حميد العقابي: الشعر العراقي عزاء لتاريخ القهر والحزن والمآسي .. والعقد السبعينات لم يفرز شاعراً حقيقياً واحداً!

جريدة "بغداد"

العدد 281

24/5/1996

 

في عقد الثمانينات المفتوح على الحرب بكل تفاصيلها: غارات متواصلة، صفارات الإنذار، دوي المدافع، ورائحة البارود الجاثمة على كل شيء، تشكل جيل شعري انتبه إلى قصيدته، وربما إلى حياته. في الوقت ذاته كان ثمة جيل مواز ينتمي إلى ذات العقد الزمني، يتعقب قصيدته، وربما حياته أيضاً، خارج الأسوار. الجيل الأول اصطلح عليه "جيل الحرب" والآخر "جيل المنفى" التسميتان بحاجة إلى مزيد من التدقيق لتشابك مفهوميهما. الشاعر حميد العقابي ينتمي إلى "جيل المنفى" الذي تشكلت قصيدته خارج حدود الوطن، وداخل غابة الشعر. عن الأجيال الشعرية، أدب المنفى، مناخات تجربته الذاتية، كان معه هذا الحوار..

ـ تنتمي إلى جيل شعري بدأت تجربته ـ بوضوح ـ في المنفى في فترة الثمانينات وهي ثمانينات الحرب التي شهدت في الداخل تبلور جيل شعري جديد اصطلح عليه بجيل الثمانينات. ما مدى صلتكم وأنت تحديداً بالنص الذي كان (مجايليكم) في الداخل يسعون إلى كتابته؟

* أغلب الشعراء الذين تبلورت تجاربهم في المنفى وأنا منهم، كتبوا الشعر ونشروه بشكل متفاوت في نهاية السبعينات، وقد شهدت هذه الفترة وبالتحديد العام 1978 حدثاً ترك آثاراً عميقة في وعي هذا الجيل، فلا أبالغ إذا قلت لك أن جيلي قد أدرك سقوط جدار برلين وانهيار السياسة الستالينية قبل انهيارها الفعلي بما يزيد على العقد من السنوات، ناهيك عن الرفض الذي جابه به نظاماً متخلفاً وفاشياً كالنظام الصدامي، رفض حفر في لا وعيه تمرداً حقيقياً ووعياً بالمرحلة كرد فعل لما حفرته سياط أجهزة الأمن على ظهور شعراء هذا الجيل ثم جاء الشتات فتوزعنا على بلدان العالم التي لم يكن في حسبان شاعر عراقي يوماً أن يصلها، فاتسعت تجارب شعراء المنفى وتنوعت حسب خصوصية المكان. فالشاعر الذي يقيم في الشمال الأوروبي عقداً من السنوات يكتب بالتأكيد شعراً يختلف عن الشاعر المقيم في سورية مثلاً، لذا فإني أرى أن الشعر العراقي في المنفى غني بتنوعه تبعاً لاختلاف التجارب والاختلاط بثقافات أخرى والحرية التي أتاحها المنفى للشاعر. خذ مثلاً الشاعر في المنفى لم ينتظر أمر وزارة الثقافة والإعلام كي يكتب قصيدة النثر.

ما أردت قوله هو أن نصين مختلفين ظهرا في الشعر الثمانيني العراقي يصل اختلافهما إلى أن يلغي أحدهما الآخر، وهو أمر طبيعي نتيجة لاختلاف التجربة ومصادر الثقافة.

ـ أيضاً كيف نظرتم نقدياً إلى تجربة سابقيكم، الرواد والستينيين وحتى السبعينيين؟.

* لم تختلف نظرة "جيل المنفى" حول تجربة الرواد وشعرهم عن نظرة مجايليهم من الشعراء، وان بقي بينهم من يحن إلى الغناء والكتابات الوجدانية النادبة التي تذكر القارىء بالشعر الخمسيني والتي تظهر على شكل آهات يزفرها المنفي في ساعات الحنين إلى الوطن، لكن هذه الكتابات لم تشغل حيزاً واضحاً في ساحة الشعر لأنها محكومة بلحظات كتابتها ومرتبطة بمزاج الشاعر في تلك اللحظات. أستطيع تشبيهها بالحنين المترسب في روح المنفي لسماع أغاني داخل حسن أو حضيري أبو عزيز، ولكن اريد التوقف أمام الشعراء الستينيين وأثرهم الواضح على شعرنا. فكلا الجيلين انطلق من تجربة سياسية مؤلمة ومتشابهة بتأثيرها وأدوارها وحتى شخوص مسرحها فنفس القاتل ونفس الضحية، نفس الخائن ونفس الشهيد. ابتدأت مرحلة الشعر الستيني العام 1963 بعد انقلاب 8 شباط وما تلاها من سجون وتعذيب وقتل وظهور حركات الكفاح المسلح.. الخ، وكذلك ابتدأت مرحلة النفي في الشعر العراقي وتعذيب وقتل وتجربة الكفاح المسلح في كردستان ثم النفي.. في الستينات اقتحمت الثقافات الأوروبية الشعر العراقي في داره، بينما اقتحم الشعر العراقي في المنفى الثقافة الأوروبية في دارها، وقد ساهمت رموز الشعر الستيني التي تقيم في المنفى (أغلب رموز الإبداع الستيني إن لم أقل كلها، خرجت من العراق بعد العام 1978) في التأثير المباشر على الشعر العراقي في المنفى، لذا فإني أرى إن كان للشعر العراقي في المنفى أب فهو الشعر الستيني بتمرده وإبداعه وتجربته ومصادر ثقافته.

لقد كان الحلم الستيني أكبر من أن تتحمله السلطة العراقية وتحالفاتها السياسية الداخلية، لذا فقد حاكوا مؤامرة ضد الشعر الستيني بتعجيل ظهور جيل من المراهقين الذين لم يستطيعوا آنذاك أن يمتلكوا الحد الأدنى من أدواتهم الفنية وأطلقوا عليه اسم جيل السبعينات أو جيل الشباب. وقد ارتبط هؤلاء بسياسة السلطة أو بسياسة الحزب الحليف الذي هو نفسه كان تابعاً للسلطة نفسها، فكان أدباً دعائياً مسطحاً يحاول التملق لهذا الحزب أو ذاك. من هنا فإني أعتقد بأن مرحلة السبعينات لم تستطع أن تفرز شاعراً واحداً، ومن نافل القول أن من بقي من الشعراء السبعينيين مستمراً في كتابة الشعر لا يزال يعاني من شلل الأطفال وإن شارف أغلبهم على سن الخمسين.

ـ وهل كانت لديكم تصورات وتحفظات على طروحات مجايليكم في الداخل بخصوص الحداثة والتراث والأجيال وأدب المنفى تحديداً؟.

* في العام 1987 قرأت في مجلة الطليعة الأدبية مقابلة مع الشاعر خزعل الماجدي أجراها سلام كاظم يتحدث فيها (خزعل) عن الحداثة والشعر والنص الجديد باعتباره يبحث في (الميتا جمال) ومصطلحات وعبارات تدعي الشمولية والمعرفة ولكنها تفيض جهلاً فاضحاً، ومما قاله أن مشروعه الحداثوي ينطلق من رفضه للذاكرة ويحرض زملاءه على دفع التطرف إلى أقصاه ودون التراجع عن المنجز إلخ.. غير أن خزعل نفسه عاد لكتابة قصيدة موزونة غنائية فكان كلامه السابق نزوة وانعكاس واضح لادعاء السلطة السياسية في العراق، الخطاب نفسه الذي يحول الهزيمة نصراً في اعلام النظام العراقي.

ما زلت أنظر إلى الواقع الثقافي بصورة خاصة في العراق على أنه إفراز مرحلة يطغى فيها خطاب تابع للخطاب السياسي التافه لنظام متخلف وجبان، وتحت مثل هذه الظروف يستحيل أن يأخذ الخطاب الثقافي استقلاليته وحريته، وبدون حرية يستحيل الإبداع ـ إلا إذا اتفقنا مع النظام العراقي على (عظمة الانتصار الذي أحرزته القوة الجوية العراقية في حرب الخليج الثانية).

أما حول الأجيال وتقسيمها حسب العقود فأنا ضد هذا التقسيم لأنه تقسيم خاطىء وخاصة في بلدان العالم الثالث الذي فيه حركة تطور المجتمع تسير على ظهور سلحفاة، قل لي أي تطور حضاري هام حدث خلال العشر سنوات الأخيرة، إذن كيف نطالب الشعراء أن يتجاوزوا أنفسهم كل عشر سنوات؟.

ـ أصدرت حتى الآن خمس مجموعات شعرية سأتحدث معك عن ثلاثة منها ـ وهي ما اطلعت عليه ـ في "بم التعلل" ثمة غنائية يشكلها خطاب الحنين لعل عنوان المجموعة دليل لافت على ذلك، كذلك الإيقاع الذي يحكم قصائد المجموعة، هل كنت تسعى إلى تشكيل تجربتك في مناخ الخارج بما تأسس فيه من تراث الاستعادة والاستدعاء لعوالم الذاكرة؟.

* "تضاريس الداخل" محاولة لتشكيل كولاج روحي لا تنفصل عن غير يقيني لقراءات ومقولات لكنك في استذكاراتك هذه لا تكتب النسيان بل تؤرشف قصاصات ليست ذات صلة عضوية ببعضها بمعنى أن نصك بقي على الضفة الأخرى لم يخلق تضاداً مع الواقعة، لماذا هذا الغياب المتعمد "للتداخل النصي" حسب جوليا كريستيفا أعني الإشارات والإحالات لمقولات وأصحابها، فيما كان الأجدى المقولات لإيجاد نص ثالث يوحي بالاستفادة ويؤسس اقتراحه.

ـ "حديقة جورج" مجموعتك الأخيرة تنحو فيها إلى مقاربة بين ثنائيات عدة لخلق مناخ سردي في صياغتها غير مسهبة، مقاربة بين الشعبي واللغوي  الشامل، بين حياة مختلفة عن ماضيك وماض يتشكل في الكابوس، على الشاشات وفي الوجوه، أين يكمن افتراقك ـ في هذا الكتاب ـ عن كتبك الأخرى لعله في العناية بالصورة أو في التبسيط الذي لا يضحي بالعمق؟.

* أنت تعلم كم هو صعب أن يتحدث الشاعر عن شعره بل ربما أخيب ظن القارىء بي لو تحدثت عن شعري بوعي تحليلي لطريقة وظروف كتابة قصائدي، وما ذكرته في مداخلتك هذي أسئلة تعبر عن رأيك أنت في شعري وهذا من حقك طبعاً. وما أردت أن أقوله في مجمل ما كتبته يتلخص بكلمة واحدة وهي الحرية وأعني حرية المضمون، لذلك كنت أبحث دائماً عن تنوع في الأشكال يلائم حرية المعنى على أن تكون أشكالاً مرتبطة بالمعنى ارتباطاً عضوياً ومن داخل النص وظيفتها إضاءة حرية المعنى.

أعترض على فكرة التداخل النصي وأعتبرها تحايلاً على نصوص الآخرين وربما تشويهاً لها.

في نهاية مجموعتي "تضاريس" التي وردت في المجموعة تلخص حالات وقصائد كتبتها أو كنت أود كتابتها وهذه حقيقة، حيث أني أتمتع في قراءة شعر الآخرين وفي بعض الأحيان أقرأ قصيدة لشاعر تغنيني عن قصيدة كنت أنوي كتابتها.

بعد أربعة عشر عاماً خارج العراق بدأت أشعر بأن ذاكرتي لم تعد خزيناً للماضي بل بدأت تخزن خليطاً من ماض وحاضر ومستقبل متخيل، بمعنى آخر إني بدأت أكتب بذاكرة تخيلية وحتى الأماكن والأصدقاء الذين تركتهم هناك لم تبق صورهم ثابتة كما هو مألوف، بل بدأت صورهم تتغير ليس ضمن الزمن الحالي، بل وفي المكان كذلك. لا أدري هل هذه حالة طبيعية أم مرض هي أن تعيش ذاكرتك معك وليس العكس، أن ترتب لك ذاكرتك حاضرك ومستقبلك، لا أدري.

 

ـ تشهد المنافي (في أوروبا الشمالية تحديداً) إصدارات مجموعات عدة وبشكل مخيف بسبب ابتسار بعضها ورداءة البعض الآخر! مع استثناءات محدودة طبعاً! وهي في العموم تسهم في تشكيل صورة عامة تحد من اتضاح الحقيقي والجيد أحياناً. أين تصنف هذه النماذج خاصة وأنها أصبحت مطروحة بوصفها أدب منفى؟ هل تعتقد بأن لهذه الظاهرة حدوداً تتوقف عندها؟.

* لا أعتقد أن شعباً غير الشعب العراقي يحمل هذا الهوس وأعني الشعر، ربما بسبب تضخم وجدان الخسران الناتج عن تاريخ من القهر والحزن والمآسي، لذا فإنه يجد في الشعر عزاء له.

أما تحديدك للظاهرة كونها في أوروبا الشمالية فهذا ناتج عن الوضع الاقتصادي المترف نسبياً وفسحة الفراغ. لقد ساهمت دور النشر التجارية في هذه الظاهرة بشكل استفزازي، فأنت تقرأ ديواناً لشخص لا يستطيع قراءة بيت شعر قراءة سليمة، مطبوعاً بأناقة وصادراً عن دار نشر هي الأخرى لا تخجل. أوافقك الرأي بأنها ظاهرة تستدعي النقد، ولكني في نفس الوقت أرى أن من حق أي شخص أن يعبر عن نفسه بالطريقة التي يرتئيها، ولا أعتقد أن الكتابات الرديئة تحجب الأدب الرفيع فستتهافت مثل هذه الكتابات ولم يخل زمن من ظاهرة كهذه.

حوارات مع شعراء عراقيين