فاضل العزاوي شاعر في طريقه إلى النار!

مجلة نزوى

العدد 16 اكتوبر 1998

 

 

ـ نبدأ من الستينات، إذ ارتبط اسمك، إبداعياً، بها، وارتبطت الستينات، بأول محاولة لنقد تجربة الرواد، وانشغلت كثيراً بتقديم مشروعها (كجيل) وإلى الآن ثمة اجتهادات، تقترب من الصراعات، حول إعادة تقييم الستينات. لِمَ كلُّ هذا في الستينات؟.

* الستينات، كان عقداً متميزاً، لا على مستوى العراق أو المستوى العربي فحسب، وإنما على المستوى العالمي كله، إذ حملت تغيراً نوعياً في التطور التاريخي، ومن وجهة نظري، وفيما يتعلق بجيل الستينات في العراق، التقى ما هو محلي، بما هو عربي، بما هو عالمي، أشرح هذه القضية:

في الستينات، حدثت وقائع مهمة، فبعد الثورة العراقية في تموز 1958 جاء انقلاب 1963 ليعلن انكسار الثورة مما شكل ظاهرة خطيرة في تطور الحركة الثقافية، وكذلك الحركة السياسية في العراق بشكل عام، كما أدى إلى انشطار داخل المجتمع نفسه، فخلال الانقلاب اعتقل عشرات الآلاف من الناس، وقتل المئات، كما أدخل إلى السجن العديد من المثقفين والكتّاب، وكنت ممن اعتقلوا في تلك الفترة، لا أريد هنا أن أتعرض إلى آلة القمع والتعذيب، ومستوى الدمار الروحي الذي حل بهذه العشرات من الألوف، لكنني أردت أن أشير إلى أن ظاهرة 1963 كانت ظاهرة خطيرة جداً داخل المجتمع العراقي، وبشكل ما، أدى الانقلاب إلى خلق شعور مجتمعي بانكسار الثورة.

استمر الانقلاب تسعة أشهر فقط وانهار هو الآخر ليجيء نظام "العارِفَيْن" نسبة إلى الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف اللذين تعاقبا على السلطة في العراق ما بين 1963 ـ 1968، وخلال هذه الفترة حدث تطور مهم داخل المجتمع العراقي، فبفعل الانقلاب انحسرت السلطة، والحزبية بتأثيراتها على المجتمع، فالوصاية الحزبية التي شهدناها مع بداية الثورة والصراع السياسي انتهت دفعة واحدة. فالشيوعيون ضُربوا تماماً وزجوا في السجون والمعتقلات، وتعرضوا للانهيار والإحباط. والبعثيون الذين قادوا الانقلاب اضطروا ـ بعد سقوط الانقلاب ـ إلى الانزواء تماماً.. وبشكل ما، تمكن المجتمع من تحرير نفسه من الوصاية الحزبية السابقة، في الفترة 58 ـ 60 مثلاً لم يكن ممكناً أن يتحدث كاتب من حزب أو فئة ما مع كاتب من حزب آخر، كانا يتقاتلان في الشارع ولا يجدان أية لغة مشتركة بينهما. ما حدث بعد ذلك، وربما بسبب الخيبة، أن هذا الانشقاق الذي كان قائماً داخل المجتمع العراقي، بفعل الصراع السياسي، قد انتهى تقريباً، ولأول مرة تمكن الكتاب العراقيون أن يلتقوا مع بعضهم دون اهتمام كبير للاتجاه السياسي الذي يميز أحدهم عن الآخر. بشكل عام، كان الكثير من الكتاب والمثقفين، قد فكوا ارتباطاتهم بأحزابهم، أو لجأوا إلى نقدها بوصفها المسؤولة عما آلت إليه الأوضاع.

هذا الشيء (الجديد) الذي حدث، مكن المثقفين من امتلاك استقلالية ما، استقلالية في نمط التفكير من جهة، وروح النقد من جهة ثانية، مما أدى إلى إيجاد ظاهرة غير معهودة في السابق، فالجيل السابق للستينات ـ وهو برأيي يبدأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية ويستمر إلى العام 1963 ـ كان جيل الحركة الوطنية، جيل الشعارات المعادية للاستعمار، الجيل ذو الأفكار الطوباوية عن العالم، لكنه تعرض ـ مع الانقلاب ـ إلى الصدمة، إذ اكتشف أن الصراع ضد الاستعمار في مرحلة ما قبل الوصول إلى السلطة، مختلف عن مرحلة الوصول إلى السلطة، إذ نشأ وضع قتالي آخر انتقلت نمطية الصراع من صراع الداخل/ الخارج إلى صراع الداخل مع نفسه، في الستينات أيضاً نشأ المثقف النقدي، المستقل، المتحرر من الهيمنة والوصاية الأيديولوجية، أصبح الإبداع هو المركز أو البؤرة الحقيقية للإنسان.

وعلى الجانب العربي شهدت الستينات أحداثاً كبرى كان أهمها هزيمة حزيران وما آلت إليه من بروز الحركة الفدائية والمقاومة، والدعوات إلى التحرير، وهذه أدت، كذلك، إلى فك ارتباط الفرد بمركزية السلطة.

عالمياً، شهدت الستينات ذروة الكفاح المسلح (غيفارا مثلاً) كذلك ما استجد من ظواهر داخل الحركة الشيوعية في أوروبا الذي تمثل في تجربة جيكوسلوفاكيا في "ربيع براغ" ومحاولة منح الأفكار الاشتراكية بعداً إنسانياً ديمقراطياً جديداً.

ثمة أيضاً الحركات الشبابية والطلابية الهائلة التي اجتاحت شوارع الغرب معبرة عن رفضها للحرب، وتدعو إلى السلام. كانت الستينات إذن عقداً متميزاً، على المستوى العالمي كله بأفكاره، وتطلعاته، وحتى نمط صراعاته.

ورغم انتهاء هذه الحركات لكنها كانت قد حملت معها روحاً جديدة التقت، بشكل ما، بإرهاصات التحول في الروح العربية التي تمثلت بروح المقاومة والمواجهة ورفض التطلعات الاستبدادية أو السيطرات الأيديولوجية والدكتاتورية على الكتابة.

من هنا، يمتلك جيل الستينات برأيي، سمة خاصة به، فظهرت الدعوات إلى كتابة جديدة، كتابة أخرى، تجريبية، طليعية، ومحاولة هدم البنى والمؤسسات القديمة وإنشاء أخرى بديلة جديدة (هكذا كان الحلم على الأقل) ونجد تجلياته واضحة على المستويين العربي والعراقي.

ـ النزعة التجريبية في الأدب، والتي بدأت مع الستينات، كانت تهدف إلى الحداثة بوصفها أفقاً ممكناً وغير مكتمل، إلا أننا نرى هذه النزعة وقد وصلت إلى حدودها، كأنها كانت طارئة ومختلقة، وثمة ما يشبه العودة، إلى تأكيد الارتباط مع المنجز، هل وصلنا عهد "ما بعد الحداثة" حيث العود الأبدي، بينما حداثتنا مازالت قيد الإنجاز؟.

* الكتابة التجريبية تعني أن تحاول ابتداء جديداً، أن تؤسس لما لم يوجد من قبل! وهذا يرتبط بالحلم الذي ظهر في الستينات فحتى على المستوى العالمي، والأدب الأدبي تحديداً، نلاحظ وجود ما يسمى "الطليعية في الأدب" أي أن تكتب خارج التقاليد، باستعمال أشكال جديدة، استخدام اللغة (الكونكريتية) والابتعاد عن اللغة الفضفاضة، محاولة ولوج عوالم لم يكن الأدب قد ألفها قبلاً، مزج الفنون والأشكال الكتابية مع بعضها، كل هذا يرتبط بالمحاولة الجديدة التي تستند، كما قلت، على حلم ينطوي على يوتوبيا كبيرة هو أننا نستطيع أن نغير العالم دفعة واحدة! ليس التغيير بالمعنى الأيديولوجي، وهنا أهميته، إذ قاوم الماركسيون الجامدون هذا الحلم ووقفوا ضده، لكنه "التغيير" على طريقة الشعار الذي كان يكتب على الجدران في فرنسا ويقول (نحو واقعيون، لذلك نطلب المستحيل) فالمستحيل نفسه كان يبدو واقعياً.. لنتذكر الحركة الهيبية وكيف حاولت ضرب أسس الثقافة البورجوازية في الصميم، فالملايين من الشبان في أوربا كانوا يواجهون دعوات الثقافة البورجوازية إلى الكفاح والعمل من أجل الوصول إلى القمة والمجد والمال، يواجهونها بالكسل. أما دعوات النظافة فكانوا يواجهونها بإطلاق شعر الرأس وارتداء الملابس الرثة.. وهكذا.

عربياً، بدأت هذه التغيرات تأخذ صيغها من معطيات الواقع العربي، فالكتابة انتقلت من كتابة ذات مضمون عاطفي ودعائي، إلى كتابة ذات مضمون فكري ومحاولات جديدة في الأساليب والأشكال.

في الأدب العراقي، وشعر الستينات تحديداً، شعر الكاتب أن الحلم الذي ارتبط بالثورة انهار فجأة، ما كان يؤمن به وجده شيئاً أشبه بالضباب، لم يكن متأكداً منه أو حاول أن ينفيه، لذلك بدأت محاولة البحث عن شكل ومضمون جيدين للكتابة، الكتابة التجريبية في الستينات، ارتبطت بهذه الروح، روح البحث عن شيء جديد، روح المغامرة في المستقبل، وروح نقد الماضي، هكذا يمكن أن أفسر هذه الظاهرة التي أسهم في تحريضنا عليها كتاب عالميون قرأنا لهم وتأثرنا بهم في العراق، منهم: "جماعة البيتنكز"، "غينسبرغ" "فيرلن كيني" و"كورسو" وفي الرواية "جاك كيرواك" كان هؤلاء يمثلون نمطاً آخر في الكتابة، وقد أثروا في الأدب الأمريكي والانكليزي.

شعرنا ان ما كتبه السياب ونازك والبياتي كان مرتبطاً بالروح السابقة، التي نرفضها، لأنها روح بسيطة ترتبط بالثنائيات: العدو، الصديق، الشعب/ الاستعمار، الداخل/ الخارج، في الستينات انتقلنا إلى مستوى جديد، هو صراع الداخل مع نفسه، وبشكل ما صراع الحداثة مع نفسها، بمعنى: إذ اعتبرنا السياب ونازك والبياتي شعراء حداثة، فإننا نريد أن ننقد هذه الحداثة وننقلها إلى مستوى جديد، فالسياب من وجهة نظري ـ وقد كتبت هذا في الستينات ـ شاعر كبير، لكن في العديد من قصائده تجد نظرة ثابتة تتمثل بهذه الثنائية القائمة على تناقض حدين: العدو/ الصديق، الأبيض/ الأسود، وهي نظرة سائدة في مجمل كتابات الرواد، ولعل أفضل نموذج لهذه الكتابة هو البياتي.

أما جيلنا فقد اتجه إلى مفردات الصراع داخل البنية ذاتها، وبمختلف مستوياتها. كل كتابة طليعية أو تجريبية تأخذ مدى زمنياً لها، ثم تستقر لتنتقد نفسها، وبهذا النقد يموت الكثير من هذه التجربة وربما تحدث عودة إلى تجارب سابقة لامتلاكها، غير أن الأمر الذي أشرتَ إليه ـ وصول التجريبية إلى حدودها ـ يتعلق بانتهاء ذلك الحلم، اليوتوبيا، الذي نشأ في الستينات، راهناً تعيش البشرية مرحلة أخرى، وكذلك العرب، مرحلة نهاية اليوتوبيات وسقوط الأيديولوجيات، سقوط الأوهام. حالياً الإنسان محكوم بسؤال: كيف يمكنه أن يكون واقعياً.

مع ذلك، من الصعب على الكتابة أن توجد دون يوتوبيا، في رأيي، ثمة حلم جديد يتشكل، ربما يختلف عن أحلامنا السابقة لكن لابد من بقاء الحلم.

ـ التجريب الذي تتحدث عنه له وجود عضوي في تجربتك الكتابية، حتى أن كتابك الأول (المخلوقات الجميلة) كان سعياً مبكراً لإلغاء المسافة بين الأجناس الأدبية، لكنك، الآن، تكتب الرواية والشعر، جنسين مستقلين عن بعضهما، محافظاً على المسافة النوعية بينهما، هل لذلك علاقة بـ"يوتوبياك" الشخصية؟.

* ارتبط التجريب في الأدب العراقي، بمحاولة نقد التجربة السابقة، ونقد التقاليد التي حاول بعض النقاد فرضها على الأدب، ارتبطت التجريبية بتجريبية الحياة نفسها، على الصعيدين الاجتماعي والسياسي. كنا نعتقد أن الحياة ذاتها تستدعي تغييراً، غير أننا لم نكن متيقنين من البديل الجديد، كنا نعرف ما نرفضه، لكننا لا نعرف ما نريده تماماً. من هنا حاولنا أشكالاً مختلفة في الكتابة، هذا لا يعني أن كتاباتنا لا تمتلك قيمة إبداعية، لكنها، حتى في تلك الفترة، لم نكن نمتلك طابعاً تقديسياً، ولا نراها شيئاً نهائياً، ما كان يهمنا في الكتابة أن تكون حرة، جديدة، تعبر عن إرادتنا وأحلامنا دون الخضوع التام للحدود التي رسمت للأدب، من هنا كان الخروج والخرق لتلك التقاليد الثابتة، وهذا جزء من النقد الذي ينبغي توجيهه لكل كتابة تتم مشروعها وعلى هذا الاساس كنا نعتقد أن جيل الرواد قد قال أهم ما يملكه، وعلينا أن ننقد هذه التجربة ونطرح شيئاً يتجاوزها.

من ناحية أخرى، لا أرى أن عملنا أخفق، على العكس، فبعد الستينات وإلى الآن، تغيرت الكتابة بشكل جذري، فأية مقارنة بين الكتابات السائدة في الخمسينات، والستينات وما بعدهما، في المستوى النظري والمستوى الإبداعي: في المغامرة والتجريب في اللغة وفي الاشكال، والعمق الإبداعي، ستُظهِر فرقاً كبيراً، التجارب التي ظهرت في الستينات تركت كثيراً من التأثيرات على الأعمال التالية، أصبح الكاتب أكثر حرية في اختيار الشكل الذي يناسب كتابته، صار أكثر حميمية، يحاول ـ على الأقل ـ أن يكون عميقاً ومتنوعاً وغير خاضع لقوانين صارمة، مسبقة ومفروضة على كتابته، والآن، ونحن في النصف الثاني من التسعينات، نجد الكتابة العراقية تمتلك الكثير من الشجاعة سواء في الأشكال أو في طريقة تناول الموضوع، هذا التغيير لا أعتقد أنه يرتبط بالتجربة الخمسينية بقدر ارتباطه بالتجربة الستينية.

وفي ما يتعلق بي، كانت (المخلوقات الجميلة) عملاً جريئاً على مستويات عدة، مستوى اللغة، ومستوى الموضوع، ومستوى الشكل، حاولتُ فيه أن أدمج أجناساً أدبية مختلفة مع بعضها للوصول إلى ما سمي لاحقاً: "النص المفتوح" في كتابة تتجاوز الأجناس أو توحدها في شكل كتابي واحد.

تجربة (المخلوقات الجميلة) لا يمكن أن تكتب إلا بالطريقة التي كتبت بها، كتابة عن عزلة الإنسان في الكون عبر استحضار لروح الكون ولروح التاريخ في الآن نفسه، (المخلوقات) كتابة عن الحرية بين الناس، والحرية بدون الناس، البطل مختلف الأسماء، يوجد في شتى العصور والأمكنة، وفي سياق تجربة ربما تضمنت شيئاً من (الفانتازيا)، يسعى البطل إلى تحويل مدينة بكاملها إلى أنصاب، فهو كان بين الناس وتعرض إلى الاضطهاد، كانت حريته محدودة لكنه يحول الجميع إلى أنصاب جامدة ثم يبدأ مشيته داخل المدينة الميتة.

في تلك الفترة كتبت "الكون المهجور" وكان ما يهمني ما إذا كان الكون كله يمكن أن يوجد دون وعي إنساني، ولا يوجد وعي إنساني بهذا الكون. في (المخلوقات) رحلة تاريخية للوصول إلى الحرية، يحاول البطل وصولها بإفناء الآخرين لأنهم يشكلون عائقاً أمامه، لكن هذه الحرية غير ممكنة أساساً، لذلك يشنق نفسه، هي تجربة بين الشعر والرواية، وهناك من يعتبرها "قصائد نثر" لكنني أعتبرها "نصاً مفتوحاً".

ـ لكنك في أعمالك التالية (للمخلوقات) تلتزم تقنيات الأجناس المعروفة (شعر، رواية، قصة) إنها نصوص مغلقة" على أجناسها وتقنياتها ولا تنفتح على بعضها أو سواها؟.

* قلت لك إن الفكرة أساساً هي التي فرضت علي شكل كتابة (المخلوقات الجميلة) وإذا تتذكر قصيدتي الطويلة: (تعاليم من العزاوي إلى العالم) تراها تتضمن قصيدة النثر، التفعيلة، الملصق، الصورة الفوتوغرافية، القصة القصيرة.. الخ، ولكن اية تجربة ـ وهذا ما يهمني ـ عندما أعتقد انني استكملتها أنتقل إلى محاولة جديدة أخرى، وبطريقة ما أحاول أن أنقد التجربة السابقة، أنا لم أتخلَّ عن هذه التجربة (الدمج بين الأجناس) لكن ثمة أفكار تتطلب شكلاً روائياً معيناً، وثمة قصائد تستدعي شكلاً شعرياً معيناً.

في روايتي الجديدة (كوميديا الأشباح) محاولة جديدة أخرى للكتابة، ربما تشبه، في بعض الوجوه، (المخلوقات الجميلة) لكنها تصعيد آخر لها، إنها كتابة روائية فيها الكثير من الشعر، فيها رؤية أخرى إلى الكتابة الروائية نفسها، وإلى موضوعها كذلك، ربما لأن العالم الذي أتعامل معه فرض عليَّ هذا الشكل الجديد الآخر الذي لا أعتبره نهائياً بالتأكيد.

ـ من تأكيدك على "الحلم" ـ سواء في كتاباتك أو في (البيان الشعري) ـ وأهميته "الحلم" حتى في هلوسته ـ في الشعر، وإلى رؤيتك في "الكون المهجور"، وصولاً إلى ممارستك النصية الواضحة للسريالية، كل هذا يجعلها "السريالية" تتضح كمنبع للغالب من كتاباتك، وعموم الشعر الستيني.

* بدءاً، أشير إلى أنني أستفيد في نصوصي، لا من الأدب وحده، إذ ربما كانت من الأوائل في اهتمامي بربط الكتابة الأدبية بكل الفنون الموجودة في الحياة، بكل العلوم، وكل المعارف الإنسانية، فالوعي البشري لا يتمثل في الإنشاء الكتابي وحده وإنما في المعرفة.

وقبل أن أخوض في موضوع السريالية أقول: انني استفدت كثيراً من العلوم الطبيعية وفلسفتها، الكتابة عندي تخرج عن ما يسمى الموضوع الأدبي إلى الحياة، والحياة حدودها أكبر من الكرة الأرضية إنها تتعدى لتشمل الكون كله، كذلك تأثرت بكتابات فرويد وتحليلاته للداخل الإنساني. لذا صار الإنسان، من وجهة نظري، ليس شكلاً خارجياً فحسب، لكنني كنت أعرف أن هناك شكلاً داخلياً غير مرئي وكان يهمني أن أجد العلاقة بين الداخل والخارج.

وفي ما يتعلق بالسريالية فقد اهتممت بدراسة نصوصها الأدبية، وايضاً بدراسة كتاباتها النظرية، وقبل ذلك اهتممت بالدادائية وبمحاولاتها في كسر الشكل وكسر اللغة والوصول بالكتابة إلى حد الفوضى، وتوصلت إلى موقف نقدي منها، لأن هذا ممكن أن يكون مفيداً في لحظة تاريخية معينة، لكن فيما بعد لابد أن يكون للكتابة معنى إنساني عميق، السريالية نفسها كانت محاولة لنقد الدادائية وتجاوزها، اهتممت بالسريالية لكنني كنت منذ البداية ضد وضع الشعر في مدرسة حتى إذا كان اسمها "السريالية" أو "الدادائية" أو سواهما، بهذا المعنى أنا أستفيد من السريالية إلى الآن، لا كمدرسة، وإنما كروح داخل الكتابة، فالسريالية انتهت وماتت منذ الثلاثينات، لكنها أثرت عميقاً في الأدب، ولا يزال هذا التأثير قائماً في أعمال جميع الكتاب الكبار من وجهة نظري.

أنا مع السريالية بتطلعها النهائي إلى الغور إلى الداخل الإنساني واكتشاف أسراره، لكن دون قواعد ذهبية سواء وضعها بريتون أو غيره. فرؤيتي لوجهة نظر بريتون حول الكتابة لا تختلف عن رؤيتي لأي ناقد أو منظّر آخر، قد أجد ما يقوله صحيحاً وقد لا أجده كذلك. لكنني في الوقت نفسه أعتمد الطريقة السوريالية في سعيها إلى تدمير المادة، والوصول إلى الكتابة التلقائية، في "المخلوقات الجميلة" تجد مقاطع مكتوبة في حالات غيبوبة تامة. كانت لدينا في الستينات محاولات لكسر الوعي باللا وعي (الكتابة في اللا وعي) وكذلك الكتابة الارتجالية ومحاولة الوصول إلى ملامسة ما هو حقيقي في الإنسان.

بهذا المعنى لا تزال السريالية قائمة في عملية، وبشكل عام أنا أهتم بالتجارب الطليعية الأبعد من السريالية، السريالية جرى تجاوزها إلى ما يسمى (ميتاريالية) (ميتارليزم) التي يتركز سعيها في كيفية إيجاد علاقة بين الواقع وشكله الأسطوري وشكله الحلمي، وفي ما يتعلق بالبيان ثمة حديث طويل عن الحلم لكن هناك حديث آخر عن جوانب أخرى، ربما أهملتها السريالية، جوانب ترتبط بالموقف الطليعي، المهم في (البيان الشعري) هو تأكيده على حرية الكتابة والكاتب.

ـ لمناسبة الحديث عن (البيان الشعري) ثمة قاسم مشترك بين جماعة (البيان) و"جماعة كركوك" هو فاضل العزاوي ـ شخصياً أعتقد أن أهمية جماعة كركوك تكمن في كونهم استطاعوا أن يشكلوا تياراً يندفع بالشعر إلى الأمام، فيما انفض جماعة البيان الشعري أفراداً لا تنتسب مشاريعهم الشعرية إلى الروح التبشيرية التي تضمنها البيان.

* البيان الشعري كتبته أنا، لينشر باسمي في مجلة الشعر 69 (وهي مجلة تختص بالشعر أوقفت بعد أربعة أعداد) وبعض الشعراء الذين كانوا معي في مشروع المجلة (سامي مهدي، وخالد علي مصطفى، وفوزي كريم) اقترحوا أن يوقعوه معي بدلاً من أن يصدر باسم شخص واحد، ووافقت على ذلك، إذ لم يجر أي تغيير في البيان. طبعاً سرّني أن أجد شعراء يتقبلون وجهة نظري، بل كانوا متحمسين لها. لكن الشعراء الذين وقعوا البيان معي، لم يدركوا الروح الحقيقية له وإنما اعتبروه بياناً طبيعياً، في حين أنه تضمن أفكاراً جذرية وأساسية في الشعر، وفي موقف الشاعر أساساً. لذلك تظل علاقة الشعراء الثلاثة بالبيان الشعري خارجية بشكل ما.

جماعة كركوك تجربة أخرى، بدأت سنة 1955 عندما أصدرت مدرستنا مجلة باسم "صدى الشباب" التي كان يشرف عليها الدكتور سنان سعيد (كان مدرساً في مدرستنا قبل أن ينال الدكتوراه). واشتركنا أنا ومؤيد الراوي في المجلة أنا بمقالة عنوانها (الفن والحياة) ومؤيد الراوي بمقالة أخرى لا أتذكر عنوانها.

في العام التالي ـ وهذا شيء طريف ـ رأينا نشرة جدارية أصدرها طلاب الثانوية المسائية (كانوا يواصلون دراستهم في البناية نفسها مساء) عنوانها "الهدف" فأصدرنا نشرة مضادة باسم "السهم" تضمنت هجوماً على هؤلاء وتسفيهاً لأفكارهم وقصائدهم، ودون أن نعرضها على المشرف ألصقناها على الحائط، وعلى العموم كانت تحمل نزقاً صبيانياً في حينها.

الكتّاب الذين اصدروا النشرة المسائية والذين هاجمناهم لأنهم كانوا ـ بنظرنا ـ أدعياء، هم (المرحوم يوسف الحيدري، قحطان الهرمزي، أنور الغساني) هؤلاء كانوا خصومنا الأدبيين، ومن هنا تعارفنا وشكلنا عام 1957 رابطة سرية للأدباء شكلت ظاهرة ثقافية في كركوك..

كنا قد بدأنا النشر عام 1955 ونشر لي أدونيس ويوسف الخال قصيدة طويلة على صفحتين في مجلة كانت تصدر في بيروت بعنوان "المجلة" وكان أنور الغساني قد نشر ترجمات وكذلك يوسف الحيدري. في تلك الفترة صدرت في كركوك مجلة اسمها (الشفق) بالعربية والكردية وقد أسهمنا فيها، وكانت هناك جريدة اسمها (آفاق) كانت تقليدية في توجهها فدخلناها ونشرنا فيها نصوصنا.

عام 1959 جاء شخص وقدم لي أشعاره (وكانت تحتوي على قواف لكنها غير موزونة) كان هذا الشخص هو سركون بولص فاهتممت به وقدمته للآخرين، وعن طريق سركون بولص تعرفنا على جان دمّو. وكان هناك شاب يجالسنا لكنه لم يكن يكتب فصار يكتب بتأثير المجموعة، كان ذلك الشاب هو صلاح فائق.

في العام 1956 كنت قد تعرفت عن طريق المرحوم يوسف الحيدري على قس (ذهبتُ إلى الكنيسة لأتعرف عليه) كان ذلك القس هو الأب يوسف سعيد، في هذه الفترة اهتممنا بديستويفسكي، تشيخوف، غوركي، أندريه جيد، اليوت، باوند.

ـ لكن هل استطاعة "جماعة كركوك" أن تشكل تياراً في الكتابة؟

* الروح التي ظهرت في الستينات كان "لجماعة كركوك" دور مهم وفاعل في تشكيلها، هذه الجهود انضمت إلى جهود كتاب وشعراء آخرين قادمين من مختلف المحافظات، أو من الموجودين في بغداد.

بالنسبة لي، باشرت فور وصولي إلى بغداد بإقامة أماس، وألقيت في 1960 في أمسية "الأربعاء" باتحاد الأدباء قصيدة "يولسيس" وعلق عليها كل من سعدي يوسف، وناظم توفيق، ورشدي العامل. ووجدوا فيها روحاً جديدة، وهي من نصوصي الأولى التي أبقيت عليها، كما باشرت منذ وصولي إلى بغداد عام 1959 بالنشر في الجرائد العراقية فنشرت قصائد "الشرفة" و"العاشق والراقصة" وسواهما من القصائد التي تمتلك كثيراً من الفكاهة، واللغة الجديدة. وفيها شيء من القصة، إلا أن انهماكي في الحركة الطلابية، قادني إلى السجن حيث اعتقلت بين عامي 1963 ـ 1965، وبفعل تجربتي في السجن صار لدي موقف نقدي من الحياة، ومن السياسة، من المؤسسات، ومن الكتابة، هنا أتذكر الرسالة التي بعثتها من السجن إلى عبد الرحمن مجيد الربيعي، الذي كان يحرر صحيفة "الأنباء الجديدة" عام 1964، كانت رسالة نقدية لتجربة الرواد، ترى أن الوقت قد حان لتجاوز هذه التجربة، لكن الربيعي نشرها كرسالة من صديق دون الإشارة إلى اسمي، ليعلنها فيما بعد، وقد أوردها سامي مهدي في كتابه "الموجة الصاخبة" بوصفها إشارة مبكرة للروح الستينية وموقفها النقدي من تجربة الرواد.

ـ ديوانك الجديد عنوانه (فراشة في طريقها إلى النار) هل المسافة بين الفراشة ومصيرها ـ النار ـ مأهولة بتداخلات الموت/ الحياة؟ وهل اقتربتَ أنت من النار؟.

* كل شاعر تجتذبه النار بشكل ما، وأنا في كل حياتي كنت دائم الاتجاه نحو الخطر، كما لو أنني أجد تحققي في هذه المغامرة. ففي العنوان، مازالت الفراشة في طريقها إلى النار، لم تصل بعد، الموت نار وأنا في طريقي إليه، ثمة قوة جذب تمتلكها النار ولا تستطيع الفراشة سوى أن تذهب إلى هذه النهاية، وكأنها محكومة بهذه الصيرورة، وأنا مدرك هذا الآن، في هذا العمر أعتقد ـ ولا يزعجني الأمر كثيراً ـ إنني أتجه إلى النار. الكتابة ذاتها، وبشكل ما، تتجه إلى النار أيضاً. (فراشة في طريقها إلى النار) كتابة حاولت أن تقول شيئاً إنسانياً عميقاً، في التجربة الإنسانية، والتجربة الحياتية وفي تجربة الموت، تجربة الحفلة الكبيرة التي نسميها الحياة ووجودنا فيها.

ـ قلتَ، في مكان ما من هذا الحوار، ان على الحداثة أن تنقد نفسها باستمرار لكي تندفع. كيف ترى إلى الشعر الآن على وفق تصورك النقدي هذا؟

* هناك الآن عدد كبير جداً من الشعراء يكتبون القصائد، أيضاً حدثت تحولات جذرية في الكتابة نفسها، ومعظم الشعراء الآن، يكتبون قصيدة النثر، وأنت تعلم أن قصيدة النثر قد توحي بالسهولة لبعض الشعراء، على افتراض أنها لا تحتاج إلى معرفة بالوزن والتفعيلة.. الخ. أنا أعتقد أن كتابة قصيدة النثر الناجحة أصعب بكثير من كتابة قصيدة التفعيلة، وحتى القصيدة العمودية.

هنا يكمن الخطر. وثمة من يعتقد أن كتابة قصيدة النثر تتحدد في التعبير عن العواطف وفي سكبها على الورق.

من جانب آخر، ثمة غنى واضح متعدد داخل الشعر العربي، لكن المؤسف أن النقد الجاد شبه معدوم. النقد مقتصر في الغالب على تجربة الرواد، فالكتابة عنها أصبحت سهلة، أبعادها معروفة، وحدودها معروفة، وحتى موضوعاتها أصبحت معروفة. ولا يحتاج الناقد سوى أن يمسك بمفاتيح معروفة هي الأخرى لكي يتحدث عن السياب أو نازك أو البياتي.

أما الكتابة النقدية التي تتطلع إلى شعراء ما بعد الرواد، فهي كتابة نقدية ليست سهلة تستلزم ناقداً يمتلك معارف وإمكانيات قرائية للدخول إلى النص وتحليله من داخله، وهذه المهمة تتطلب ناقداً إبداعياً بمستوى المبدع وهو ما يكاد يكون غائباً، النقد الحالي هو نقد صحفي استعراضي ونادراً ما وجدت ناقداً كتب عني وبلغ ما أريد قوله. في الستينات وبداية السبعينات كان هناك نقد يحاول تحليل الأعمال والوصول إليها ولكن فيما بعد (الثمانينات وما بعدها) انحسرت هذه البداية ليحل محلها نقد سريع لا يكاد يقول شيئاً. وهذا هو السبب في اننا لا نستطيع الآن أن نكوّن نظرة حقيقية عن مشهد الشعر العربي. هناك المئات يكتبون ولا أحد يقول لنا من هو الشاعر الحقيقي بين هؤلاء ومن هو الدخيل.

ربما تجد عشرة شعراء ينشرون في مجلة واحدة، وقد يكون ثلاثة من بينهم حقيقيين أما البقية فمتطفلون، لكن هيئة التحرير قد لا تفرق بين النص الحقيقي والنص الركيك.

هذه المشكلة حقيقية لا يمكن تخطيها إلا بظهور نقد يميز الشعراء الذين بلغوا مستوى حقيقياً في الكتابة عن الشعراء الذين مازالوا على السطح.

هذه الإشكالية كانت أسهل في ما يتعلق بتجربة الرواد، كان هناك شكل كتابي وطريقة معينة، مقبولان، وضمن هذا القبول الكلي كان ممكناً تمييز المستويات، أما أن تأتي إلى كتابة ليس حولها رأي مشترك أو تقاليد مشتركة أو معرفة مشتركة، عند ذلك ينشأ هذا الاختلاط.

لكن على العموم، ان هذا الغنى والتنوع، وحتى الكثرة، ليس ضاراً، فمع الزمن سيتهاوى الكثير من الشعراء غير الحقيقيين فيما يظل الشاعر الحقيقي يؤكد نفسه عملاً بعد آخر، وربما يتعلم الجمهور، وربما النقاد أنفسهم كيف يفهمون هذا الشعر وكيف يحللونه وكيف يدخلون إلى عالمه.

 

حوارات مع شعراء عراقيين