف اللبني، حيدر صالح، وليد خازندار، زاهر الغافري، وسواهم. في هذه القصائد حاولت إقامة حوار ودي مع الشعراء، حاولت أحياناً، الاقتراب من أسلوبية الشاعر نفسه مع ملاطفة أو مداعبة ـ فنية ـ كنت أشعر، وأنا أكتب كل قصيدة من هذه القصائد، بحاجة إلى التحدث مع الشاعر نفسه فكانت هذه القصائد.

ـ والمرأة في هذا الديوان؟.

·      غائبة تماماً.

 ـ أخشى أن تكون إيروتيكا استنفدت هذا الموضوع!.

 وهل تعتقد أن ثلاثين قصيدة في ديوان واحد كافية لاستنزاف موضوع كهذا؟.

* أنا لم أخطط لمثل هذا في ديواني الجديد، لكن الاهتمامات جعلت موضوعات القصائد بهذا الشكل، أنا لم أخطط لهذا الشيء، ومن يدري قد أعود إلى موضوع المرأة بكتابة "إيروتيكا".

ـ بعد السياب وجيل الرواد سار الشعر العربي في اتجاهين أساسيين، هما اتجاه الاحتفاء باللغة وتظهير حياتها الأخرى، عبر ما يسمى كيمياء اللغة، وهو الاتجاه الذي يمثله أدونيس، والآخر اشتغل داخل بلاغة الحياة وتجربة الحواس ورصد التفاصيل، وهو ما مثلته تجربتك بوضوح، شخصياً أرى كلا الاتجاهين ضرورياً، والنص المثالي هو الذي يستطيع راهناً أن يدمج الاتجاهين في اتجاه واحد؟.

* ما تشير إليه يمثل رؤية قرائية للاتجاهين، وما أريد أن أوضحه هنا يتعلق برؤيتي للقصيدة، إذ كان طموحي الأول هو أن أحاول الانتباه ـ والتنبيه في الوقت ذاته ـ إلى أشياء الحياة وإلى ضرورة اقتراب الشعر منها، والتعامل معها، ذلك أن الإنهمام بأشياء الحياة ومعالجتها هو السمة الأساسية لتحقيق ما أدعوه "أخلاقية النص" وإذا ما تحقق هذا الأمر، يمكن من ثم العبور إلى ضفاف أخرى لإجراء عمليات تجريد وتصعيد مختلفة ومتنوعة لا تحد.

في ما يتعلق بي، أعتقد أنني أسهمت في التأكيد على المعالجة الأولى ومن الطبيعي أن تلتقي روافد الشعر مع بعضها، فالشعر هو ساحة لعب وليس ساحة معركة.

ـ لكن هذه المعالجة بما فيها من مجاهدة ضد البلاغة، جعلت شعرك الأخير يختلط بالأشياء حتى كاد يكون هو ذاته شيئاً؟.

* أساس الأمر يكمن في كيفية معالجة اللغة، باتجاه تقريبها من الشيء نفسه، أي إنني حاولت التخفيف كثيراً من الهالة المحيطة بالمفردة ونزع قشرة الرمز بقدر ما، كذلك حاولت التعامل مباشرة مع أسماء الأشياء، دون إضافات أو نعوت أو زيادات، وأحياناً حتى دون شحنة عاطفية، أعتقد أن هذا هو الذي جعلك تنظر إلى عدد من النصوص الأخيرة هذه النظرة، وأعتقد أنك تقصد المجاميع الأربع الأخيرة بالتحديد من "قصائد باريس" إلى الآن، وقد تتضح في "جنة المنسيات" ثم "الوحيد يستيقظ" وصولاً إلى "إيروتيكا" وهو ما حاولت الخروج عليه في "قصائد ساذجة".

ـ بما أنك معني بالقصيدة (أقصد انشغالك بتطوير تقنيات القصيدة داخل الشعر نفسه) هل ثم اقتراح جديد في بناء القصيدة تقدمه مجموعته الجديدة؟.

* أعتقد أن في هذه المجموعة اقتراحين على الأقل، اقتراحين داخل القصيدة نفسها، في بنية القصيدة الأسلوبية، ليس في الطول أو القصر، فهذان لا يعنيان لي شيئاً، لكن الأسلوب خارج هذا، انه في تداخل عدة تقنيات وتوظيفها في سياق تعبيري موحد وموجه.

ـ هذا يعني أنك تضع "قصائد ساذجة" في مكان ما في مسار تجربتك؟.

* نعم، يمكنني أن أضيفها إلى مكان في ارتباك تجربتي الشعرية.

ـ كيف؟.

* في عدم استقرار تجربتي، فأنا منذ "قصائد باريس" إلى "إيروتيكا" كنت أسير في مسعى شعري واحد، الآن عليَّ أن أربك نفسي.

ـ مرة أخرى! كيف؟.

* في هدم الاستقرار، في هدم الرضا الذي استمر على مدى أربع مجموعات، إرباك فني على مستوى الكتابة، فخلال المجاميع الشعرية الأربع الأخيرة أضفت إلى تجربتي قيمة معينة: قيمة جمالية وقيمة في معالجة اللغة، يمكنني أن أستخدمها في أعمال أخرى، في هذه المجموعة ثمة نوع من الافتراق عن المجاميع الأربع، ولم أخطط لهذا أبداً، لكن ما كتبته يعبر، بالضبط، عن هذه البداية، البداية التي لا أعرف إلى أين سوف تؤول.

ـ فنياً، بماذا تتمثل هذه البداية؟.

* في الخروج عن تقشف اللغة، في مزاوجة وتمازج أسلوبي كأن استخدم النص الحر وقصيدة التفعيلة داخل القصيدة نفسها.

ـ هل يعني هذا التداخل الإيقاعي أنك ترى في قصيدة النثر مقترحاً وليست بديلاً لشعر التفعيلة؟.

* مرحباً بالبدائل وليس لدي أي شيء في ذلك، لكنني لا أقيم أسواراً صينية، فالتنوع والتعدد يمثلان غنى للشعر العربي، فهذا شعر أمة، ومن الصعب أن تجعل الشعر يمر تحت سطوة شكل تعبيري واحد خاصة إذا كان ذلك الشكل مستورداً.

التاريخ والأمة غنيان بالأشكال لكن، للأسف، البحث الشعري قليل.

في تونس سمعت، مؤخراً، قصيدة لشاعر مازال طالباً في الجامعة استخدم فيها البحر البسيط، لكنه تخلى تماماً عن الروي المعتاد في القصيدة العمودية.

ـ لكن هذا لا يعد بحثاً جديداً، فالزهاوي مثلاً، كتب بهذا الأسلوب قصائد عدة أسماها: الشعر المرسل.

* ولم لا نعيد اكتشاف الزهاوي أو الكاظمي مثلاً!.

فهؤلاء الناس لم يكونوا شعراء كباراً للا شيء. لكن هذا الطالب لم يطلع، بالتأكيد على تجربة الشعر المرسل التي تشير إليها، لكنه كان يبحث عن التجريبية ضمن التراث الشعري العربي.

ـ تقصد استعادة أشكال قديمة في صياغات جديدة؟.

* بالتأكيد إن في هذا إغناء للتعدد، فنحن لم نخرج من نمطية لكي نقع في نمطية أخرى أشد، تعاني من فقر دم.

ـ وكيف تنظر إلى راهن الشعر العربي؟.

* أنا قلت أثناء معرض القاهرة الأخير، أن الشعر العربي الآن في نقطة الصفر، وفعلاً إن الشعر العربي هو هكذا، لا يعني هذا الكلام شيئاً سلبياً، لكن بمعنى نقطة اللا حركة.

ـ ومنذ متى والشعر العربي في نقطة الصفر برأيك؟

* لا أريد أن أفصل في هذا الموضوع، ولكن رأيي هكذا، بمعنى أن الذي كان قد بلغ شاطئه، والمنتظر لم تندفع ـ ولا أقول لم تندلق ـ موجته بعد، بهذا التعبير قصدت نقطة الصفر.

ـ ألا ترى أن توقف الشعراء العرب الكبار عن إحداث اختراقات شعرية مؤثرة سبب في إحداث حالة اللا حركة هذه؟.

* بالتأكيد له علاقة في ذلك، فآخر الفرسان الذين دفعوا عربة الشعر إلى الأمام، لم يعد قادراً على دفعها أكثر، أو أبعد من هذه التخوم، الآن جاء دور الجيل الجديد.

ـ في هذه الحالة أفهم نقطة الصفر هي نقطة الإمكان؟.

* نقطة الصفر هي نقطة الإمكان وهي نقطة الهمود في المستوى ذاته، أما كيف تنقذ القوى الحية للشعر! فهذه مسألة ضرورية، وسؤال مشروع ينبغي له أن يكون

 

حوارات مع شعراء عراقيين