مظفر النواب يبدأ من حيث ينتهي الصمت الآخر!

عاشوراء، ليل دجلة، وساعة القشلة شكلت عالم الوحشة في شعري

جريدة "الرأي الآخر"

العدد الثاني ـ 1994

 

بين سخرية الفصحى، وسيريالية العامية، بين غابات من الأحلام، وصحراء من النسيان، يشكل النواب "ائتلاف المختلف" ويمهد لاحتمالات شعرية ثرية، يتحدث عن نخبوية الشعر، ولا يتذكرها، ويذكر بخطورة دور الشعر.. حيث تغدو المخيلة لديه، عوالم يرتادها "ثوريّو الجنون" بعد أن جرب "ثورة العقل" عبر سيرة نضالية مشهودة.

لا تكاد، وأنت تألف النواب، إلا وتحس بمدى السرية التي يبثها حضوره القوي، فتكون للسيرة عناوينها ويكون للشعر انبثاقه.

هنا، مع النواب، تتماهى السيرة بالشعر، فلنتأمل.

ـ من أين نبدأ؟

من حيث ينتهي الصمت، أو من حيث يبتدىء الصمت الآخر.. هل انتابك أحياناً أن كل ما غنيته لم ينبس بشيء؟!.

ـ نبدأ من النبس إذن، من الشعر، في قصائدك وحشة ميتافيزيقية، تكاد تهيمن على أجواء القصيدة حتى تلك التي كتبت داخل الوطن.. من أين جاءت تلك الوحشة؟.

هناك وحشة بالحاضر، بما يدور، بالصحراء التي تتسع بين قلوب البشر، لهؤلاء الذين يحملون المحبة ـ ذلك المخلوق الحي أبداً ـ في جنازة، ويشيعونها إلى حفرة خارج حضارة هذه الأيام.. ان ذلك بدء موت الحضارة. يجب الوقوف والصراخ بوجه هؤلاء المشيعين انهم هم الموتى.. فهي وحشة ليست ميتافيزيقية. وحشة بانكسار خط تطور المادة. هذا الجهد الكوني الهائل من أول ما قبل الالكترون.. ثم الذرة.. ثم الصلصال.. ثم "كسونا العظام لحما"، هذا التكوين الروحي، المادي الجميل، هذا الممشوق تحت سماء الله.. ينكفىء الآن.. ينكفىء إلى دمار شامل!. إلى إبادات بالجملة، إلى العزلة والنفور، لم يعد الإنسان يعرف كيف يحب، من هنا الوحشة. والوحشة صراع بين الإنسان ونواقصه، وهي زينب ووحدتها وكبرياؤها، بين جسد الحسين وجيوش يزيد، والوحشة أيضاً يوماً ما أخرجت فيه من بيت طفولتي، والوحشة سياسيون "يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع".

آه! من وحشتي بالمنتفعين بالماركسية أو القومية أو الدين. قلت "المنتفعين ولم أقل القابضين على دينهم كالجمر" هذا تأكيد لأنني أرى من مكاني هذا عيون الكذبة والفريسيين والمفبركين.

ولكن الوحشة حينما تدخل حرم الشعر تصبح جزءاً من بهجة الخلق. تلقي بثيابها السوداء إلى الخارج، إلى النثر، وتكشف عن كل فتنتها، تتحول إلى إغراء، وفرح، وترقص في إيقاع الشعر، وإن كانت عيناها طافحتين بالدمع.

ـ كم كان عمرك يومها؟ أقصد عندما أخرجت من بيت الطفولة؟

* وماذا يغير ذلك؟! لقد بدا حزن لا ينتهي وغضب لا ينضب.. أتدري معنى أن تنتزع من الدفء.. والألفة، والطمأنينة، إن ذلك يشبه إغلاق الشرايين.

لم أشعر بالدفء إلا أن في بيت الطفولة ذاك.. بعد ذلك كان العالم قارصاً، والبيوت الأخرى، غرقاً في فنادق.

أضاف هذا الاقتلاع العنيف من الجذر، حروفاً دامية في الوعي إلى تراث من النفي والرحيل، فنحن عائلة خرجت أخرجت من الحجاز. أقول أخرجت لأنني أتحدث عن تاريخ تعذر فيه الاختيار. ولم تكد تستقر ببغداد، حتى جعجع بها القهر العباسي إلى الهند.. حيث تسنمت إمارة بعض الولايات، ومع رفع العلم البريطاني على بؤس القارة الصغيرة، انضمت إلى شرف المقاومة، واختارت العراق منفى، حيث يرقد علي حياً، وحيث نفحات الحجاز ليست بعيدة.

كنت أغفو على قصص الرحيل، أسمع أجراس القوافل، وأحس لحظة بعد لحظة برمضاء البعد عن الوطن.. وأولئك المنفيين الأوائل، من سريري الذي كان بجانب الشباك، كنت أحدق في الليل وطوفان دجلة، كان الهدير وحشياً، تشكيلات من الإنسجامات القاسية.

وتدق ساعة "القشلة"(1) معلنة ساعة بنفسجية من الليل.. ذلك الوقت لا يوجد إلا على دجلة، وأمي لا تزال تقرأ بصوت صيغ من اللؤلؤ والحنان: "رلى عرب قصورهم الخيام".. وتحاول أن توارب من دموعها وهي تدندن نهاية القصيدة، بعدئذ عرفت أنها للشاعر القروي، ولكني لا أعرف حتى الآن لماذا كانت دموع أمي بهذا النقاء.. بذلك الحزن الذي لا قرار له.. كل العراقيين يختزنون، حزن العراق في قلوبهم، وأحياناً أقول حتى السيئين منهم.

ـ كيف تسنى لك أن تشكل عالمك بلغة عامية جنوبية، ومياهك الأولى عامية بغداد، والفصحى؟

* لا أدري.. هذه "اللا أدري" هي المفتاح الأدق، الإجابة هنا أرحب.. هذا النفي يحيلنا إلى اللا وعي. ثم شيء تم في اللا وعي.. مفردة سقطت هناك فاختمرت، وكونت "عاميتي"، هي قطعاً ليست عامية بغداد ولا البصرة ولا أهوار الجنوب وقوافل البادية.. هي كل ذلك، وليس ذلك، هي أنا التي جذورها في كل ذلك، زائداً الاختراع. الشاعر يخترع مفردات، تراكيب، سياقات شرط أن يكون قد ملك زمام اللغة، شأن المغامر، يخترع طرقاً لم يطرقها أحد من قبل شرط السيطرة على زمام الراحلة.

أول العناقيد نضجاً كانت "مرّينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل".. امرأة تتذكر، وقطار يمضي، كأنه أعمار كل الذين فيه، وليس يعبق بالهال والقهوة والعشق، و"حمد" الغامض كفضة عرس.. كان التحدي الذي واجهني، هل يمكنني أن أكتب النضال كما يكتب العشق؟ كثيرون سيضحكون من كلمة النضال هذه، لأننا في زمن يلزم فيه الكثيرون جحورهم، ويأنسون بظلماتهم.. زمن للحرق.

وجاء استشهاد صاحب الملا خصاف "صويحب" وكنت مفعماً بذلك التحدي. وأدلى الشاعر والجميل سعدي يوسف بدلوه: "إنني أضع جبين شعري على طريق الريل وحمد". وألمح إلى أشياء كثيرة: "شعرنا تزحف عليه كوسموبوليتيه مقيتة وهذه القصيدة زهرة نادرة.. الخ".

لم أكن أعرف إنني كتبت كل هذا، قلبي فاض.. وانسكبت الخمرة على الورق، هذا كل ما أعرفه، وربما أجهل بعد الكتابة ماذا كتبت.

كثيرون قللوا من "عالم عاميتي" في البداية، كان ردي أن أوسع عالم عاميتي الجميل. أن أضع أذني على المنبع وأنصت للانبجاس المستمر، أن أتذوق طعوم الماء، ليس لماء نفس النبع طعم واحد.

وكثيرون، مازالوا يشككون بشعري باللغة الأم، أعدهم إني سأوسع عالم "فصحاي". وغير ذلك أمتاز بخرس الزاهدين. قلت لا أدري هي مفتاحي.. وأرجو أن يفهمني النقد منها، ولكن لابد أن أحيل نفسي إلى تفسير لا يجدي.. ربما عاشوراء.. ربما أهازيج الأعياد، ربما ذلك اللقاء الأول "بجويسم" و"كرير" و"سيد فالح" هؤلاء المغنون الفقراء الأماجد ملأوا جسدي بالنغم.. ربما الحاج "زاير آل دويج" ذلك الموال الأبدي، ذلك العملاق الذي يرسم بشجن، النبي الأمي للعامية الجنوبية ربما.. ربما.. رغم إنني كنت قد أرسيت عاميتي قبل ذلك، قصائد للريل وحمد كتبت قبل اكتشافي لعالم الحاج زاير، إنما اكتشافي له زاد من انسي بنفسي، والناس، وعمّق وعيي.

وهكذا تعانق الثوري بالعاشق، كانت للريل وحمد، وكانت مضايف هيل و"عشاير سعود" وامتزج دم العشق بدم الشهادة، في "حسن الشموس".. و"مامش مايل".

في كتابة الشعر لابد أن يعتم على كل شيء خارج جو القصيدة، تختفي الشوارع والسيارات، والعمارات الشاهقة، ولغة المدينة التي تتسم بشيء من اللؤم، ونشرات الأخبار المقرفة، والدولة، وينتصب القصب والبردي والغرنوق، و"صاحب".

وإذا كان كل شيء في المدينة يسير بالنفط، حتى البشر، ففي الأهوار لا يزال الناس يتحركون بالدم، لا يزال الحب حباً، وكما شجرة شوارع المدينة مخنوقة بدخان السيارات والورشات، وخضرتها ميتة، كذلك الحب في المدينة، رغم ان اسمه لا يزال الحب.

قلت لا أدري، ولا أزال لا أدري.

حين ذهبت إلى أهوار العمارة لأول مرة.. وسمعتهم، بدا لي انهم شعر، كل شيء التصق بقلبي، لاسيما الموسقة التي ينطقون بها، ضغطهم على أماكن من الكلمة، تخفيف عبء بعض الحروف، أو الإلغاء، حد إني تمنيتهم يتكلمونني شعرت أن الهور يقولني بشكل آخر.

ـ كيف استقبلت قصائدك الأولى؟

* لا يهمني كثيراً كيف استقبلني الآخر. ما يهمني هو كيف ذهبت إليه.. أنا لا أذهب لأحد ـ أنا وشعري ـ إلا طافحاً بالعشق والمفاجأة، وكما يهمني أن تفهمني المرأة من تغير لون عيوني ـ البعض لعينه لون واحد في صلاة الطقس التي ليس لها معنى، وفي صلاة الوجد، التي تلخص الوصل، خرز تلك وليست عيون ـ يهمني كذلك أن يحس من تذهب إليه القصيدة، كيف تتغير ألوان عيون مفرداتها، يهمني إحساسه بمنجم الماس في المفردة. خذ مثلاً كلمة "البردي" أو "القصب" تأتي في سياق القصيدة لخلق عالم وليس كمفردة تائهة بدون تاريخ، ومن هنا فرق بين من يقرأ "البردي" في القصيدة.. كعود أخضر منتصب في الماء، وبين من يحسه كنزاً من خضرة وزمرد، ونغم، وخيل ركبناها في الصغر.

ـ قبل مظفر النواب كل الشعر الشعبي غير واضح الملامح، بمعنى أن القصيدة غير مكتملة كبناء خاص، كان هناك الحاج زاير بقصيدته المعروفة التي تندرج في سياق "الأطوار" السائدة آنذاك ولكن مشروع القصيدة العامية "الحديث" جاء مع مظفر فما هي مرجعيته؟.

* مرجعية الشعر ذاته، انبجاساته العفوية، ليست العفوية الساذجة بل عفوية الدراية الهائلة، الشعر عصارة المجهول. ماذا أعني؟ كل الأشياء التي نراها في يومنا نسمعها، نشمها، نحسها، نلمسها لابد ، تُرحّل إلى المجهول.. أن تصبح مجهول شم مجهول لمس، مجهول حسن، الخ. هل هذه مرجعية قليلة؟

بعد ذلك التماهي، ان أتماهى بما حولي، أن أرى بعيونه وعيوني، وعيون الآخرين كم ستتسع الرؤية وتضيق العبارة.

تجربتي مرجعية شعري.

بعد ذلك كان المعطى الثقافي الإنساني. والتعليم، ونسيان التعليم، آخر تعليمي أن تنسى التعليم.

في (سد هارتا، لهيرمان هيسه) بعد أن يذهب سدهارتا ورفيقه كوفندا ليستمعا لبوذا يرى كوفندا أن يلتحقا به ـ ويطبقا تعاليمه.. فيرد سدهارتا ما معناه وإنما يريد أن يتبع الطريق الذي سلكه بوذا، ليصبح بوذا.

ثم كان علي أن أمتص رحيق ما هو زهر حقاً. لم أخدع نفسي بزهور صناعية إلا مرة واحدة، شعرت إني أمتص الفراغ.. فراغ الرحيق، وفراغ العطر وفراغ الحياة.. ذلك أقسى من الفراغ العادي، كم كان مراً ذلك الفراغ.

وكم الأذى الذي ترسب في الأعماق، وسامحت، وابتعدت عن الزهور الصناعية إلى الأبد.

ـ عندما نشرت للريل وحمد هل كنت تكتب بالفصحى؟.

* من الشعر ما هو فيض، ومنه ما هو إجادة فن الكتابة وتنصت يشبه السرقة على إبداع آخرين. مثلاً تجد خطاطين اثنين، يخطان عبارة الثلث أو النسخ أو الكوفي، كلاهما أتقن خطه لكنك تشعر أن أحدهما أودع، خطه موسيقا خفية كأنها أسرار الآلهة بينما الآخر أجاد مهنته، ولا تسمع أي نامة موسيقى في ما كتبه، كذلك في الشعر.

هذا الفيض لا يعرف حدوداً.. أنت حينما تعشق حقاً، أقول لك دخلت المباح، و"تموت شهيداً"، وتنتفي الحواجز، هذا الفيض يلبس ما يشاء عامية أو فصحى، أو ألواناً على لوحة.. أو كتلة من التكوينات والفراغات هي النحت، أو، أو، أحياناً مَيَسان صبية في شمس الله على رصيف قصيدة أشمل وأجمل من كثير من هذا اللا مفهوم واللا جميل الذي يتكدس في المكتبات.. مع عشقي الأكيد للقليل الذي هو شعر حقاً.. لذلك لم يسبق أحدهما الآخر، أي بأيهما كتبت أولاً، ولا أزال كذلك الفيض يفرض القوالب التي يحتاجها، يفرض الأشكال التي تلازم مزاجه، أحياناً يلتبس علي، أجدني مموسقاً، وأظن أنها لحظة دفق القصيدة، وإذا بي أرسم، أمارس عشقي باللون والكتل والخطوط..

كن عاشقاً لله.. للناس.. لنفسك.. بدون طقوس.. وخربش بما تشاء..

هذه بداية الشعر، لا تلجأ إلى ذبح اللغة، أو نسفها كما يتشهون في هذه الأيام. بل تماه معها وأعشقها فلا شيء يأتي بالسكاكين، إنما بالعشق، بالعشق.. الا المزابل مثل اسرائيل، فيجب حرقها، لأنها تنشر المرض، والدمامة، وتشويه وجه الأرض.

ـ ثمة رأي يقول أنك ركزت في منافيك على الهم الفلسطيني، وكدت تنسى العراق؟.

* اسرائيل ليست رقعة الوطن المحتل فقط.. اسرائيل انتشرت.. هذا الطغيان لقيمة العملة على قيمة الإنسان.. له جذر صهيوني. في التاريخ، الرحيل الإجباري المستمر المفروض على الشعب الفلسطيني، الإبعاد المقصود إلى تونس واليمن والسودان بعيداً عن تراب فلسطين. هو مقدمة لرحيل عربي واسع، هو مقدمة، لنصبح نحن يهود التاريخ ونعوي في الصحراء بلا مأوى. هذا شيء قلته عام 1970.. وهو يحصل اليوم، بالإضافة إلى ملايين الفلسطينيين في المنفى هنالك ملايين العراقيين وآلاف وآلاف من أقطار أخرى.. انها المقدمة.. ان استمرت الأمور على هذا المنوال، لست داعية يأس ولكني داعية فتح العيون على الواقع، وثم في الأفق ضوء، مساحة لفلسطين، كما قلت في قلبي واسعة، لما تعنيه فلسطين.. ولما يعنيه نفي الفلسطينيين أبعد فأبعد عن أرضهم، مساحة في القلب لفلسطين، ولكن يا سيدي للعراق لب القلب، ألم أقل في مقدمة "للريل وحمد" (ما أظن أرضاً رويت بالدم كأرض بلادي، ولكني لا أضحك من القلب. ولا أبكي من القلب. ولا أموت من القلب إلا فيها).. في المنفى كتبت "ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة"، وفي المنفى كتبت الوتريات المسكونة بالعراق، وحجام البريس.. وو.. "يا نخل أهلي بالعراق، أحب رائحة العراق على الغبار، قلبي خفي بالعراق برغم ما قد مات من جسدي على كل البحار.." كيف كدت أنسى العراق؟!! هذا يقال لغرض أعرفه ـ ولا أقصدك طبعاً ـ.

ـ يختلط العشق بالسياسة في شعرك، ويتماهيان أحياناً حد الغياب، وتتحدث في البراءة عن الأم والأخت وهو حب أيضاً. هل هذا ترابط وقائع واختلاطها، أم تشكيل عالمي لديك؟.

* لست سياسياً بالمعنى المتداول والمبتذل، فأنت حينما تقول فلان سياسي (عربياً) يتبادر إلى الأذهان الاحتيال والتكتكة والغنى الحرام، وشيء من ديكورات السلطة.. أصبحت كلمة السياسي كأنها من القاموس التجاري للسوق. ثم أن لدينا كثرة من عبد الأيديولوجية التي هي بالأساس أداة.

ـ مظفر النواب مدرسة في الشعر العامي ـ هكذا يقال عنه ـ كيف تنظر للنماذج اللاحقة والأسماء التي جاءت بعدك؟.

* أعترض على "مدرسة" أظن أنها تكبل، حينما تلقي ذاكرتي ضوءها الخافت على حدائق شعر الماضي التي يغطيها الثلج ـ أعتقد أن الضوء الخافت هو الضوء الملائم هنا، أضواء الفلاش الحادة ممنوعة في المتاحف وكهوف الإنسان البدائي، لأنها تتلف الألوان ـ وحينما أوقد كل أضواء الفكر والقلب على ما هو صيف وثمر، في ما أمامي، أظنني مفترق طرق، تجتمع في طرقات الماضي وتذهب عني طرق المستقبل وتتجاوزني. نعم تتجاوزني لست نرجسياً، ولست أجهل ما أنجز.

بيني وبين العراق ربع قرن، لا تعبت فيها من الحزن ولا تعبت من العشق، لم تكتف السياسة المقيتة، خلال ذلك، من اجتثاث شعر العامية وتحريمه، لأنه الكبريت الأحمر الذي يؤجج جمال الجماهير. جمال الجماهير أن تكون واعية لغضبها، لم تكتف السياسة بذلك، بل عمدت إلى تشويه شعر العامية، جعلته ضمن أوقاف الدولة، وما يمضّ أن شعراء وأدباء معروفون يكتبون بالفصحى رفعوا شارة المنع أيضاً، بل هنالك من ألمح أن شعر العامية انتهى.

عبارة تقال وكأنها ممارسة للتنويم المغناطيسي. وبمثل ما ميزان الذهب صغير وغاية في الدقة، لأن في أي خطأ صغير خسارة فادحة، فإن ميزان نقد الشعر، يجب أن يكون أكثر دقة وحساسية، وليس ميزان بطيخ! كما في الكثير من النقد في هذه الأيام، لست ناقداً ولا أظنني سأتطلع لهذا الشيء أن أدلي برأيي في ما طرحت أمر في غاية الصعوبة فشعر العامية الجيد سجين هناك، ولم يصلني في الغربة، إلا ثلاثة أو أربعة متسللين من وراء الحدود، والأخ الجيزاني ـ الناقد والشاعر العراقي ـ حكم على شعر العامية، في محاضرته في اتحاد الكتاب العرب، بالإعدام.. إذ رأى أن شعر العامية انتهى في العراق!.

شعر العامية نبات الأرض العراقية، وما دام هناك العراق ـ المحاولات على قدم وساق لطمس هوية الشعب العراقي، وكلينتون في جولته الأخيرة مصر على إبقاء العقوبات لأن قلبه على شعب العراق!! ـ أقول ما دام هناك العراق فسوف ينبت هذا الشعر. أما المخاوف على النص من العامية بحجة (قومية المعركة) فإن الطابور على شباك إسرائيل طويل وكل يوم يلتحق بالطابور نظام، ولو كان نظام المُلْك حياً لغير اسمه. فالكلمة صارت معيبة جداً، أنت تراني أتشعب وتتداخل فيّ هموم الناس بالشعر، بالوجد، بحيرة طفل ضاع في سوق هرج. هذا العصر سوق هرج عالمية.

ـ أنت في صميم الحداثة، في شعرك الشعبي، بينما تضحي في شعر الفصحى، بالجمالية أحياناً وتقع في الخطاب السياسي، ماذا تقول؟.

* حينما تباغت في المنعطف بأحد يهاجمك ليقضي عليك، هل تحجم عن الرد لأن مطواتك ليست أنيقة كما يجب؟ جمالية المطواة آنئذ في تناغمها مع إيقاع جسدك للهجوم والرد وليس في أناقتها وزخارفها، وكونها على آخر مقاييس الحداثة، واقعنا سلسلة منعطفات مخيفة، منذ جريمة السادات "والجرائم الأخر المستورة" واقعنا سلسلة انهيارات.. عظيم أن ننشغل بالحداثة ومواكبة العصر، وما يكشفه العلم كل يوم لاسيما أعماق النفس البشرية، ولكن ليس على حساب جوع الناس والصمت على الاغتصاب الجماعي للأمة، والمذابح التي يتعرض لها آلاف البشر كل يوم، ألا تستحق هذه المناحة الجماعية التي يمر بها جنوب الكرة الأرضية، نظرة من زاوية عين بعض الشعراء، ألا تستحق الاستشهادات البطولية أن تصاغ منها ملاحم تغني تاريخ البشرية، أما شبع الذين ينبشون في مزبلة النرجسية؟

لقد صيغ مصطلح نخبوي للجمالية، احترم هذا. ولكن هذا المصطلح ضيق علي يا صديقي. أليس مضحكاً أن تلبس ما هو ضيّق على فهمك للعالم؟.

ـ كتبت بالتفعيلة، وعمود الشعر، والعامية، أين تجد فضاءك؟.

* لست من شعراء الفضاء الواحد، كل جمالية تخلق التواصل، أجد فيها نفسي. التواصل أصل الوجود، لولا تواصل دقائق المادة الأولى ما كان الإنسان ولا الأشياء، ولا الألوان ولا النغم. ما سرّ هذه القوة الغريبة التي جعلت ذرتين تتواصلان وتضمران خرائط هندسية ـ عاطفية مذهلة تؤدي إلى الإنسان، الشعر الذي لا يؤدي إلى أي تواصل جهد باتجاه تفكيك مالا يفكك.

ـ لكن بعض شعراء الحداثة يدعي أنه ليس بصدد التواصل، بل هو معني باكتشاف ذاته عبر النص. لذلك فهو يكتب من غموضه، ليكتشفه لا ليوصله.

* أي يحلل ذاته نفسياً عبر النص؟ لكن هذا التحليل من أجل ماذا؟ أنت تقول ليكتشف ذاته لماذا يريد أن يكتشف ذاته؟ مجرد قولك بحث أو كشف ينهي العبثية، إذن لابد لذلك الكشف من هدف، أليس لأنه مصاب بعدم التواصل؟ هذه الإصابة شديدة العدوى في عصرنا، نظراً لفساد الأمكنة ـ الإنسان مكان بشكل من الأشكال. نحن أمكنة يسكننا الآخرون ونسكن فيهم.

هذا التحليل للذات الكشف عنها، له جماليته حينما يؤدي في النهاية إلى اللقاء لا العزلة. العزلة هذه ناتج مجتمعات الغرب الصناعية حينما تحولت التكنولوجيا عن مهمتها الأساسية وغدت لسحق الإنسان. حينما غدا العمل لوأد الإنسان وليس لتفتحه. تفتت الأسرة والعواطف، أصبح العجائز ينتزعون من دفء العائلة إلى دور للعجزة.. هذا سيؤدي قريباً إلى دور عجزة للفنانين، للعشاق، للأطفال، لأن هؤلاء ليسوا بمواصفات عالم السوق والتجارة، عالم الصهيونية المفضل.

ـ ننتقل إلى جانب آخر: السوريالية.. في قصائدك الأخيرة نزوع للسوريالية..؟

* في الحديث عن السوريالية يؤكد على الحلم واللا وعي وينسى النسيان! في كل منا عالم من نسيان، مخزون من الأشياء المنسية، ربما هو الأخطر، مخزون ليس في حوزة الوعي، وليس بالضرورة مدفوعاً إلى اللا وعي، مكان آخر.. هذا المنسي منبع آخر للشعر. هناك أشياء نتذكرها وأشياء نستنبتها في الذكرى، وأشياء نتذكر تلقاءها.. ان كان الحلم عالم أمان وممنوعات، ففي المنسيات أشياء من طبيعة أخرى، ذهبت من دون سبب ،وأحياناً بسبب كد الذهن أو العمر، إلى مخزنها الغامض، وإذا كان الحلم المتوازن فإن المنسي حد آخر لذلك.. كل ذلك عالم الشعر.

ـ لنعبر إلى السياسة، التي لا فكاك منها، منذ حرب الخليج يزداد تراكم وتسارع الانهيار مما يؤدي إلى الإحباط، كيف يمكن النظر لدور المثقف هناك؟.

* لسنا كائنات أسطورية، ولكن بإمكان الشاعر أن يساهم في موسقة نبض المجتمع، بإمكانه أن يسهم في شد الجسد لمواجهة الفناء، بإمكانه أن يوسع من أرض العشق في القلب.

بعض النقدة يضعون الشعراء في خانة العجزة، في خانة اللا فعل، خانة الشلل. كذلك لسنا عصافير عشق ملونة لا تملك إلا زقزقتها المهموسة في إذاعات آخر الليل. الشعر أيضاً مواجهة.. في حرب الخليج هناك طرف فيه الولايات المتحدة وأحدث أساليب الدمار والغرب وملحقاته والديكتاتورية، هؤلاء صف واحد، في الصف الآخر.. جماهير العراق التي فرض عليها الجوع والحصار وجماهير الأمة العربية وكل الذين يعون الحقائق العميقة ولا يكتفون بسطوح الكلمات، هذا كان مفتاحي لفهم الأزمة الخطيرة.. القوى التي اقترفت الجريمة والتي ساهمت حتى في توطيد الديكتاتورية في سنوات طويلة كلها شاركت في احتلال المارينز وأساطيل البحر والجو الأميركية للخليج.. والتحكم برقبة المنطقة.

وضع ملحمي لشعر ملحمي ضاع فيه البطل، الذي هو الناس. على الشعر أن يسهم في أن يعي البطل ذاته حتى وإن كان في حالة الصفر.

ـ ما هي مسؤولياتنا عن الواقع الحالي شعوباً وأنظمة؟.

* مسؤولية؟!! وأنظمة؟! غريب، أن نتحدث عن مسؤولية أنظمة لم تعد لها ذرة حياء، أنظمة باتت تتباهى برفع المقاطعة وتترنم بمعاهدات الذل التي عقدتها مع إسرائيل، هل بقي أحد لم يغسل يديه من الأنظمة، دعنا نتحدث عن مسؤولية الشعب عن لبس هذا القمع الشرس الداعي، دعنا نتحدث عن مسؤولية الفن وإعلام القوى الحية المناوئة وليس القوى التي هي ديكورات السلطة.

نحن أمام مسؤولية وجودنا أو عدمه، أنا ضمن من يحاولون ومن يمدون أيديهم لأية محاولات أخرى، وأكيد نحن الكثرة التي لا تقارن. وأكيد بإمكاننا استنباط أساليب لا حد لها وأكيد كذلك، إن للشعر دوره الخطير هنا.

ـ حاولت صحف النظام مؤخراً، بتلفيقات صحفية، خلط الأوراق بما يتعلق بموقفك من النظام؟.

* ما قيل لا يهمني.. مازلت في مكاني، مازلت بين الناس الذين أحبهم، مازال شعري يحمل همي وهمهم، ماذا أنا بدون مواقفي التي تمتد إلى سنوات طويلة من حياتي، قناعة ترسخت مع الأعوام وتترسخ يوماً بعد يوم، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا.

حاوره

محمد مظلوم وجمعة الحلفي



(1) ساعة تنتصب على نهر دجلة في وسط بغداد.

حوارات مع شعراء عراقيين