الشاعر زاهر الجيزاني

القصيدة التي لا تنتج رؤيا ليست شعراً

جريدة بغداد

13/9/1996

 

زاهر الجيزاني شاعر ينتمي إلى ما يسمى بجيل السبعينات وفقاً للتقسيمات الزمنية، وحملت هذه التسمية معها الكثير من الرغبة في اجتراح الجديد وترسيخ الاختلاف، غير أن إصرارها على الارتباط بفترة زمنية محددة جعل مشروعها مرهوناً بعطائها في مساحة تلك الفترة.

للشاعر الجيزاني أربع مجموعات صدرت في العراق وهي: "تعالي نذهب إلى البرية" 1978، "من أجل توضيح التباس القصد" 1980، "انكسري يا عربة الغزاة" 1981، "الأب في مسائه الشخصي" 1989، إضافة إلى كتاب "مختارات من الشعر العراقي الحديث 1975 ـ 1986" الذي أعده بالاشتراك مع الشاعر سلام كاظم .. في دمشق وكان معه هذا الحوار:

ـ أنت من جيل شعري، راهن على الشعر بتطرف، وحمله ربما أكثر مما ينبغي وكانت النتيجة أن تجربة السبعينات الشعرية في العراق بددتها صرخات فرسانها بالتنظير للتجاوز، وفهم التراث والحداثة، وما إلى ذلك، مع أنها كانت تشير، في نصوص بعض شعرائها، إلى آفاق جديدة في الشعر العراقي، كيف تنظر إلى التجربة السبعينية بعد أكثر من عقدين؟.

* أنا ضد الشاعر الفطري، وحقبة السبعينات في العراق، كانت حقبة تتميز بالتثقيف، ولذلك بدا التنظير للحداثة مألوفاً، جنباً إلى جنب مع كتابة نصوص شعرية ذات تقنية عالية. من جانب آخر، تبدو لي تجربة السبعينات أكثر تحدياً على مستوى المغامرة الشعرية، وأكثر امتداداً في زوايا المعرفة، بوجهيها التقليدي والمعاصر، ففي العراق، تم توظيف السحر والتصوف والسيرة والتاريخ والذكريات واليوميات والتجريدات والتأملات، لذلك كانت تجربة غنية، قياساً إلى ما قبلنا وما بعدنا.

قبلنا، كانت حقبة الالتزام الحرفي بالأصول، كما اجترحها السياب والبياتي ونازك، على مستوى الإيقاع ومستوى المضمون، ما أسميه تركيب الصورة الفنية وتوليد المعنى ـ لم تكن المغامرة مكتملة ـ وكلامي هنا ضمن الشعر العراقي ـ وما سمي بشعراء قصيدة النثر أو جماعة كركوك، كانت محاولة ساذجة وخالية من أي إنجاز إبداعي ومتأثرة تأثراً صبيانياً بالشعر المترجم عن الانكليزية، أي الشعر المترجم الذي ينشر في مجلة "العاملون في النفط" أو في مجلة "شعر" اللبنانية. أتحدث حصراً عن تجربة الستينات لدى فرسانها المعروفين، والذين يشكلون امتداداً إبداعياً لجيل الرواد، السياب، البياتي ونازك.

تجربتي الشعرية وزملائي كانت تحدياً لهذه الأصول، والتحدي كان يتميز بفهم تلك الأصول، أنا كنت مدركاً لتجربة السياب والبياتي، وكنت مدركاً لتجربة أدونيس، لذلك كانت تجربتي الشعرية تحمل شروطها أيضاً وتحولت فيما بعد إلى أصل.

هذا الكلام حول الشعرية. أما الأضواء والشهرة، فتدخل ضمن الولاءات الحزبية، وفي العراق أيديولوجيا، لعبت دوراً مأساوياً في عزلة شعراء كثيرين، وإضفاء ألقاب وامتيازات على شعراء لا يستحقونها. وأنا شخصياً أشعر بغبن كبير، وآن الأوان أن أعلن ثقتي العالية بما أنجزته، وفي الكثير منه بتفوق على إنجازات الكثيرين.

ـ لكن المقترح الكتابي لدى جيلكم ظل قلقاً، فمن الدعوة كتابة القصيدة اليومية، إلى استثمار المرجح ـ التراث وكتابات المتصوفة وكتب السحر ـ ألا تعتقد معي أنه لم يتحقق ابتداء من منتصف الثمانينات أي انعطاف نوعي في الشعر العراقي الجديد؟.

* الانعطافة النوعية في الشعر عمل بطيء، وقد لا تكتشف هذه الانعطافة إلا في فترات لاحقة، الشعر العراقي مليء بالانعطافات النوعية ـ بالإمكان الإشارة إليها بيسر وسهولة. لكن الذي حصل أن البعض من الجيل الجديد الذي ظهر بعدنا، يعاني من خلل أساسي، جيل يملك مهارة في توزيع شكل القصيدة الجديدة ولا يملك موهبة، وبذلك تحول الشكل اللغوي للقصيدة إلى ثرثرة فارغة، أي عدم قدرة "البعض" من هذا الجيل على توليد معنى الجديد، ينجز، ايضاً، رؤية للعالم الذي يرتبط معه بعلاقة، وهذه الرؤية ليست ضرورة إنما هي استباق للنتائج المتشائمة أو المتفائلة التي تنتهي إليها آلاف الأحداث والأفعال والممارسات والمبادرات، وحركة القيم في عالمنا، لهذا يكون الشاعر رائياً وليس ثرثاراً، ما تقرأوه اليوم ثرثرة فارغة لا علاقة لها بالشعر إطلاقاً، وفي العراق مئات الشعراء المثرثرين.

ـ انشغلت أكثر من سواك من شعراء جيلك، في قضايا الشعر وما يتفرع عنها من أسئلة ولك مداخلاتك ومتابعاتك في ذلك، لكن تلك الإسهامات ظلت في سياق الإشارات الصحفية ولم تؤسس لرؤيا منهجية؟.

* ليس بالضرورة، أن أقدم بحوثاً ودراسات حول أشعاري أو أشعار زملائي، أنا بالمقام الأول شاعر، أعد نفسي مجدداً ولدي وجهات نظر حول أشعار من سبقوني أو من لحقوني، وكانت فترة المساجلات تلك فترة فرضتها ظروفنا.

في محاضرة لي، قلت ان الأجيال الشعرية في العراق أجيال تقاطع وليست أجيال امتداد بسبب الأيديولوجيا وما غرسته من كراهية في الوسط الثقافي. لذلك كنت وقتها أدافع عن تجربتنا إزاء هجمات الجيل الذي سبقنا، وأعتقد أنني استطعت ـ من خلال ما كتبته حول تجربتي وتجربة زملائي ـ أن أحدد بوضوح هوية القصيدة التي كنت أكتبها، وهي مؤلفة، على صعيد المضمون من:

1 ـ الواقعة التاريخية والحياة اليومية والتأملات الفلسفية والسيرة الشخصية والوصف.

2 ـ فيها موضوع معاصر، أي أنها تقصد شيئاً معيناً يتوجه إلى محموله، وأنا شخصياً كانت قصائدي تحمل موضوعاً معاصراً هو الحرية، وفي القصيدة رفض واضح لكل أنواع العبوديات، هذا ما يلمسه القارىء من حوار صغير أو تأمل أو سرد واقعة تاريخية أو وصف حدث ما.

3 ـ على مستوى التقنية اللغوية والشكل تأخذ المفردة معناها الاستخدامي وليس المعجمي، أي أهتم بالمعنى المستخدم وليس المعنى المقروء بالمعجم، والمعنى الاستخدامي للفظة تحديداً هو المعنى الذي يظهر من خلال علاقة مع شيء آخر يرتبط به.

مثلاً: المقعد في الباص وجسد المرأة الجالسة، مثلاً: "العين" التي تأخذ وظيفة الكلام في الساحات العامة، أو قدور الطبخ الضخمة التي ترتبط بالميت إضافة إلى الأسماء والرموز التي تحتفظ الحكايات والخرافات لها بمعنى فولكلوري.

4 ـ القصيدة ليست قصيرة أو طويلة، بل متوسطة الحجم وهذا ما درجت عليه في قصائدي التي أعتز بها والموجودة في مجموعتي الأخيرة "الأب في مسائه الشخصي".

حاوره: محمد مظلوم

حوارات مع شعراء عراقيين