محمد مظلوم

الحياة والموت خارج السرب

لقمان محمود  جريدة الفينيق العدد 29 ـ 1997

 

في مجموعته الأخيرة "محمد والذين معه" استطاع الشاعر العراقي محمد مظلوم الخروج من دائرة الحزن العراقي التقليدي، غير القادر على الإلمام بالواقع، ليدخل بجماليات الحزن، هذه الجمالية التي بمثابة مائدة للجائع إلى الجمال، مما يحيلنا إلى قصيدة ذات طابع خاص، قلما نقرأ مثيلاً لها ضمن هذا الركام من التشابه والتماثل، فقد استطاع أن ينقل الشعر من هاوية الخطابية والشعاراتية والسطحية والتغميضية إلى عالم واسع ورحب على صعيد التفاصيل واللغة والإحساس، مما يجعله ينجح في تأجيج قصيدته بالخيال الذي لا ينفصل عن التقنية، وامتزاجه بالشفافية التي هي أولاً وأخيراً سمة قصيدته، فقصيدته لا تهتم برشاقة اللغة، إنما تعتمد أصلاً على طاقتها الحسية. لقد استطاع محمد مظلوم أن يشق طريقه إلى الصفوف الأولى بين شعراء الثمانينات، ولفت الأنظار إليه، إنه من التجارب التي تتحدى نفسها باستمرار من أجل الصياغة الأكثر قدرة على تجاوز ذاتها ومن أجل تحقيق ما هو خاص ومتميز وخارج السرب، وهي في نهاياتها تجربة غنية ذات اتجاهات نفسية مختلفة، إنها تأخذ من الحياة جرأتها، ومن الواقع عمقه، ومن اللغة شموليتها إنه:

سيسهر

حتى يمطر النهار في عباءة أمه ص24.

هذه الأم هي نفسها منبع السرور الأول، وحتى عندما يجف هذا المنبع، تتحول هي نفسها إلى منبع آخر للأسرار، وهكذا تتحول الأم من منبع إلى آخر، دون أن ترى أي نهر، وهنا يتحقق توازن خاص خارج الماء. ومحمد مظلوم يلتقط هذا التوازن بحساسية عالية بين ما يبدعه وما يحقق له توازنه:

لكن أمي تبحث في السوق

عن خاتم لي

لكن عيدي، بلا ايد. ص64.

إنه يصب دفقة.. دفقة إلى بحر مجهول، وما ينقذه من هذا المجهول، هو الشعور الحار، واللغة الحارة، والنظرة الطفولية إلى العالم كي لا يفقد الدهشة:

نتكرر بعد كل نوم

تتأخر أنت،

صديقي أيها الموت. ص14

رغم أنه:

هو الذي لم يمت

فعاش ميتاً. ص15

هناك حيلة جميلة، تشبه الطفولة، تتكرر بتكرار المفاجئ، أو ما يشبه مقلباً طفولياً على أبوّة اللغة:

أنا مفخخ كالهدوء

وهادئ كالفخ. ص16

فلغة هذه الحياة أصبحت وحشية، والشاعر كلما أمسكها صهرها من جديد، لتعود لغة أخرى، وعندما يخفق، يلجأ إلى وسيلة أخرى ليتجاوز الكلام بالموسيقى، وعندما يخفق أيضاً، يلجأ إلى موسيقاه الخاصة، الصادرة عن لحمين متعاونين في اللذة:

أزرعك رجفة.. رجفة

حتى تبتعد الموسيقى عن لحمها. ص77

أو يلجأ إلى مصادفة مخططة، لينقذ اللغة من موقف غامض وفق ترتيب عفوي، ليحافظ على مصداقية المصادفة، بأناقة مفتوحة على جمال مفتوح على نفسه:

كي أصادف ما وعدت به

من أن أمطارك

سقطت على رؤوس الجميع

ولم تبلل سوى شعري الساهر. ص80

إنه لا يبدو منفعلاً وعاطفياً، بل يعقلن هذا الانفعال وهذه العاطفة، رابطاً إياها إلى ظروفها الموضوعية، وهنا سر نجاح محمد مظلوم في ارتكاباته ـ غير المنصوص عليه ـ عام 1992، والمتأخر ـ العابر بين مرايا الشبهات ـ عام 1994، وفي محمد والذين معه عام 1996، ليبقى هذا الديوان الأخير ـ سؤالاً: من هم الذين مع نبي القرن العشرين؟

 

صداقة الموت..

كمزحة قلت سأكتب عن الموت في الشعر العراقي الحديث، بينما الشعراء ـ منذ البداية ـ كانوا ينصبون لي القصائد، فوقعت في فخ أحد الدواوين، ولأنني أتعلم بسهولة، استهويت هذا الفخ الجميل، ولأنني منذ البداية صديق الموت، وجدت أن القصة مواتية، لأقول شيئاً عن صديقي ـ أقصد الموت، ولكنني وجدت أن لكل شاعر صديقه، وللإشارة فقط، صديق كل شاعر يختلف عن الآخر، ربما هذا سبب جميل ومقنع. وعلى سبيل الاختلاف والاسم، لا أربط بين محمد مظلوم وخالد المعالي وآدم حاتم وعبد الحميد الصائح، سوى أنهم شعراء.

قلت سأكتب عن الموت في الشعر العراقي الحديث، والموت بالنسبة إلى هؤلاء الشعراء هو الشوق إلى معرفة المجهول، فالشاعر بحاجة إلى علاقة متوازنة مع الموت ليكتشف المأساوي في وجوده، ففي تجربة كل شاعر إحساس حاد بهذه المواجهة لصالح القصيدة، والشعر لهذا السبب، شوق مذبوح إلى الدم عبر طريق من الألم، وواضح أن شعرهم حياة حقيقية في حضرة الموت. فالموت ليس مخيفاً عند الشعراء العراقيين، لأنهم بالحقيقة ولدوا من وراء الموت. ووراء الموت يوجد دائماً عالم جديد يمارس فيه الشاعر تجربته بكامل إبداعه. وربما لأن الموت كما يقولون مهمة روحية لدى أولئك الذين يتألمون من الضياع. فبدون الموت لا يستطيع الشاعر العراقي مواصلة القصيدة، لوجود ارتعاش خاص بين الشاعر والقصيدة، نشأت من خلال موت حلمي، فالقصيدة التي تنام يحلم الشاعر بدلاً عنها، والشاعر الذي ينام تحلم القصيدة بدلاً عنه. العلاقة بين الشاعر والقصيدة، كالعلاقة بين النوم والحلم. أما الموت فهو السيرة الباطلة للغة. فالشاعر العراقي لم يأت بلغة خارج المألوف، بل بلغة من رحم لغة أخرى، لغة جديدة، تتجدد ولاداتها إلى لا نهاية، ولكل لغة تنبع من نبع خاص ـ ألم خاص، إبداع خاص ـ لا من نهر خاص، فالنهر مصبه البحر، والنبع مصبه المجهول، هذا ما أردت أن أ قوله عن الموت، هذا المجهول الذي يحاذي قصائد (شعرائهم)، شعراؤهم نخلات حقيقية أينما ذهبت في زحمة الأشجار المتشابهة. أينما ذهبت في زحمة الأشجار .. كل شاعر عراقي نخلة، وكل قصيدة خيمة، وليس على الشاعر سوى أن يؤسس موته، كي يتواصل مع الأموات كي يقبلوه، ربما شجرة صغيرة لا تصل إلى قامة أقصر نخلة، تصر بوسائلها الخاصة وغير الخاصة على اقتلاع هذه النخلة، وهذا ما يحصل أحياناً، ولكن النخلة الحقيقية تبتكر أسلوبها الخاص للتواصل مع جميع الكائنات النباتية، لا لكي تبقى ثابتة، بل لكي تعطي شيئاً مما ألفته إلى هذه النباتات. والألفة هو الأساس في بناء العلاقة. لكن الموت كي نتواصل معه إذا كان الأساس في بناء القصيدة وخاصة في مجمل قصائد العراقيين، نجد هذا التواصل في الموت الوهمي، الموت الذي يشيع القبح، ليبقي على الجمال. ومن خلال قراءتي للمجموعات الشعرية وجدت أن هذا الموت ليس سائحاً في القصيدة، بل القصيدة سائحة جميلة في موت الشاعر على الورقة، كي يرينا الحياة الحقيقية، لأن الموت حياة جديدة، والقصيدة التي تموت، تكون قد ولدت ميتة، لكن القصيدة التي تعيش موت الشاعر تبقى حية. فالفرق بين الموت في القصيدة وموت القصيدة، كالفرق بين الحب وممارسة الحب. الموت لا يريد الحياة، لأنه بالأساس حياة في قالب الحياة الحقيقية. والجدير بالذكر أن الشاعر العراقي يعرف من قصيدته، وهذه علامة بارزة، كما تعرف النخلة من بقية الأشجار.

قلت سأكتب عن الموت في الشعر العراقي الحديث، لكن الشاعر العراقي ما زال يترجم القلق إلى لغة ويترجم الموت إلى لغة، ويترجم اللغة إلى لغة جديدة، كل ذلك يقف في تفسير يحدد ماهية الموت في القصائد العراقية، والنقاد والدارسون ربما خوفاً من التقصير أو عدم الإمساك بالقصيدة كاملة لا يقفون عند هذه التجربة.

وأنا قارئ جيد فقط أستطيع الإمساك بالقصيدة كاملة، لأنني عشت هذا الموت. فمن يقرأ محمد مظلوم وخالد المعالي وآدم حاتم وعبد الحميد الصائح، سيقرأ الموت الإيجابي، الموت الذي يغسل القصيدة من موتها، ربما هذا هو السبب في طول عمر القصائد العراقية، لأن الموت عند الشاعر العراقي ليس نقيضاً للحياة، بل الحياة مقلوبة ـ غير مغشوشة.

غير منصوص عليه، و(عابراً بين مرايا الشبهات)، و(محمد والذين معه)، عناوين أساسية كارتكابات (المتأخر) من خلال عناوين هذه المجموعات الثلاث نجد الشاعر بشكل ما يقول الموت، أي يقصده ولا يعنيه، سأريح موتي الأشقر، منذ إتمام أخطائي على جسد الأبد. ص21. وكذلك، نموت، أقول، نموت ونحيا، أقول نموت، هنا الفرق بين التوقع والاستجابة للمعطيات، أقول نموت لأن قوة الموت حاجز يمنعنا عنه. ص59.

أحتاج أكثر مما لدى الذكريات لأمدح موتي. ص89. وأنت تربين منذ ثماني سنين على مقعد الدرس موتي. ص89.

لي شرفة سأردد منها النشيد، ولكن من يشغلون الفضاء، لهم ما يحرف موتي. ص93. رجم بها البحر عندما تذكر أنه ميت/ وعاد إلى صحرائه بلا ذكريات. ص23.

كل هذا الموت من مجموعته (غير منصوص عليه) تُرى هل أصاب محمد مظلوم الموت بصداقة حقيقية. أم أنه قد روّض الموت من خلال تجربته الحية مع الموت؟ أو كيف مات محمد مظلوم القديم، وبعث حياً كاليعازر؟ هل محمد مظلوم أراد الصلب طوعاً، ليبعث جديداً لخيرة الشعر؟ كل هذه التساؤلات صائبة، لأن الشاعر محمد مظلوم، بالفعل استطاع تخطي كل هذه التساؤلات. ولكن من يرجع؟ أظن لا يرجع أحداً، فمحمد مظلوم عاد من جديد ليكمل مشروعه في الموت وخاصة في (عابراً بين مرايا الشبهات)، ملغوماً بربيع أخطائي/ أستمر/ ضد أسلحة تبكي/ ضد تعاليم موتي. ص21. موتي تحت إبطي، ويدي توزع الزهور وتعزي حياتي. ص29. موتي أسميه الفصل. ص99، وهو عنوان قصيدة، وهذا ما أود التوصل إليه، لأن تساؤلاتي وجدت أجوبتها، فمحمد مظلوم الذي يقول: "موتي أسميه الفصول"، هو بالطبع مر بجميع الفصول، أقصد بجميع مراحل الموت، ولكن الدليل يبرهن أنه دائماً يعيش فصلاً واحداً، وهو الربيع، وهذا ما قاله وأكده في مجموعته الأخيرة: "محمد والذين معه" قلت إن كل هذه التساؤلات صائبة، وهو رويداً يؤكد ذلك:

صديقي أيها الموت/ لم تصلني رسائلك/ مع انني أرسلها دائماً!. ص14. نتكرر بعد كل نوم/ وتتأخر أنت/ صديقي أيها الموت. ص14. هذا الذي لم يمت/ فعاش ميتاً!. ص15.

أظن أن الإشارة أفضل من البرهان، والدليل أفضل من المدلول، والأسئلة أفضل من الأجوبة المعروفة. ومحمد مظلوم أفضل من لقب شاعر، والمجموعات الثلاث تجربة شعرية كافية لوضعه في الصفوف الأولى بين الشعراء الكبار.

ــ

محمد مظلوم يجهد

ويشد إلى الأبعد

 جورج بولس غنيمة : جريدة "النهار"

بين مرسل الكلام، بكثافة أفقية، ومقتضبه، بإيجاز دائري، يجهد الشاعر العراقي محمد مظلوم ليؤثث لحضوره الشعري بباكورة هي نتاجه الأول بعنوان يحمل حالات الاشتباه، الارتياب، والاتهام: فالمشتبه فيه والمرتاب ثم المرتاب منه والمتهم، في صيغ الرمز والمجاز، وهو الشاعر نفسه صانع الكلام ومخرجه وله مادة للقول بتجربته ومعاناته كما بتفاعلاته وانفعالاته: هو مشتبه فيه، من الوجود والعدم، بفعل انوجاده حقيقة وحقوقاً إنسانية. هو المرتاب والمرتاب منه، من الحياة والأحياء، لأنه يحيا بمشيئته ورؤيته ونمطيته. وهو المتهم، من الأزمنة والأمكنة، لأن له فيها تفسيراً يقترب من تحليقة يرومها الطير ومن سفر لا متناه دونه موت الغمام:

"أحلامي تتكلم

فتسترد سوادها

على سريري الذي لم أنم فيه

أعتقد الحياة، وأسكت".

لكن اعتقاد الحياة، عند محمد مظلوم، لا يدفعه إلى كم صوته أو إلى صمت تلقائي لأن غزارة القول المشحون بالاستفاضة والاستطراد تشهد على جموح في كلام الشاعر. وكأني بالشاعر يود أن يبرئ ساحته بالشعر دون سواه من وسائط القول، ويريد أن يغسل روحه من كل إثم واقتراف نسبا إليه، فهل غير الإملاء والتراسل والتلاوة، بشاعر وشاعرية، كرسي لاعتراف ومذبح لتأمل ورتبة لنيل الصفح والمغفرة ولون الثلج؟.

"خارج حياتي، أحلم بالبريد الذي يروض الوحشة والمنحدرات التي تقدم الاعتذار للغيوم، خارج حياتي أتكلم عن مزيد من المطر المصاب بالتمدن، عن مزيد من الربيع الذي قوّس الفضة وخلفه سلاسل الرماد تقتاد أحد المحاربين إلى الاعتراف".

ويظل الالتباس، حول اقترافات وارتكابات من الشاعر، مناخاً قائماً وقائماً بغموض ترميزي مفتعل وبتشرذم نصي متعمد من مستهل فصل "في ارتكاب الندم" ـ أول فصول  المجموعة حتى مطلع ثاني فصولها "في ارتكاب الحياة" حيثما الراهن المبثوث، مشاهد وأخباراً، يتاخم المنصرم المسرود مقاطع مقاطع والمرذول لما انطوى عليه من أهوال وعذابات ومكابدات:

"الموت خبز أكله لأكتب الحياة، الحياة أفضحها في الانفاق أو البنايات المعزولة، الموت حافلة أصعدها لأصادف النسيان يحاور النساء في ندم اسمه الحياة..".

لكن رويداً رويداً ينكفئ غبار اللبس، عن متن المعاناة، لتتمظهر خلف لغة الفصل الثاني سببية الشبهات والاتهامات والممارسات المنكرة على الشاعر. سببية تستند، في شروط كينونتها الفلسفية، إلى موقف فكري عبثي وعدمي رأسه أن ارتكاب العيش تحديداً ليس غير موت يومي يتأبطنا لنمسي شهوداً على ذات إنسانية تتموقع فينا بصيغة الغائب عن حياته الذي يتحين فرصة العودة إليها ليستعيد حضوره فيها:

"هذه ليست حياة

وكان أن مزق صورة العائد من أعياد لم تسفر

عن حياته في الخيمة الصفراء

نفكك أحلامنا بحثاً عن نوم تام

عن نهار نعيشه تماماً

عن هواء مختلف

يحق لنا أن ندون عليه أسماءنا

نحن الهاربين خارج الربيع

حضورنا محايد وننتظر العهد المغلوب".

ولعل الفصل الثالث في باكورة محمد مظلوم ـ فصل "تأجيل الشمس" ـ مثابة ستارة ترفع ولثام يماط عن مشهد العهد المغلوب المنتظر، إذ أن الشاعر هنا يحث لغته على التبشير دون الخطاب وعلى التلميح دون التصريح كما على التلغيز دون الإخبار والإبلاغ. فالشمس التي ستولد في صانع الكلام هي العهد الغالب لربيع كاسد في ماض عابر وفي حاضر منسي بظلاله وأفيائه وأشيائه:

"أذكر كنت بصحراء نومي، أحاول إغواء سيدة النرجس الساحلي وأعني بها شمس مكة، لما تكلم من جانب الطور رأس النبية، أذكر أني تركت التي هي في ساحلي، وسعيت لها، وأعني النبية، حتى إذا أوشكت محنتي أن تفرج، نوديت من حيث كنت".

إذن: ما يصبو إليه محمد مظلوم، في الثالث والآخر من فصول كتابه الشعري الأول، أضوأ من فوانيس الحكائين كما في باب "في انتظار الغائب"، وأشجى من وتريات بحرية قالها في باب "العودة إلى الحاضر". وهكذا نحن، في الباب الأخير من باكورته، أمام شاعر يحفز شاعريته على تأويل ما لم يستطع عليه تصريحاً، على استنباط الحرية من قواميس الورد، على استدعاء الشمس من شرانق البصيص، وعلى تشييد الذات على خرائب الذات.

وإذا الشاعر شهد، في الفصلين: الأول والثاني، بعين المتفرج القاصر على خراب روحي وجسدي أنزل به، فهو هنا عيل صبراً من عجزه وقصوره. لذا ندركه يصحو من غيبوبة الغياب عن ذاته وعن الآخر ويحاول أن يلغي الحياد والتباعد لينحاز إلى آماله وأشواقه:

"المجد لي حين أجتاز جسداً وتصغي المدينة

المجد لي حين أهجو الربيع على سور وردك

المجد لي حين أحتاج غيري لموتي وموتك

المجد لي حين أخرج من بيتنا

وأصدق أني الذي نام في ساعة متأخرة

وتحسس ترتيب أيامه في السرير".

ويسترسل محمد مظلوم في الإبانة، عن قهر فردي وجماعي وتوقعات خلاصية، بكلام يتنقل فيه بين ضمير الغيبة وضمير الخطاب رامياً إلى تنوع في اللهجة ضمن وحدة القول في النص، وهادفاً إلى لعبة التفات وحركة التفاف على المنقضي والقائم والمحدس. وليكون له ذلك، يحشد الشاعر شتى وسائط التقرير والترميز والتمهشد ويستنفذ كل أبعادها ودلالاتها بالمتداول والبرعاجي والاصطلاحي من الألفاظ والمفردات فتستوقفنا صيغ تعبيرية وضعية قاربت الفلسفي إلى النفساني فالسياسي، من مثل: "النفي واللا ثبات"، "قوة الموت"، "الاستجابة للمعطيات"، "الفعاليات الإنسانية". إلى ذلك، يصر مظلوم على تقديم نفسه من أهل الجدل وعلم المنطق عندما يركن إلى التعليل، والتفسير، التفصيل، والتبرير. فيبسط علاقات فيلولوجية بين اللفظة واللفظة كما بين المفردة والمفردة. ويشذ إلى أبعد وقت يتشاعر بلهجة فقيه وقواعدي وألسني: "أجل انها ـ والضمير غير عائد إلى الأجساد". أما مجمل الصورة الجمالية، التي احتضنت تجربة محمد مظلوم، فحفلت بموزاييك من التأثيرات الشعرية المنعكسة على شكل مختزنات في اللا وعي والمتمثلة بحشد من أنساق وأنماط تركيبية باتت مستهلكة: ومثالاً، لا حصراً، "الشمس العرجاء" و"وقت بين الرماد والورد" لأدونيس، وغير صيغة مقتبسة من الرمادي لمحمود درويش، إلى المشهدية المأساوية الساخرة من "الفرح ليس مهنتي" لمحمد الماغوط.

ان محمد مظلوم، في نتاجه الشعري البكر، يجمع في نصه المحظور فنياً على الشاعر إلى المسموح للراوي والقاص، لذا كتابه طواف بالسيرة والخبر مثلما بالصورة واللقطة. ودونه إلى لحظة الدهشة والإعجاز نص يعجز أن يوصل ولا يصل، فكيف الشعر إذن؟.

 

"محمد والذين معه" للعراقي محمد مظلوم

هيمنة الموت وأسئلة الوجود

 اسكندر حبش "السفير" السبت 14/9/1996

الكتاب: محمد والذين معه

المؤلف: محمد مظلوم

الناشر: سلسلة إصدارات كراس .

شاعر هو محمد مظلوم. شاعر بما لهذه الكلمة من معنى بعد أن أصبح الكلام، في زمن الكلام، لا حيلة له وسط هذا الركام الذي يغلفنا.

منذ كتابه الأول "غير منصوص عليه"، ومروراً بالثاني "المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات"، والشاعر يحاول قولاً مختلفاً لا ينقصه العصب ولا الخيال ولا اتساع العبارة. وما الكتاب الثالث الصادر حديثاً "محمد والذين معه" سوى تأكيد إضافي لهذا القول المتمايز، الذي جعل منه ـ بحسب رأيي ـ أحد أبرز الأصوات العراقية الجديدة، التي تكتب خارج العراق. عديدون هم العراقيون الذين يكتبون الشعر، لكن قصائد غالبية تلك الأصوات، تمضي قبل أن تؤكد حضوراً. والقلة القليلة، تعمل على قصيدتها بدربة وحرفة. وهذان أمران، لا ينقصان مظلوم، الذي يؤكد حضوره، والذي يؤكد صوته الشاب، تعبيراً عن هذه المرحلة التي قطعها بعد الخروج من وطنه.

استعادة المكان

صحيح أن ثمة هماً مشتركاً، نجده عند أغلب الشعراء العراقيين المنفيين، وهو هم استعادة المكان الأول، والبحث عنه في تفاصيل الذاكرة المنهارة والمصطدمة بجدران التعب والقلق والأرق والحزن.

لكن ما يميز مظلوم في قصائده، أن همه باستعادة هذا المكان، يندرج ضمن سؤال الحضارة بشكل عام. أقصد، أن غالبية الشعراء العراقيين، كانوا يبحثون عن مكان فقط، من دون البحث عن خلفيته، ومن دون البحث عن مستوياته وطبقاته الماضية. في حين أن مظلوم، يعود في سؤال، إلى أعمق طبقات التاريخ، مثلما نجد في قصيدته الأولى، التي تشكل افتتاحية الكتاب "موت كلكامش".

"موت كلكامش" قصيدة عن أصدقاء مدينة رحلوا، ابتلعتهم الحرب، والشاعر، لا يتوقف فيها عن استرجاع ذاكرتهم وذكراهم، بل ينحو إلى أمر آخر، انه يحفر الطبقات، للبحث عنهم، بمعنى آخر، انه لا يجدهم سوى امتداد لملحمة كلكامش، ملحمة الشهيد البابلي الأول، في صراعه مع الحياة. من هنا، نستطيع أن نقرأ شعر محمد مظلوم، عن "الحروب العراقية"، وكأنها شكل آخر لهيمنة الموت.

ومثلما لم يجد كلكامش مستحيله، سوى في الموت، لا يجد مظلوم، صداقاته المستحيلة، إلا في الموت، أو في نبش سيرة هذا الموت.

عديدون هم الشعراء الذين بحثوا في لحظات التاريخ، عن نقطة تماس مع قصائدهم. وعديدون هم الشعراء الذين بحثوا في الأسطورة، عن نقاط تماس أخرى. لكنني لا أقصد أبداً أن مظلوم، ينتمي إلى هذه الفئة أو تلك. سؤالا التاريخ والأسطورة عنده، يختلفان بشكل جذري، سؤاله، ليس سوى الحاضر، تفتيته، وإعادة جمعه من جديد. وفي هذا السؤال، تتبدى رحلة الحمر، ورحلة الوجود برمته.

وبين تلك الأسئلة، يقيم الشعر علاقته باللحظة الراهنة، أي أن الشعر، ينحو إلى كتابة تفاصيل الكائن في هذا العالم المنهار، يكتب تعبه وقلقه ورحلاته الوهمية إلى داخله. أقول وهمية، لأن الرحلة في نهاية الأمر، لن تصل إلى نتيجة معينة، لن تصل إلى استكشاف كنه هذا الكائن، بل ستزيده حيرة وتزيده أسئلة وبحثاً، عن طبقات أخرى.

لا ينسحب كلامي هنا على قول، أن شعر محمد مظلوم هو شعر التفاصيل اليومية والعاديات، بل انه شعر ينحو إلى أسئلة الوجود الكبرى، كالحياة والموت والكائن الإنساني. هل هو بهذا المعنى، شعر قضايا؟. لا قضية عنده، سوى عدم قدرة الكائن على مجابهة الموت. أي انه سؤال الحياة نفسها، تلك الحياة، التي نكتشف دوماً أنها تغادرنا أو ستغادرنا، لأنها سبق أن غادرت جميع الذين كانوا قربنا.

تأمل

في جزء كبير منه، يبدو شعر مظلوم، شعراً تأملياً، لكنه لا يقع في الحكمة والأمثال. وهذا أمر إضافي، يقوي حضور القصيدة. التأمل هنا، هو شكل آخر للسؤال، فالسؤال لا يكون حاضراً بقوة، إلا إذا عرف كيف يلتقط شارات من وراء الحجب الكثيفة التي تغلفنا.

شعر محمد مظلوم، شعر رحلة عميقة إلى غياهب النفس، وفي هذه الرحلة مشاهدات وحكايات وخبريات، تندرج في إطار واحد، يجعلها بحثاً عن معنى لكل هذا الموت، أو لكل هذه الحياة الغائبة. فبين هذه الرحلة، وبين هذا التأمل، ينجح الشاعر في التقاط مفرداته ولغته، تلك اللغة الهادئة، لكنها حادة داخلياً. فلا فانتازيا ولا تراكيب غرائبية، بل تبدو الكلمات متراصة جنباً إلى جنب، وكل واحدة منها تستدعي الأخرى. أي أن العملية الشعرية تفرض أسباب وجودها وحضورها بعيداً عن أي افتعال، وبعيداً عن أي عملية قسرية، لتنساب بهدوء مثلما ينساب الغيم الذي يحملنا.

"محمد والذين معه" كتاب أصدقاء رحلوا، وربما كتاب أشخاص سيأتون إليه. وبقدر ما تحمل اللغة هذا الحب إليهم، نقرأ القصائد بمحبة، ربما لأن حربه حربنا، وتعبه تعبنا، وموته موتنا. ربما كانت كل تلك الأمور، الذاكرة المشتركة التي ستؤسس عليها، مستقبلاً، ذاكرتنا الخاصة، وقد يكون الأمر صعباً جداً، حين لا نرى في الأفق سوى هذا الانهيار، وهذا الموت، الذي لن يتركنا.

اسكندر حبش

ــ

"المتأخر.." لمحمد مظلوم

يبحث الشاعر عن رؤياه في مرايا عدة

الكتاب: "المتأخر.. عابراً بين مرايا الشبهات" (شعر)

الكاتب: محمد مظلوم

الناشر: دار الكنوز الأدبية ـ بيروت ـ 1994

راجعه: كمال سبتي

"عيوننا معلقة بحقائب النازلين من تلال غزاها الصيف، في كل الأسماء، نبحث عن ماض سيأتي وحاضر مؤجل، نبحث في الجمرة عن وهم الطائر، نبحث في الجرة عن كلب ينبح، في البستان، عن منديل امرأة قطفت وردة، نبحث، كي نصدق أننا ضيعنا الاسم.

وكنا به مجهولين!

هل سنحلم؟

هل ثمة تل نفرق من فوقه ما وراء وما أمام؟

ونطلق منه السهام على لحظات شاسعة تخبىء في خرجها أسماء الفتيان من ذرية الصحراء؟.

هل سنحلم أن نصطاد فصلاً خامساً في جهة سابعة؟!".

ربما يبحث محمد مظلوم (الشاعر العراقي الشاب المقيم في دمشق) في مجموعته الشعرية الجديدة هذه، عن شعره، أكثر مما عن شيء آخر، فمظلوم، الذي فاجأنا بمجموعته الأولى "ارتكابات" والتي صدرت عن الدار نفسها ـ دار الكنوز الأدبية ـ بيروت، قبل عامين، لم يعد يرتضي التجريب لغة وأفقاً لشعره، انه يصل بين الحين والآخر إلى صوته الخاص، من خلال ما يحمله من بذرة التجاوز لشعر قيل قبله. انه الآن يبحث عن شعره نفسه، تاركاً أوهام الغرابة العتيقة إلى غير رجعة، فتراه هنا، حاضراً في نصوص الأقدمين: الأساطير العراقية القديمة، الشعر العربي بتراثه كله والآثات القرآنية، وبحضوره هذا، تحضر هذه النصوص كمرايا لشعره، تكمله، وتعطيه فسحة تأمل شاسعة.

المفردة، في مجموعته الشعرية الجديدة، هي علاقة متضادة كاملة في وحدتها وعزلتها عن غيرها، وهي هنا تجربة، لسنا في صدد التدليل على نجاح الشاعر في قيادتها إلى أقصاها، في هذا المقال، إنما نحاول هنا التدليل على ما يبحث عنه الشاعر، تاركاً كل شيء، وفي الوقت نفسه، بادئاً من كل شيء:

"فكرتي ترطن في فجر تهجاني وحيداً،

يستطيع الرف إرجاء يدي،

لكنني، لست يدي،

لست المقيمين على الرف،

فأجل جملة،

يعجز عن تفسيرها الفجر الإشاري، ويلقيها أمامي".

يعود الشاعر، إذن، إلى التفعيلة، وهو الذي يعز عليه هجرها إلى الأبد، والعودة هذه، تستمد شرعيتها من محاولة تغيير العلاقات البنائية التي تحتمها التفعيلة، فنرى أنفسنا أمام الوزن الشعري المألوف، بسبب معرفتنا المسبقة به، أما علاقاته فهي غير علاقاته المألوفة، وهذا نجاح يحسب للشاعر، ويدل على إمكانية غير عادية في البحث عن ما هو غامض وغير مكتشف في الوزن نفسه. في عبارة أخرى، يلح الشاعر على فكرة هي غير جديدة ـ حتماً، ونعني بها: الاستفادة من الوزن الشعري مع دراية مسبقة بأن لا يظهر الوزن فوق العملية الشعرية نفسها، يأخذ كل شيء من الشعر، فننتبه إليه، تاركين ما ينبغي الانتباه إليه، والذي يعني الشاعر والشعر قبل أي شيء آخر.

والاستفادة هذه، قد تقود إلى أن يأتي الشعر الخالي من الوزن، مستفيداً من ذكرى قديمة للوزن نفسه، وسنكون هنا أمام بحث شعري، هو الآخر، سيشكل علامة أساسية في هذه المجموعة:

"أضمد أعيادي بكلمات شاقة،

كمن يحيط أيامه، بصرخة ولا أحد".

أو:

"كما في المرة القادمة" و"شعائر" تجلس في إحدى زوايا الدار، وأقدام محناة تضرب سجادة الأرض، بينما تندب الحرية بشعر مسفوح على بطون وظهور، مغسولة بدخان وأبخرة.. الخ". ان محمد مظلوم في "المتأخر.. عابراً بين مرايا الشبهات"، وهو يبحث الآن في كل شيء عن الشعر، أو عن شعره نفسه، سيسجل لنفسه، هذه المرة، فضيلة الجهد الفردي، في الاستفادة من الموروث الشخصي، وهو هنا كل موروث عرفه الشاعر، من أجل كتابة نص قد يشير أحياناً إلى بنى متوارثة ومعروفة، غير أن النظر إليها على أنها وحدة صغيرة من وحدات البناء العام للشعر عند مظلوم سيجعلنا نشعر بمتعة هذا البحث، أو استلال النص المتوارث وجعله مادة أساسية في نص معاصر، وستكون لنص قديم دلالة البحث عن قيمة شعرية فيه، يحتمها ـ أو يبحث عنها ـ النص المكتوب تواً. إذن، لم تصلنا هذه النصوص عبر الشاعر محمد مظلوم، عبثاً، إنها جزء من بحثه عن شعره. نقرأ في مقدمة قصيدة "شبهات الملتبس بظلاله، رسائل السامري" نصاً من ملحمة جلجامش، العراقية القديمة:

"يا انكيدو بما أن الأجر وختم الأجر قد أحلا النهاية فإنني اعتزمت أن أدخل إلى أرض الحياة وأسجل اسمي، في المواضع التي لم تسجل فيها أسماء سأضع اسمي"..

ثم ندخل إلى قصيدة مظلوم.. فنقرأ:

"ولما انقضت جهة كان عصر،

وكان زوال

وكنت أقود معي آخر الساحليات

منحدرين إلى شفق قرفصت فوقه السنوات،

ومتجهين إلى فرس، تتشمم بين المدافن

ذكرى شخوص لنا، موشكين على الانبعاث".

هذا ما حاولنا تأكيده، انه بحث واضح جلي، حيث يبحث الشاعر عن شعره، عن رؤيته للشعر في مرايا كثيرة، وهذا البحث هنا، طاقة غير اعتيادية، يدلنا عليها الموروث الشعري الشخصي للشاعر.

ــ



تدوين الوقت قراءة في مجموعة "غير منصوص عليه" الشعرية

  عبد الحميد الصائح  مجلة ألف 1993

 

ما صلة المكتوب ـ بالمحذوف؟

ليس أكثر من:

وتنزل من القوة و(والقدر) ولا خلل.

يؤكد التوافق نوايا اقتحام عالم الكتابة الشعرية الجديد عدد غير قليل من الشعراء العرب الجدد وفي مناطق متفرقة ومتباعدة، يؤكد على أن الخروج بالشعري إلى المغايرة ضرورة قائمة على نية جماعية عامة، يؤسس ويدمغ لها المنعطف الذي حدث ـ والذي ينبغي حدوثه ـ في البنية المتوارثة ـ النمطي منها ـ لحركة الفكر والإنتاج الأدبي والفني العربية. وهو توافق ملح صورته: أن شاعراً في غرفة بدمشق مثلاً يؤسس نصاً متزامناً مع شاعر في مقهى تونسي تحت هاجس الإحساس بالمنعطف الشعري العربي دون وجود تواصل مباشر. إنها قضية إذن، ليست مشروعاً ضيق المساحة، ذلك المؤكد الصريح الذي أود تأشيره مدخلاً لهذا الموضوع، يغني عن الخوض فيه تدفق العديد من التجارب الاستثنائية المتمثلة في هذا الاتجاه بالجهود الجديدة الجادة في الشعرية العربية، اتخذ هنا مجموعة شعرية لشاعر بارز من شعراء الثمانينات أكاد أكون ألممت تماماً بحيثيات تجربته الشخصية في القصيدة ودافعها ونواياها ـ على الرغم من أنى لا أرى ذلك ذا علاقة أساسية بطبيعة قراءتنا التالية ـ لأشير إلى نموذج خاص يتعلق بالمبدأ العام الذي افتتحت ما سيجيء به.

تبحث مجموعة محمد مظلوم وترى في ذات منطقة الإشكال الشعري والامتياز الشخصي في دخول عالم الكتابة الشعرية الراهن بمعنى: تلج مختبر الشعرية الحديث لإنتاج شعري مغاير أو ما اصطلح عليه "شكل الكتابة الخاص" وهذا بالضرورة يبدو ـ خارج الأطر التقليدية ـ شكلاً هيولياً، عناصره الأساسية: الاحكام الداخلي لإيقاع المشهد وحذاقة إدارته، فالمشهد الشعري المحكم القائم على الانتباه اللغوي والحسي ينقذ النص من التذبذب والانفلات والتقريرية التي أداها المعرفي.

هنا إذن خروج النثر من المعرفي إلى الرؤيا، أي: التماس التام مع الشعر ودخول دائرته، وبذلك يكتسب النشر قدرة الشعر وامتيازه سعياً عفوياً معياره جوهر الشعرية لا شكل تدوينها.

فحين نظر القديم إلى الشعر كان البناء الخارجي مبنى له قبل أن يكون مبنى لقصيدته. وحصانه وقوته في السباق فيما فضل الشاعر الجديد المغامرة داخل اللغة وكأنه استغنى عن الحصان مفضلاً الجري على قدميه في الشوط، ولذا فإن المسافة التي يقطعها مهما اتسمت بالقصر والبطء فهي مسافته الشخصية التامة بعيداً عن امتياز الحصان في قطع المسافة. ذلك بالضبط ما يشبه حجم الطاقة النفسية يتجرأ الشاعر في ضوئها لدخول معترك التجاوزات الشعرية التي حدثت في عالمنا العربي.

إلى أي مدى تمكن محمد مظلوم من قطع مسافة في هذا الشوط المثير، محمد مظلوم واحد من نتاجات المخاض الشائك المثير الذي أحدثته الخلخلة العجيبة في شعرنا العربي ودوافعها ذات الأبعاد المختلفة (؟) بعد نشوءات وتأسيسات متنوعة في شعرنا العربي، أحيطت بتحفظات شتى من وجهة الرسوخ الجمعي للأدب والأداء اللغوي العام، حيث تشكلت خرائط غائمة الملامح لهذا الكائن الشعري الذي خرج من الجهد الشعري العربي عبر آثار اتسمت بالجرأة واليقين المغاير بإزاء منعطفات العصر العربي وإنسانه لأي نخبة من التجارب الريادية في العديد من البلاد العربية إلى جانب تجارب عربية في بلدان غير عربية متفرقة أخرى. جهود اتهمت بكونها دخولاً على بنية الشعرية العربية لا خروجاً وتبلوراً منها. وبدا دخول قافلة الشعراء العرب الجدد إلى هذا المنعطف دخولاً حذراً يشبه الخروج على العائلة! لقد دخل محمد مظلوم ضمن ذلك بإصداره ـ غير المنصوص عليه ـ ارتكابات ـ دخولاً معلناً لا مفر بعده من اعتراف مغاير، ذلك أن غير المنصوص عليه عبر ما تشير قصائده ثبات مؤكد في هذه الدائرة التي أشرنا إليها وفاتحة لحوارات مكثفة وتراسيخ شتى قبل أن يكون اعلاناً أولياً عن تجربة ستواصل إنجازها اللاحق في ضوء ذلك. دخل محمد المنعطف الشعري ضمن موجة صاخبة بالشعر تواجه السائد بمصيره عبر رؤيا وإنتاج يداهم المفروض بالمحتمل الاختياري، دخلوا صحيح الشعر وخرجوا بصحيحهم. ذلك بعض امتياز تيار الشعراء الذين اصطلح عليهم ـ بالثمانينيين ـ بعد مرحلة مهمة من تحول بعض الشعراء الذين سبقوهم قليلاً إلى المناخ الذي كتبوا فيه، حيث أنتجت علامات مهمة في حركة الشعر المغاير الآخذة بالتسيد والمواصلة.

في ـ غير المنصوص عليه، ارتكابات ـ تتشكل فكرة المحذوف لدى محمد تشكلاً خاصاً يشبه فكرة اللا حدث بوصفه حدثاً في مسرح العبث مثلاً. فالمحذوف عنوان صريح وجارح لكل ما هو ضروري مؤجل، مختف مطارد، مؤثر مهمل، لا يتجسد، يحيا إلا عبر اللغة، حيث تأتي اللغة هنا منطقة حيوية آمنة لتبني واحتواء الخاص، المغاير، الحسي، الشخصي، اليومي، الأفعال المهملة، كما يراها ستانسلافسكي في الأداء التمثيلي بمعنى: أن فكرة نهوضك من النوم إلى العمل تضمنت أفعالاً ضرورية غير معلن عنها بدءاً من مغادرة الفراش مروراً بارتدائك ملابسك (وما يصاحب ذلك من استعداد شخصي) وغيرها من الأفعال التلقائية التي تؤدي مجتمعة إلى خروجك إلى العمل. بمعنى آخر: ان هناك أفعالاً أساسية لا يخصها الحدث المعلن رغم أنها تمثل بنيته. وذلك انعكاس لفهمين: الأول: ان العام ـ حدثاً أو تاريخاً ـ معني بالكلي الجمعي الفوقي الذي يمثل قيماً بعد سلطة مقوضاً الخاص اليومي الشخصي الذي يمثل المستلب المفهوم الثاني يتجسد في تطبيق ذلك على الذات والنفس البشرية وغربة الفرد بإزاء مؤثرات وثوابت ساهم في صنعها مرغماً.

ولذلك حين ينحرف الشاعر باتجاه هذا الخاص المغترب المهمل يعلن مواجهة قاسية تتمثل في دفع اليومي الشخصي إلى منطقة الحدث والتاريخ الكلي للأشياء.

ذلك ما حاولت نصوص محمد مظلوم بلورته عبر زوايا متعددة ومعالجات متنوعة سنأتي على تنوعها لجعل الشخصي والمحتمل والغرائبي الأليف برمته متناً للنص. "سيرة الغائب في حياته" وتحديداً الحقول (2) ص4 ص10(7) ص88، (8) ص11، (88) ص12، (13 ص13، و "المحذوف قبل أن يتكرر" ص13 ومنه:

"وبعد ثماني سنين قضاها في المصح،

عاد السامري،

ليوقظ أحلامه التي تنام في الباص.

 

خاتمي ذو الفص الأملح.

ساعتي اليدوية المستطيلة،

منديلي الأبيض،

نظارتي الشمسية

محفظتي الجلدية السوداء

أضعها جميعها على الطاولة

وأخرج للناس، أعزل من حياتي.

ذلك ما يندرج في حدود اليومي المعلن (المفضوح)، بينما تتعدد أبعاده لتتصل وثيقاً بتحولات النفس البشرية بتوقعها إلى (الخاص)، بتركيبها تركيباً مغايراً لطبيعتها، ليبدو المحذوف هو المحتمل المعنى، ما لا يحدث، الذي يتشكل عبر الأداء اللغوي في النص، ليس اليومي المشخص (المفضوح) كما أشرنا. تلك معالجة شعرية مغايرة تتدخل اللغة لتدوين الحسي من خلالها، بعبارة أدق ان اللاحق من النص، الذي سأتخذه، يمثل الوجه الآخر من فكرة المحذوف الوجه الذي تعنيه اللغة، والتي يمثل المندرج السابق وجهاً آخر له:

(فخ بعيد، بعيد عن المناديل الملونة اسميه السكوت في اعتراف يخصني تماماً. فخ يكفي لإلهاء أعمى يدخل متحف أحلام نائمة، أو جريح يخرج من مصعد معطل، تاركاً أحذية نسوية لا تعود إلى أحد في الحديقة، فخ بعيد عن الحرية التي ترقص في صالة سوداء. وتشير إلى الجالس، تحت غيمة من السياط التي تسترد أحلامها منا. وهو ـ أي الفخ ـ مما لا يحق لي الإمساك به، كي لا يهرب نحو رسائلي إليكم، رسائلي التي تستخدمونها مناديل لاستدراج الغيمة في الصحراء، وهو ـ أي السكوت ـ لي حين يمر أمامي الجريح الأعمى.)

في اتجاه آخر وضمن المنهج الذي ينجلي عن محمد مظلوم ينتقل النص بالمحتمل إلى مغامرة لغوية صغيرة، ربما تبدو هينة العواقب لكنها غير بريئة القصد، يتصل محمد عبر هذا المفصل اتصالاً أليفاً بالمحذوف المحتمل دون أن يقحم المداخلات والاستعارات والقسر الإنشائي للوصول إليه، ربما يبدو المنطق المفترض للمعالجة هنا لعبة ذات دلالة في خارج النص بالتأكيد إذ يأتي عبر بيانين، جعل اللغوي نسيج الفكرة، حيث يتمظهر المشهد الشعري تمظهراً لغوياً في هذا الباب:

"لأول مرة منذ، أول مرة، أقف هكذا بين فصول ثلاثة، لأول مرة، منذ أول مرة أستيقظ من الليلة التي هربتها امرأة من النوم، لأقف صباحاً أمام المرآة وتواً أكتشف علاقة بين امرأة ومرآة، يبدو أن الألف الذي تبتدىء به امرأة يحن دائماً إلى الالتصاق بنفسه، منعاً للتكرار وإلغاء للتباعد، لذا فهو يتحد مع الألف الثاني ليصبح هو الذي يشبهه تاركاً للميم التي هي قبل ليس أن تبدأ الحياة".

من "الربيع في متحف النسيان" ص47.

فيما يقف البيان الثاني على استدراج اللغوي للفكرة، بمعنى أن اللغوي غائب قائم في الآن ذاته غائب عن النسيج عن المتن بناء غير أنه قائم في الحالة ـ المشهد مثل إجابة مستحيلة على سؤال ملح هناك، لغوي، يحيط بالمشهد ويتدخل في ثناياه، ينطق يتساءل يثير في حين أن النص يرى حسب:

"ثمة شيء يسميني في اللحظة التي انفصل فيه عن اسمي الذي أجهله، أنا مستهدف حين أقص شعري لدى الحلاق، كذلك حين أغادر مقعد الدرس، أو حين أشرب الشاي في المقهى!

ثمة لغة تستهدفني، لا مفر إذن من الوقائعي إلى الحدس".

من "منتظراً قرب غيابك" ص68.

المبرَّز الذي يشي به جهد محمد مظلوم داخل المجموعة هو تنوع معالجته لفكرة المحذوف ـ كما أشرنا ـ ولذا تجلت العلامات التي أحطنا بها العينات في هذا الصدد يضاف أن النص في حين يحاول تسمية الغائب، المنسي، المحتمل يحاول الإشارة فقط إلى حيز لمحذوف لم يسم، إنشاء مناخ له تحديد صفات مبهمة دون تركيز ملامحه عبر حرفية أدائية في حين آخر، فلو أخذنا مثلاً:

"وأنت أيضاً أيها الأعمى، ماذا تريد لكي أقودك؟".

فإن تلك الانتباهة الذكية في إبعاد الجملة، عن سياقها تريد.. أقودك، بتركيبها ضمن ماذا.. كي تفلت الفكرة إلى مستوى من الغياب هو في القصد تأشير شيء خفي، علائقي مغاير قائم على استبدال عناصر ضرورة يومية صغيرة نقل بدوره نثر الفكرة إلى شعريتها وجمالها، وكذا:

ولا أسميه، لولا أنه يتهجاني.

يأتي أيضاً في آلية ذلك التنوع ما يشبه تدوين الوقت بوصفه أكثر الحقائق إسراعاً في التلف. فما مضى من اللحظات لا تمكن استعادته أو استبداله ـ وذلك غير التعويض عنه ـ أي: أن فكرة ثنائية الحدث ـ الوقت، يكون عندها الوقت مفهوماً وشيئاً من المحذوف بقياس السلطة والمستلب حيث الثبات للحدث فيما يقع، الاستلاب على الوقت حتى إذا ما انتبهنا قليلاً نجد أن الوقت ماض منته غائب بالضرورة يتشبث عبثاً بالحدث محاولة في البقاء مثال ذلك عملية الاحتفاء بذكرى ميلاد هي عملية احتفاء بالحدث.. وان الذكرى أو استعادة الوقت ليست سوى وهم. انه تذكر الحدث ولذلك ستصبح معالجة الوقت بوصفه من قياسات الزمان معالجة شعرية أمراً موضوعياً في العديد من مواقع الافتراض والتدوين وصنع الفراغ والتساؤل المفتوح:

"فضاؤك يحكي، يحكي فضاؤك، أنت وفضائي تحكيان

قبر بلا فراشة/ كرسي يرتل ظلاماً بريئاً

هكذا كان ما يشدني إلى مقعد فوق المياه

أقبل حنك غيمة، فتمطر دهشتي،

رغبة في القول، افرق جموع التنكير،

وأنا أدخن اصبعي في غياب المكان.

في المستوى الثاني من اللغة/ الأبعد في الإيحاء/ الأقرب للتلقين، أجلست شيخ التورية، ليفصح عما يحدث

ما الذي يحدث؟"

من "أحد عشر برزخاً قبلي" ص55.

ذلك ما أراه على تماس مع فكرة التدوين عبر الفعل الأسلوب الزماني في اللغة وعبر السؤال: الذي يجعل الوقت قائماً مهيئاً للإجابة أي: "الحدث" وتلك مقاربة حسية للمشهد الشعري بإزاء مشهد القول اللذين لا يتحدان إلا في صيغة واحدة هي السؤال. مثال ذلك: ما الذي يحدث عبارة عن بيت صغير لطاقة تتصف بالاعتيادي في وقت تحمل فيه قدراً من الاحتمال والتغييب والشعرية.

(مزعج أن نجيء إلى فراغ ناقص وأن نقيم أعيادنا تحت سماء معادية) ص54.

هكذا هو التأجيل

أتكلم أحلم

أنشط في تعدية الحاضر إلى النسيان. ص43.

و.. هكذا نتدافع في الشوارع ـ من أجل أن نطرد ما كنا نسيناه". ص69.

وأخيراً إذا ما أعدنا الآن قراءة هذه المجموعة التي أدليت بها وتوقفنا عند سؤال "إلى أي مدى حقق محمد مظلوم مسافة في هذا الشوط المثير؟" فمن خلال هذه المجموعة التي جاءت تحمل تنوعاً بين القصيدة الموزونة والنثر نرى أن هناك مسافة مهمة استطاع الشاعر محمد مظلوم أداءها عبر ما حملته مجموعته من تنوع وجدية وإصرار ملفت، فضلاً عما تمتع به من حرفية مراقب خلايا أو فاحص فصائل دم، من دقة وتوفيق بين ذلك والمتخيل، يؤشر بها لتجربته وتجربة بعض مجايليه المثمرة الذكية المنتجة في هذا الاتجاه

.

 
أراء في التجربة 5 آراء في التجربة 4 آراء في التجربة 3 آراء في التجربة 2 آراء في التجربة 1