شوقي عبد الأمير

الناس ينظرون والشاعر يرى

ملحق الثورة الثقافي

العدد 55

30/3/1997

منذ ديوانه الشعري الأول "فلسطين ابداً" عام 1967 وحتى آخر إصداراته الشعرية "ديوان المكان" 1997 يقود الشاعر شوقي عبد الأمير تجربته في القصيدة إلى عوالم مختلفة.. ومع أنه كتب بالفرنسية وصدرت له ستة كتب عن دور النشر في باريس التي أقام فيها ما يقارب الربع قرن، فإنه أسهم بالمقابل في نقل أشعار عربية إلى الفرنسية وبالعكس. فقد ترجم للسياب وأدونيس وايتيل  عدنان وسواهم كما نقل إلى العربية ديوان "نحات الصمت" وهو أنطولوجيا من الشاعر الفرنسي الكبير "يوجين غيلفيك".

أصدر حتى الآن أحد عشر ديواناً عدا عن ترجماته العديدة منها "أبابيل، حدود، حديث النهر، حجر ما بعد الطوفان، وحدث من بعد سومر" وسواها.

انتقل مؤخراً إلى بيروت للإشراف على مشروع "كتاب في جريدة" الذي تصدره منظمة اليونسكو حيث يعمل مستشاراً ثقافياً للمنظمة لنشر الثقافة والأدب العربي وخلال زيارته إلى دمشق بصدد البدء بتنفيذ المشروع المذكور، كان هذا الحوار:

ـ تهتم في شعرك بالأشياء والأفكار معاً، أو لنقل بوضوح، إنك ـ بمعنى ما ـ شاعر شيئي فالأشياء مادتك الأولية تقول بها ومنها.

في قصيدة "حجر في دلتا الاسم" مقطع تقول فيه: "هل ترى في المدن التي تدخلها إلى أناسها أم إلى حجارها؟" كذلك تفلسف الحجر، وتؤنسنه، تتابع سيرته وتاريخه المخفي. في مكان آخر تقول "الزمان والمكان حدود بين ظلمتين" هناك أمثلة كثيرة توضح أن لديك نزوعاً إلى التفلسف في الشعر. هل للشعر فلسفة غير نفسه؟.

* يتضمن سؤالك حالتين: خاصة وعامة. الخاصة تتمثل في حديثك عن نموذج الحجر. والعامة في تحليلك الشامل لعلاقتي الفكرية ـ الفلسفية ـ التأملية في الشعر.

بدءاً أقول لك: لو نظرنا لهذه الأشياء من الخارج فستكون ملاحظاتك مصيبة. لكنني أعتقد أننا في الشعر العربي، إلى اليوم، لم نطرح السؤال المضيء لمسيرة شعرنا. أقول المضيء لأننا بطرح الحقيقة ـ على الأقل ـ سنستهدي إلى الأجوبة الحقيقية. السؤال الحقيقي بالنسبة لي ليس في شكل الكتابة "قصيدة النثر" "القصيدة الحرة" أو "الشعر العمودي" ولا هو في الغاية وراء الكتابة "الهدف، الالتزام، الواقع".. الخ.

السؤال الحقيقي: ما هي ملامح الخطاب الشعري؟ كيف يمكن لنص أن يعرف أين تقع هذه المفاتيح والرموز والطلاسم التي تجعل من بعض ما يقال أو يكتب شعراً.. وما هي الملامح بالمقابل التي تجعل مما يقال نثراً أي خطاباً نثرياً؟.

ستقول لي أن الصحف والمجلات والنقاد ملأوا الدنيا بهذه الأسئلة ولكن ليس بالنسبة لوجهة نظري فأنا لم أقرأ لناقد عربي فلسفة الخطاب الشعري بالمعنى العميق للكتابة. أعطيك مثالاً: أحد أهم الذين حاولوا الإجابة على هذا السؤال في العالم، الفرنسي غاستون باشلار في كتاب "الشعر والميتافيزيقيا" يحدد باشلار ـ وبشكل دقيق ـ نوعين من العلاقة مع الزمن: الأولى شعرية والثانية نثرية. فهناك زمن وهناك ديمومة، وفي هذا فرق فلسفي وجوهري. فالزمن هو كل موحد: الماضي، الحاضر، الآتي. وهو: الأبد وهو المجهول قبل وبعد. نحن في برزخ بين ظلمتين: الأبد والعدم، وهذا يتطابق مع تحليل برجسون للزمن. هذا الزمن عندما يحتله الخطاب فمن الضرورة أن يصبح شعراً ويسميه الزمن العمودي فحينما يتعامل النص مع هذا المفهوم للزمن يصبح شعراً بغض النظر عن شكله شعر عمودي ـ قصيدة نثر ـ قصيدة تفعيلة، وهذه التقسيمات تصبح قشوراً سرعان ما تتساقط.

أما حينما يتعامل النص مع الديمومة ولا يتعامل مع الزمن فيصبح نثراً. الديمومة هي الجزء المضيء بين محيطي العتمة وهي شكل حدثي أفقي، أي أن الديمومة تقاس من الحياة إلى الموت. هذا هو الزمن المعاش وبهذا المعنى فإن النص الذي يحذو حذو الديمومة هو بالضرورة نص نثري سواء كتب بالوزن أو بغيره.

إذاً، حسب باشلار، النثر والشعر خطابان ينعكسان أمام مرآتي: الزمن، الديمومة، واللغة في كليهما عنصر أساسي لكن تقاطعهما عمودياً وأفقياً يشير إلى أن هناك سهولة وبساطة في التعامل مع الحدثية، مع الجريان الأفقي للزمن ومن هنا نفسر شيوع وقراءة التعامل مع النص النثري فيما نرى تحول النص الشعري إلى نص اعتراضي من حيث الفلسفة لا من حيث الأيديولوجيا فهو لا يعترض على السلطة/ الواقع، لكن اعتراضه العميق على مجرى الزمن أي حركة الديمومة نحو الفناء الاحتجاج على الفناء، التصدي للموت، لأنه يتغذى من الموت نفسه، لأنه كما قلت زمنه كلي، هو من المجهول قبل وبعد وفي آن معاً.

هذه فكرة فلسفية نوعاً ما، لكن من الممكن أن نستهدي بها بالحديث عن الشعر. أنا أقرب إلى الخطاب العمودي إلى هذه الواقعة المعترضية للديمومة. إلى اللغة المحتجة على الموت في الكتابة شعراً.

لنأت إلى أمثلتك الخاصة بقصائد "قراءتي" للحجر وهي من ديوان "حجر ما بعد الطوفان" الذي أردت له أن يكون قراءة شعرية لهذا العنصر المذهل في الوجود الذي تتكون منه الأرض وتبنى الحضارات ومنه بدأنا وفيه ننتهي، الحجر ليس شيئاً فحسب، إنه تكدس طلسمي لحقائق نجهلها ترسبت مثل الذرات حسب هيراقليطس، علقت ببعضها وكأنها رموز للوجود بأشكال متباينة ومختلفة اتخذت وتراصت مكونة الكتلة التي صارت فيها الحياة وإليها تؤول. بهذا المعنى أتحدث عن الحجر ولهذا فعندما أقول:

"قبل الموت

بعد الموت

لابد من المكوث زمناً كحجر".

هذا هو الحجر وبهذا المعنى تأمل هذه الحقيقة: إنه وقفة عمودية أمام رمال الحاضر التي تتهاوى تحت أقدامنا مثل الصحارى متلاشية.

المنفى البابلي جسد لا يملك حاضراً.

ـ كتابك الجديد "ديوان المكان" تكتبه بعد ما يقارب ربع قرن من هجرتك المكان الأول وهنا المفارقة، هل تحاول في هذا الكتاب أن تستعيد "التراب" الأول أم تمضي بعيداً في إنشاء عناصر أخرى في هذه المرحلة. عناصر خارج مفهوم المنفى المكاني. ألا تقول في إحدى قصائدك "حجر على أرضه ولسنا على أرضنا"؟.

* خرجت من العراق منفياً سياسياً، والآن، وبعد ربع قرن من التطواف في العالم، والعيش والكتابة بين الدول العربية وسواها ـ خاصة الإقامة في فرنسا ـ صرت اليوم منفياً بابلياً. والمنفى البابلي بالنسبة لي أعمق وأغنى أشكال المنفى كمفهوم فلسفي. ولتوضيح هذه الفكرة، أذكر أنني اكتشفت مصادفة وأنا أقرأ نصاً بابلياً بترجمة طه باقر عن بابلي يتحدث عن المنفى يقول هذا النص:

"لقد نفتنا الآلهة

غرباء حتى مع أنفسنا

نجوس أزمنة التاريخ والمستقبل

دون قيثارات

هكذا كان حكمنا الأبدي

رحلة بحارة يعشقون النبيذ"

هذا "المنفى البابلي" ـ كما ترى ـ ليس غريباً بين الشعوب والأجناس ولا حتى مع شعبه، إنها غربة مع النفس وتلك أقسى وأمضى من كل أشكال النفي. إنها غربة الداخل فهذا البابلي لا يجوب الأقطار والقارات والحدود كما ألفنا اليوم لكنه يجوب أزمنة وأية أزمنة؟ إنها أزمنة الماضي وكذلك المستقبل بمعنى ما أن حاضره ملغى فهو يملك جسداً ولا يملك حاضراً وذلك هو المنفى الحقيقي وهنا أعود إلى سؤالك فالمكان هو: الأرض للإنسان، وبهذا المعنى الكوني الشامل فالأرض لنا نحن البشر وليس هناك منفى مكاني، كل ما في الأمر أن هناك ألفة مكانية حيث يولد الإنسان ويترعرع ولا تكفي الغربة المكانية لسلبه شموله وكينونته.

العراقيون منفيون لأنهم يحملون أجسادهم ولا حاضر لهم إنهم مثل هذا البابلي: إما مرميون باتجاه الماضي يتذكرون الزمن الذي كان أو يرتطمون بمرمرة المستقبل. هذا الجدار الغيهبي الذي لا يعرفون شيئاً عنه ولا عما سيأتي.

ذلك هو المنفى الشعري على الأقل، أما أشكال النفي الأخرى المكانية/ اللغوية/ الاجتماعية فهي كما أعتقد صيغ مبسطة. شكل من تقاليد قشرية في تقييم وفهم هذه الغربة العميقة وهذا التصحر الذي يطال المكان بأعمق أحاسيسه.. أنا أتحدث اليوم عن المكان بهذا المفهوم تماماً. المكان لي والأرض لي أينما حللت. لكن هل أملك حاضري؟ ذلك هو السؤال.

الرؤية إصغاء البصر

ـ في قصائدك نزوع لاختزال المعنى بما يمكن أن أسميه اللغة المحمولية استعارة من حدي أرسطو: الموضوع ـ المحمول ـ يتضح ـ ذلك في تعبيرك بجمل اسمية خبرية وأنت تعرف أن الخبريات تحاول تقريب الأشياء من هوية ما، عن طريق تثبيت صفات لها.. هناك أمثلة عديدة على ذلك: "الليل ممحاة سوداء، الليل أخطر التضاريس، الكتلة انتظار لا ينتظر، التماثيل هي القبور الأكثر دوياً، الفكرة ملجأ حجري" وسواها كثير. هذه التعريفات هل تحاول أن تقترب بواسطتها من اليقينية المفقودة أم لعلها قضية فنية؟.

* كلاهما وأكثر من ذلك بالنسبة لي. كلاهما لأن الشعر قراءة للعالم، فالشاعر يكتشف حقائق الوجود التي يراها كل البشر إنما لا يستطيعون التعبير عنها باللغة أو حتى تشخيصها. ثمة فرق بين أن تنظر وأن ترى فكل من يملك بصراً ينظر ومن يرى قليل، بالضبط الفرق ذاته بين السماع والإصغاء، الرؤية هي إصغاء البصر والشاعر مسلح بإصغاء الرؤية وحين يلتقط الأشياء عليه أن يسميها وذلك أساس الخلق. فالخلق أن نسمي الأشياء ثم تكون هكذا عرفنا من الأديان والميثولوجيات، وإذا استطاع الشاعر أن يسمي فقد فتح نافذة في جدار المعتم، جدار الغيب أو جدار المجهول.

من هنا أقول في مطلع "أبابيل":

"تمتلىء البئر بالأسرار

عندما تنشف".

هذه جملة خبرية كلنا يرى بئراً خالية ويتوقف الأمر عند هذا الحد!.

لكن يكفي أن نعرف بما أسميه "إصغاء الرؤية" ان البئر التي تخلو من الماء تبقى ممتلئة فعتمتها يمكن أن تكون مخبأ لكل الأسرار الممكنة.

هذه الرؤية بالنسبة لي هي إحدى إضاءات الشعر العميقة وأنا أكتفي بنقلها إلى اللغة عارية بالضبط مثل صياد يقدم لؤلؤة وقد نزع عنها قشرتها ولا أحتاج إلى استعارة أو تفعيلة أو تركيبة لغوية معقدة مدورة لكي أوصل هذه الإضاءة إلى قرائي.

في مثالك عن "الليل" استشهدت بنصف بيت أنا قلت:

"الليل ممحاة سوداء

الزمن ممحاة".

في المزاوجة بين المحو هنا جدل مهم بين محو الليل ومحو الزمن ولا أحب أن أشرح خاصة في الشعر.

هذا فيما يتعلق بملاحظتك

قلت وأكثر بالنسبة لي لأنني أعتقد أن في مسيرة الشعر لابد من اكتشاف حقائق العالم التي لا يصلها بحث مختبري ولا تحليل منطقي ولا مشاهدات رحالة ولا خلاصات مؤرخين.. هناك نوع من الحقائق لا تكتب إلا شعراً. وقد حصل بالفعل أن أدرك مثل هذه الحقائق أشخاص لم يعرف عنهم أنهم شعراء قط لكن طبيعة الاكتشافات وطريقة نقلها كانت من أروع نماذج الشعر. وهنا أذكر على سبيل المثال العديد من المقولات التي وردت في نهج البلاغة وطواسين الحلاج ومخاطبات النفري وكثيراً من أمثلة هذه النصوص التي لم تكتب لتكون شعراً وليس أصحابها بشعراء.

هذه الأنواع من النصوص تستهويني وهؤلاء الذين لم يكونوا شعراء قدموا لنا أعلى النصوص الشعرية بقدر ما ضبب وشوه علينا الكثيرون ممن يسمون شعراء، لكنهم يكتبون شيئاً خارج الشعر.

ـ تحدثت عن الأديان والأساطير والتصوف وفي شعرك توجه واضح ومقصود نحو معالجة الأسطورة والتاريخ وتراث الشرق القديم؟.

هنا لدي ملاحظة، فأغلب الشعراء العرب المقيمين في مدن الغرب يهتمون بهذه الناحية وكأنهم معنيون بمخاطبة قارىء غربي بما يمكن أن أسميه "الاستشراق المضاد" عن طريق إعادة اكتشاف الشرق لنفسه بنفسه.

ألا ترى أن هذا يضع الأسطورة والتراث وسواهما في فخ الأيديولوجيا؟

الذكرى والتاريخ

هذه الملاحظة تتعلق بما يكتب من الشعر العربي في الخارج وأنت تعرف أن الشعر العربي في الخارج سوق فيها من كل صنف.

وبما أنك تعني النصوص ذات العلاقة بالأسطورة والتاريخ فأعتقد أن المسألة لا علاقة لها بما أسميته "الاستشراق المضاد" فهذه المسألة غير شعرية وممكن أن تقوم بها الدراسات والحركات كما يفعل الكثيرون.

قبل قليل تحدثت أن فلسفة النص الشعري تتمثل في العلاقة مع الزمن "قبل الآن وبعده" وانها متحدة في التناول الشعري وبهذا المعنى أكرر أن التاريخ والماضي هما جزء مؤسس في الحاضر، كما أن الحاضر جزء مؤسس في المستقبل ولا أدل على هذا الزمن من أن أكثر مشكلاتنا السياسية اليوم هي مشكلات داخل التاريخ. خذ مشكلتنا مع إسرائيل، اليهود واقع توراتي أي واقع نصي أحالوه إلى واقع سياسي واجتماعي واقتصادي والصراع هو امتداد لشكل من الهوية أي: من نحن؟.

وأمام هذا السؤال لا يمكن إلا أن ننظر إلى الوراء أقول ببساطة أن كل الأسئلة الحالية تغرق في مياه التاريخ ولن تكون حاضراً إلا بهذا المعنى، وهذه هي النظرة العمودية للنص، للشجرة تاريخ كما للضوء تاريخ في لغة الشعر. التاريخ الذي أقصده بمعنييه الفردي المرتبط بالذاكرة وأسميه الماضي، والجماعي المرتبط بالتسجيل والتدوين والكتابة. التاريخ إذاً: مكتوب، نصي، مدون، متنازع عليه، مختلف.. أما الماضي فهو فردي، حلمي، متعلق بالأنا الصغيرة، لهذا فأنا لا أخلط بين الذكرى والتاريخ، لكنهما ينصهران في النص. إذ أن التداخل بين الذاكرة الجماعية وذاكرة الأنا يمكن أن يجعلهما متكاملين كتكامل الأنا الصغيرة بالأنا الكبيرة في جمهورية النص. فيما يتعلق بالعلاقة مع التاريخ، وهو ما يعرف اليوم بكتابة التاريخ، بشكل تجريدي شعري أقول أن كل كتابة هي تاريخ لأنها تسجيل للحظة معاشة وتدوينها، وبالتالي فإن أية كتابة في هذا الإطار هي شكل ما من أشكال كتابة التاريخ.

يحاول بعض النقاد أن يلعب بشكل شعري فيقول: الشعر هو كتابة تاريخ المستقبل، ولم لا؟ لكن إذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نقر أيضاً أن لا أصدق من أن يكتب الشاعر التاريخ، لأن الكتابة النثرية للتاريخ، والتي يراد لها أن تكون موضوعية، لم تتحقق على الإطلاق. التاريخ المكتوب أكذوبة كبيرة بقلم المؤرخين، هل تظن، ولو لدقيقة واحدة أن الطبري كان موضوعياً؟.

أمام هذه النقطة وأمام الموضوعية البحتة الصارمة، لم يبق أمامنا إلا الكتابة الذاتية، وهي أصدق وأجمل من الشعر ككتابة ذاتية؟.

وعلى أية حال فالشعر هو ديوان العرب منذ البدء، وقد سجلوا فيه كل شيء تقريباً: التاريخ، الجغرافيا، حتى الطب "مع ألفية ابن سينا" وقواعد اللغة مع ابن مالك.

ـ بما أنك تعرضت للمؤرخين وموضوعيتهم، أنا أعتقد أن النقد العربي لم يكن بحال أفضل، كان معيارياً حكمياً، وما زال، بل انه حالياً، خسر منهجية القدامى، أو قلدها في أحسن الأحوال! أو ـ وهذا الشائع ـ اكتفى باستنساخ مدارس النقد الأوروبية.

أين يكمن ـ برأيك ـ سبب هذا المأزق؟

* مشكلة النقد، تراثياً وحاضراً، تكمن في كونه أقل شأناً من النتاج الإبداعي نفسه، وأعتقد أن السبب عميق، ومرة أخرى هو سبب فلسفي.

فالنقد مشروع حضاري كامل ومؤسس على بنى فكرية ومنطقية وتاريخية ومنظور مستقبلي، انه مصهر تدخل فيه عناصر الإبداع، والتاريخ، والأخلاق، وقيم الجمال في لغة وثقافة شعب ما. هذا المصهر هو في الواقع أصعب وأعقد في تكوينه من ميلاد شاعر! وهو، ببساطة، الفرق بين أن تنبت شجرة في أرض، وبين تصنيع أخشاب هذه الشجرة في بناء مرافق حياتية يكون الخشب مادتها. تاريخنا مليء بهذه الأشجار الغنية بأثمارها وخشبها، وقلة استطاعوا أن يخلقوا منه نتاجاً حضارياً وهذه مشكلتنا. فمنذ البدء ظل النقاد على هامش نهر النص، يخوضون فيه تارة ويغرقون فيه تارة أخرى، ولم يحصل أن ابتكروا منه شيئاً مهماً.

خذ مثلاً ابن قتيبة ـ الناقد المهم ـ إنه يستهجن هذه الأبيات في وصف الصحراء واللقاء فيها، ويستشهد بها على أنها نموذج للشعر الرديء:

"ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسح بالأركان من هو ماسح

وشدت على حدب المهارى رحالنا

ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطي الأباطح".

وثمة أمثلة كثيرة في هذا السياق، كما يتوج النقاد أفضل عشرة شعراء ويحذفون هذا لأنه قال شعراً لم يألفوه. أضف إلى ذلك إننا لم نقرأ نقداً عميقاً للنص العربي إلا عندما أراد النقاد إثبات إعجاز القرآن الكريم، عندها نقرأ للجرجاني، وهو بهذا المعنى أهم ناقد عربي من وجهة نظري، في كتابه "دلائل الإعجاز" أراء وأفكاراً نقدية عميقة.

لقد احتاج العرب لتأسيس النص القرآني وإثبات إعجازه إلى خلق جدل ومنطق نقدي عميق، يمكن أن يصلح للشعر، لكنهم لم يفعلوه مباشرة مع الشعر.

هذا فيما يتعلق بالنقد العربي القديم.

أما الحديث، فأغلبية ما يكتب ـ واسمح لي بهذا التعبير ـ ليس نقداً بل هو "نكد" شخصي وسياسي وهامشي مدرسي في غالبيته ـ وأقصد بالمدرسي أنه تعليمي مرتبط إما بالشرح أو بالتوثيق ـ وهذا إساءة للنص أو يقوم الناقد بتنصيب أمراء للشعر أو يقصي آخرين عنها! أو في أحسن الأحوال يأتي النقاد بقوالب أيديالوجية وسياسية وأحياناً جمالية ـ مترجمة بشكل سيئ عادة ـ لقسر النص داخلها، وهكذا يصخب الهامش الشعري في حياتنا ولا نقرأ ما يمكن أن نسميه نقداً إلا ما ندر وأقول ما ندر لأن هناك بعض الأصوات في النقد تبدو أكثر جدية وتنظر للنص بوصفه فلسفة وتأسيساً خارج جميع الاعتبارات الثانوية، وهذا أمر ليس غريباً، فأفريقيا تعج بالفنانين والنحاتين الكبار، لكن ليس ثمة فيلسوف أو مفكر أفريقي مهم! كما إننا ـ وحتى في النصوص القديمة التي وصلتنا من كل الحضارات ـ لم نقرأ نقداً.. خرج النقد من عباءة أرسطو عندما بدأ ينظر لفنون الكتابة، لكن، ويا للمفارقة ظل تحت عباءة أرسطو!.

الفرنسي أم السومري؟!

ـ قصائدك، عموماً مبنية على "المقطع" إنها تقترب من "الهايكو" الياباني، ورغم أنها ممقطعة في الخارج، فإنها تتصل في الخفاء، يتحول البياض بين مقطعين إلى حوار آخر، وبذلك تكتسب دهشة المقطع وتحقق وحدة عضوية في الوقت ذاته. هل لذلك علاقة بكونك تكتب قصيدة النثر وفق نموذجها الفرنسي؟

* ما تقوله عن المقطع صحيح، والأصح ملاحظتك فيما يتعلق بالتواصل بين هذه المقاطع التي تبدو كأنها متباعدة، لكن تباعدها يشبه تباعد جزر الأرخبيل، فهي في العمق متحدة.

وعلى الرغم من أن المقطعة ليست عامة في كل قصائدي، فمجموعتي الجديدة تضم قصائد من نوع آخر، أقول على الرغم من ذلك فأنا أهتم بالمقطعية فعلاً، إذ أعتقد بأهمية ترك البياض بين المقاطع، البياض الذي ما هو إلا صمت، أو متسع للصورة الشعرية، إنه متنفس لابد منه خاصة عندما تغوص بعيداً لالتقاط شيء ثمين وتخرج إلى اليابسة.

أحياناً أعتقد أن القصيدة تكون بقعاً لإضاءات إذا قرأتها مجتمعة، مقطعة، تؤدي إلى دلالة قد تختلف إذا ما جمعتها بشكل متلاصق. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنا لا أكتب، في الواقع تأثراً بالنص الفرنسي، لكن يمكن أن تجد أبوة للمقطعية في النصوص السومرية والبابلية، فهو نثر وهو مترجم، وهو نثر لحقائق تتجرد داخل اللغة:

"الآبار أقداح صغيرة

أور قصبة وحيدة

أنت تتسلق قارباً غائراً مثل فيل".

هذه الأبيات ليست شعراً فرنسياً، فهي كتبت قبل الشعر الفرنسي بأربعة آلاف سنة. قل لي هل أحتاج، أنا الذي ولدت في "الناصرية" جنوب العراق، إلى التأثر بالشعر الفرنسي، أم بهذا الشعر الجنوبي الذي لا يصل الشعر الفرنسي اليوم، إلى قدرته في التجريد والاختراق لحقائق العالم.

العودة الخائبة

ـ ولمناسبة الحديث عن الشعر الفرنسي والتأثر والتقليد، أنت مطلع بشكل جيد على التجارب الجديدة في الشعر الفرنسي، وقريب منها إلى حد كبير طيلة ربع القرن الماضي، أعني الجيل المتأخر ما بعد "بونفوا" و"دوغي" و"تارديو" وسواهم، وبحدود اطلاعاتي، يبدو لي أن ثمة عودة إلى الأصول لدى عدد من الشعراء بينما نلاحظ ضمور نزعات التجديد، وانحسار التجريب، بينما لا نزال ـ نحن ـ نجتر عقابيل ومخلفات تيارات ومدارس تكاد تختفي، بم تعلل ذلك؟.

* الواقع أنا مسرور، أنا أرى من الشعراء العرب الجدد من ينتبه إلى حقيقة مثل هذا النوع، حقيقة توصلت لها بعد معايشة ومعرفة بالثقافة والأدب الفرنسي، وأستطيع الآن، وبكل وضوح أن أؤكد ملاحظتك، مع بعض الإضاءات:

التجريب لم ينته تماماً، فهناك مجلة "شعر" التي يشرف عليها "ميشيل دوغي" ـ وهو شاعر مهم ومترجم لهايدغر ـ وهي تمثل خطاً بالشعر التجريبي والثقافوي بالمعنى الذي نعرفه ولها مؤيدوها وشعراؤها وهم موجودون في الساحة الثقافية، كما أن هناك شعراء آخرين مثل برنار نويل ودوبوشيه وغيرهما وهم شعراء يمكن أن يوصفوا "بالحضور الذهني" ولكن يبقى ما تقوله صحيحاً بمعنى أن هذه الموجة لم تعد طاغية، وبمعنى أنها فقدت الكثير من المساحات التي تحتلها، ولم تعد محراراً لمستوى الشعر، أي أصبحت تكويناً بين عناصر أخرى.

حسن، ولكن سؤالك هو لماذا؟

أنا أعتقد أنه كما عادت أوروبا من رحلتها الوجودية مع سارتر وكيرتغارد قبله، وكما عادت أوروبا والعالم أجمع من مسيرة النضال الطبقي مع الماركسية بهذا الإخفاق السياسي والفكري الهائل، عادت أوروبا والعالم من ورائها من مغامراتها الإبداعية، بمعنى أن النص مصهر معرفي تجريبي "فرويدي" إلى آخره.

إذن هي عودة نهاية القرن على أبواب الألف الثالثة، كما يبدو، وأنا أؤرخ للألف الثالثة بكل أشكال العودة هذه.. وأعود إلى سؤالك الأول: عدنا من الصروح والمباني إلى الجدر، عدنا من المدارس والتعاليم إلى الحلم، من البطولات وتحدي الطبيعة والكون إلى الإنسان الأول الذي هو جزء من هذا العالم. هذه العودة تأخذ شكلاً رومانسياً في أوروبا في بعض النصوص، أو دينياً، كما تعرف، في انتصار وتفاقم الحركات الدينية لجميع الأديان الوجدانية، كما أنها تأخذ شكلاً فيما يعرف اليوم بمنظمات الدفاع عن البيئة التي صارت قوى سياسية فاعلة في أوروبا، في حين اندحرت جحافل ما كان يسمى بالقوى التقدمية، وأكثر من هذا فالعودة الخائبة مجتمعة تغلي في قدور سعتها القارات، تفرز في كل مكان من العالم طواغيت وجبابرة وفاشيين يدعون أنهم يملكون مفاتيح الجمال والعدل والخلق والبقاء.

حوارات مع شعراء عراقيين