علامات استفهام تدور حول الرأس

في مجموعة (محمد والذين معه)

للشاعر محمد مظلوم

 

أديب حسن محمد

جريدة الثورة السورية 23/8/2000

 

يحاول الشاعر العراقي محمد مظلوم في ديوان "محمد والذين معه" تقديم أنماط جديدة من التشكيل الشعري ورؤية العالم من خلال عدسة الروح، ويستمر الشاعر في إضفاء الألق والفتنة على قصائده التي تغرف من عمق الحالات الإنسانية فتستنطقها وتقدمها بقوالب مغايرة.

إن غنى الصور الشعرية والشحنة الهائلة من المفردات التي يسخرها الشاعر يساعدان على رسم مشهد بصري مترامي الأصقاع. يقول في قصيدة يخاطب فيها الموت:

"صديقي أيها الموت

ها أنت تعيدني إليك من أمومة مشاعة

ها أنت تشبخ من فوق ظلال أبنائك النائمين

لتسطو على امرأتك

وتنجب منها زوجة لي

ها أنت تأخذني من حسد وجيز

فأستيقظ منك كي أنام" ص7.

ومما يلفت النظر في قصائد محمد مظلوم، توظيفه للسرد الشعري الذي لا يشتت الفكرة، فالأزمة تبدو متأصلة في نصوصه كعاصفة تهب في أصقاع الفكرة فتزيدها تقلباً واختلافاً:

"أتذكرك في عيون أصدقائي

هبطت فيها سبع سماوات

وأيديهم التي سقطت منها بقية الأرض" ص8.

ويحاول الشاعر الجمع بين الماضي بشخصياته وأساطيره وبين الحاضر بهمومه وانكساراته، يجيء بكلكامش إلى إحدى المدن العصرية مثلاً حيث يتقمص الشاعر أحياناً أنكيدو أو كلكامش:

"كان علي ـ دائماً ـ أن أسجن ظلي

لأصل قبل أن يتكرروا في؟

أكان علي أن ألونه

لكي يعبروا منه إلي" ص17.

ويبرز التغرب ليلقي بأستاره على المفردات والصور والأفكار وهو تغرب مزدوج ـ تغرب مكاني يفرضه ترحال الشاعر نفسه، تغرب نفسي يعيشه في أعماقه:

"واقفون وفي أيديهم ذكرى الأبد

على أن نهراً منتحراً

أعاد أزهار الاعتذار لأبطال الفرات

وسوى ذلك..

حرائق مستمرة تنحت حياتهم" ص16.

هناك بين ثنايا القصائد فسحة للقارئ كي يشترك في بناء الفضاء المعنوي للنص، الشاعر لا يخاطب قارئاً سلبياً أو محايداً بل يخاطب ملكات التخيل في عقل المتلقي بواسطة نوع من الامتاع في صوره الشعرية مما يزيد فسحة الفضاء الذي تدور فيه المعاني المحتملة للجملة الشعرية:

"أنام كمن لا ينام فيعبرني النائمون

كما الجسر، يستيقظ النوم في

فتصرخ آثارهم عندما يأفلون" ص32.

في قصيدته "هجاء الموتى" يقدم الشاعر قصائد قصيرة بعناوين يأخذها من العبارة الأولى لكل قصيدة وهي تجربة تشبه ديوان ورد أقل لمحمود درويش مع التباين المعنوي بينهما. يقول في مقطع عنوانه "يغارون من المي":

(يغارون من ألمي

رغم أنني لست ابناً وحيداً للحزن

رغم أن أباهم

ينام كل ليلة مع ماضيه

لكنهم يولدون دون ذكريات) ص39.

في تصاعد درامي يتشكل المشهد الشعري عند مظلوم بكثير من الحساسية مع هوامش وتفرعات تغني الفكرة ومن ثم ينهي القصيدة بصدمة أو سؤال كبير يظل يتردد صداه في نهاية القصيدة:

(كأن الليل ينجز ابناً أخيراً له

والقطط المسنة أوصلت كانونها إلى آخره

وليس ما يلي ذلك

غير فرصة أخيرة لتوقيع سيرة جاهزة للتحريف

فمن دليلي إلى المتاه الآخر؟!) ص65.

إن النهايات المفتوحة التي تختم النصوص، تترك الكثير من التساؤلات بعد القراءة. ولا شك أن هذه سمة الشعر، فالشاعر هو الذي يثير الأسئلة، الشاعر ليس منظراً لا يضع البديل كما يقول سليم بركات لكنه يتركك تنام وحول رأسك علامة استفهام.

(يد الفوضى أوصلتك إلى مكان ينتظرك

وكان ظلي لا يتذكر وجهك

ولم يخبرني أحد

 

بأن علي أن أتبع تأخري لأصل) ص71.

ــ

محمد مظلوم (محمد والذين معه)

محمد تركي النصار

جريدة بغداد ـ العدد 208 ـ  29/11/1996

 

تثير مجموعة محمد مظلوم الأخيرة (محمد والذين معه) السؤال المحدد التالي: هل ان التبدد والتلاشي بالمقارنة مع الثيمات الشعرية المتداولة يكفيان لتبرير الوجود الإنساني شعراً أثناء الإقامة على هذه الأرض، أم أن الإقامة ذاتها تحرض الشاعر لابتكار المزيد من الأسئلة لقلقلة هذا الوجود وإثارة الريبة حول المفهومات المتماهية معه!! هكذا تغدو الحوارية الشعرية منجماً للمزيد من حالات الإفشاء أو استيهام هذا الإفشاء بعبارة أكثر دقة. فالتجربة الشعرية كما أراها في تجليها الأكثر أصالة تأكيد جوهري لعزلة تغالب حنيناً مشبوهاً لتحطيم حجابها وتمزيق حبستها الباهظة، وبدلاً من هذا الخيار الهش، المباح، يتبدى النص الشعري فريداً في غربته، أقرب إلى خطاب الجنون لكنه ضروري، له علة تشبه علة الوجود نفسه مع إضافة حيرة أخرى تنشأ من صراع الكائن مع اللغة بوصفها امتداداً مؤسساتياً شاملاً، أعني أن اللغة تستغل عاهاتها المغروزة في الدم البشري وتحولات نشأته وصولاً إلى نضج الوعي والحساسية الشعرية.

وهكذا يقف الشاعر في جهة لغته منابزاً هذا العالم وللأخير أسماء أخرى: سلسلة الوقائع، وهو أيضاً مجموعة حطامات وأحوال تداع فريدة، والعالم أيضاً هو الفراغ المزدحم أي التاريخ على حد تعبير أحد الكتاب. فهل تكفي صرخات الاحتجاج بلغة السيف وسياقات العشيرة والمفردات التي تمتحفت.

وسؤال أكثر إقلاقاً: هل يمكن للشعر أن يكون حجة لمقارعة لا تحتملها طبيعته بوصفه خطاباً خاصاً أم أنه خيار جد فردي للذود عن شفافية الإنسان ضد عمليات التمسيخ والتلطيخ المتلاحقة! أنا أميل إلى اعتبار الشعر ملجأ.

ومن موج التراث وفيه تطلع تجربة محمد مظلوم لكنها سباحة حرة، ربما لا تبررها سوى شهقات الضياع حيث يتذبذب الكائن في حركته بين خيارين لم يخترهما وتلك مفارقته الغابرة، والطازجة باستمرار أيضاً. فلا الموت يكتمل ليشفي الكائن من هذا اللهب الأسود الذي.. عن إشهار الملح من ضروراتها الفاهية، التي تتآكل الوجود وتهدم بهاءه.

وفي هذا يستدل الشاعر على عماه، على مقلوب البصيرة حين تظهر بروقها مثل أطياف تحرس من بعده، سكناه المضطربة بين الصقيع، تتبدى التجربة الشعرية والحالة هذه مثالاً خاطفاً لوجود ضائع، لكينونة انطمرت أو غيبت عقاباً على إثم التواجد في هذه الأراضي البور.

هل سؤال الشعر يجترح معضلة ضرورية أم أنه يكتفي بإلفات الضوء على إثم التواجد في هذه الأراضي البور.

هل سؤال الشعر يجترح معضلة ضرورية أم أنه يكتفي بإلفات الضوء المدمى في سيرورة الظلام. شعر محمد مظلوم دخول في المتاهة بعدة من الأرض التي تتلاحق فيها الحوادث وعمليات التدمير، حيث نرى كائناً يتذكر وجوده الآخر داخل متاهات يهدمها باستمرار على أنقاض ملله ويأسه وتلك خاصية شعرية أصيلة، خاصية اللعب البريء لكنه اللعب الواعي أيضاً، وعياً لتاريخ أحمر يصنعه طغاة بقفازات ويبررون فيه أحلافاً تصنع الموت المجاني والكوارث التي تخنق الهواء! ليس ثمة شيء مقدس في تجربة محمد مظلوم سواء في هذه المجموعة أو في مجموعتيه السابقتين، إنها ـ أي التجربة ـ تبرر وضعها بالمزيد من الحفر على دم حار ساقط من أثر الفريسة التي سُحلت وتم دفنها خلسة هناك، وليس من عودة في هذه التجربة لأنها ذهاب من اللا مكان إلى اللا مكان وهي أيضاً أرهاص بإمكان ما، مستعص على الظهور، تأكيد للغربة، تهديد للموت، حنين مضرج بالرغبة غير المستهلكة ريبة لا تنفك عن التعالي ضد أباطرة مزيفين ووجودات مزورة. اعلان للتوبة عن خيانة مستمرة أمام امرأة الحلم المستحيلة تأكيد لهوية غامضة لكنها مهمشة بما يشبه الفضيحة في عالم التوازنات الوقحة الصلفة.

هذه ملامح عامة عن تجربة محمد مظلوم في ديوانه الأخير (محمد والذين معه).

ــ

البنية الموشورية

قراءة في ديوان "غير منصوص عليه" ارتكابات لمحمد مظلوم

قراءة: سهيل نجم  ـ "الثورة اليمنية"

 

في قراءة هذا الديوان لا يمكن أن تدعي أي نوعية من القراءة أنها القراءة الشاملة الواقية ـ المحللة للنصوص التي فيه.. وعليه افترض هنا أننا أمام بنية استعارية جديدة تستعصي على القراءات التي ألفناها في تناول النص الشعري.. إنها بنية ليس من السهل تصنيفها ضمن أبواب مضمونية أو شكلية محددة ما لم تتهشم تجربتها الحداثوية.

وأفترض أيضاً أن ثمة بنية موشورية مفتوحة لمختلف ألوان التأويل من خلال زوايا النظر المختلفة وان زاوية النظر الأحادية تحتم سذاجة وضيق نظر لا محيد عنهما.

هنا محاولة للتحاور مع داخلية نصوص هذا الديوان دلالياً على أن هذا التحاور يبني شرعيته من انعكاس تجربة قراءة النص ولا يعتمد على إيضاح سافر للمعنى أو على منهج معد سلفاً.

في هذا الديوان تقتحمنا اللغة دون أن تنتظرنا كي ندخل في طياتها هكذا تريدنا أن نعيش إشاراتها دون انغماس في ابتذال الوضوح .. يطرق الشاعر أبواب خطابه فيستحث قدرة المجاز على المعرفة من خلال لملمة شظايا النداء الشعري ويظل القارئ في هذا البنية الجديدة غارقاً في بحثه المضني عن عبث التفسير.. فلا تفسير يمكن أن يسبر غور الكلام الذاهب أبعد من معناه المتوقع إن التجربة هنا تحاول تحد لما يسمى بالمعنى بل لوعدنا إلى إليوت واستعرنا منه نظرية المعادل الموضوعي لوجدنا تمثلاً واضحاً لهذه النظرية في البنية الشعرية هنا أن التناقض المركب يكمن في بين الصورة الشعرية والانفعال الشعري فيسير بذلك القول الشعري وكأنه يسري إسراء بين شرايين اللغة.

في النهار الذي لم يحدث أكمن في الكلام الذي لم أقله

إيضاح مرتفع على أن أجتازه لأعانق التأويل.. لم أمتلك نسياني فأحدث عن حياتي وبلا ذكريات لأندم. (ص10).

إن الأشياء تصبح رموزاً واستعارات ويتبدى لنا الشعور الذاتي وكأنه منعزل عن الشاعر.. هكذا تتعقد البنية في تأسيس تعادلاتها الموضوعية.. اللا مرئي يتخذ من المرئي صورة له يتخفى خلفها معلناً عن بوحه البعيد والعميق في الدلالة إن من الصعب حقاً مجاراة هذا الخطاب إلى مداه البعيد ذلك لأنه يعطي لنفسه حق التموضع في اغتراب اللغة عن مألوفيتها ومن هنا يدخل الشاعر في مغامرة لم تألفها اللغة.

وتنوع الذات في صورتها كي تخلق تفردها، ضمن حك آخر جديد للتداول تمركز الدلالات هويتها من تمفصلها حتى عن ذاتها المشروخة التابعة:

أنقذ حياتي من جذام المرايا

أنقذها من انهيار مؤكد

بأسنان الأزهار ارقش المجهول

لأمنع موتي من الانتظار

ارتديت نظارة سوداء

متهيئاً للمعانك

بأظافر تشع بالريبة

انهش قميص الغياب وارتد إلى حدائقي

ويكون التداخل بين التجربة واللغة خالقاً لعلاقة فاضحة للخدعة التي طالما سميناها الحياة وهي ليست كذلك. ويوافينا هذا التداخل بقميص جديد يشبه قميص الملك العاري. إن الكلام يتحول إلى كائن تفور في داخله اللغة ـ التجربة التي تمزج في ثناياها التقريري مع الرمزي تمازجاً أخاذاً:

هذه ليست حياة

وكان أن مزق صورة العائد من أعياد لم تسفر

عن حياته في الخيمة الصفراء

نفكك أحلامنا بحثاً عن نوم تام

عن نهار نعيشه تماماً

عن هواء مختلف

نحن الهاربين خارج الربيع

حضورنا محايد وننتظر العهد المغلوب. ص(29)

وكذلك:

"مفقودة أعمارنا في الذهاب إلى معسكرات العزلة ومزارع الانتظار مفقودون في إعلانات منسية ينقلها هواء رث إلى اليابسة وليس ثمة ما يصلح للحديث سوى التخلي عن وصاياي". (ص48).

على أن التراجيديا هي أعمق ما يمكن لنا أن نحياه ولهذا تعمقت محورياً في التجربة واللغة فماذا إذا كانت كارثية يعلن طوفانها انسحاق تزامنية المرتجى والمعاش فإنها سرعان ما تجد تشكلها بعتمتها البيضاء إنها لتبدو وكأن بنيتها الاستعارية المتضادة السوداء الساطعة لا تحتاج إلا لقناص مبدع كي تعلن ذاتها بحرارتها المعهودة إنها التراجيديا الرثائية المغسولة بالنواح يخطف الشاعر حركيتها وتحولاتها محتفياً بها حتى تحين اللحظة فيحشد دلالاته ويخرج متجاوزاً كل خيباتها قاصداً التواصل مع الضد:

نرسل في البريد أعيادنا لتحتفظ أيدينا بالمراثي عند مصافحة الفرحين..

الآن أين والجنوب أعزل من وشاية الربيع، الجنوب عتمة بيضاء تستقر في ذاكرتي الجنوب جميع أراملي العانسات الجنوب فترة مهزومة إلى ساحل عاطل الجنوب كفن أسود لمحاربي القرى المستترة الجنوب شابة تلتذ بانحنائها على زرع ميت، الجنوب أدلة محجوبة على أن الغيمة شقيقة للغيمة وتصغرها بسبع سنوات، الجنوب غابة من نهار محايد وعليَّ اقتسامها مع الربيع الجنوب صحراء والأفعى مرتين وفي المساء أعلن الطوفان أطلق الحمامة التي تستقر على مقبرة ولا تعود ومع هذا استيقظ في السادسة أحلق ذقني وأسرح شعري وأرتب ربطة عنقي وأخرج لملامسة الفرح وتسمية الأشياء.

ــ

"غير منصوص عليه":

كتابات عن صدمة اللغة بنفسها

 كمال سبتي جريدة "الحياة" 18/9/1993

 

 

الكتاب: "غير منصوص عليه"

الكاتب: محمد مظلوم

الناشر: دار الحضارة الجديدة ـ بيروت

لم يبق الشعر، تلك الأغنية القصيرة، الموزونة، المقفاة، ولا تلك الومضة الخاطفة، المتلمسة تضاداً مع ما هو معلوم. إنه شيء أكبر من كل هذا: هجر تام لتقاليد الكتابة المتوارثة. ولركاكة اللغة الناتجة عن التقليد البائس للترجمة العربية للشعر الأجنبي.

أكتب هذا، وأنا أقرأ المجموعة الأولى للشاعر العراقي محمد مظلوم (أحد شعراء الكتابة الجديدة في العراق ـ يعيش حالياً في دمشق)، المعنونة "غير منصوص عليه ـ ارتكابات".

ترفض الكتابة الجديدة في العراق، أن تسمى "قصيدة النثر" لسببين: الأول يتعلق بالمصطلح نفسه، والثاني يتعلق بتاريخية هذا النمط من الكتابة في الشعر العربي. أثار هذا حيرة بالغة لدى النقاد، ولدى من تصدى لهذه الكتابة، إذ كان من الصعب على هؤلاء أن لا يسموا كتابة تهجر الوزن بـ"قصيدة النثر" وكان القارئ العربي، ولأسباب تخص الوضع الثقافي العراقي ـ الرازح تحت سلطة رقابية صارمة ـ لا يستطيع الاطلاع على الكتابة الجديدة في الشعر العراقي، إلا بصعوبة، وعبر طرق جد ضيقة. غير أن هروب عدد من شعراء هذه الكتابة من العراق، بعد الحرب مع ايران، أو بعد حرب الخليج، وإصدارهم مجموعات شعرية في منافيهم الجديدة، ساعد القارئ العربي ـ إلى حد ما ـ على تكوين صورة أشبه ما تكون بالواضحة، عما أحدث من ثورة كتابية في الشعر العراقي.

"النهار كاسد، والكلمات الملونة تتسابق خارج البياض، ملابس النساء واجهات المحلات، الباصات وأعدّ  الرماد للسطو على قارب الملح وإغلاق السواد على غيم كثير، اللحظة شيخ يتنازل عن عصاه، فأشاهد الغائب نيابة عني، والسجان أصفادي التي تدخل المبنى نيابة عني، واشاهد السبايا في الباص، يغادرن أيامهن، أو في الكليات يخلعن قمصانهن، أو في السوق ينابزن باعة السمك، وأصغي إلى ذهب أحمر يهطل من لحم مشمس في ربيع مفقود، أنا المحذوف بالتكرار، لكنهم راسخون في التقويس، أسماؤهم مطري، وأعيادهم ندمي، والمزارع صفقت لي، خاسراً، أهلاً بالسعة التي نجت مني، أهلاً بالفضة التي تلتهم الفرق بين الصحراء والسوق، السوق التي لم أعد أرى فيها العباءات السود لأصرخ: يا أمي".

تقصّدنا أن نورد مقطعاً طويلاً نسبياً من إحدى قصائد المجموعة، لكي ندلل على أن الشاعر يستنجد بعلاقات أخرى، مضادة لتلك التي تسود كتابات كثيرة، كي يخرج بها إلى هذا العالم بريئاً. والثقافة الشخصية كلها، الذي يشكل التراث جزءاً مهماً منها، تتحول هنا إلى رؤى ومشاهدات لطفل مدهوش بكل ما يرى، وبكل ما يعرف في الوقت نفسه. وحين يشي النص بتلك العلاقات اللغوية الساعية إلى "القصيدة الأخرى" فإنما يؤكد محاولة التخلص مما دعوناه ذات مرة "الشكل الزائد للمخيلة".

ليس ثمة شكل للكتابة الجديدة، كما أنها ألغت من ذاكرتها تلك الجملة البائسة "العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون" والتي شكلها مسعى دائم لكسر كل قانون.. وهنا يحاول محمد مظلوم، أن يحقق شيئاً من هذا، فما لا يبدو شعراً في الشارع، وما لا يبدو شعراً في اللغة، يمكن أن يكون شعراً صافياً، حيث ترى الكتابة الجديدة: أن لا الحياة رئيت كما ينبغي، ولا اللغة التي قتلتها القرون البلاغية الطويلة:

"ولذا فابتداء من الآن، وإلى أن أتذكر أنني أول الخارجين من باب المقبرة، سأبقى أتحدث بلسان الشاهدة".

أو:

"ما هو السبب الذي يدعوني إلى محاجبة فتاة في سني بأنها أمي؟".

أو:

"الإحساس ذاته تولد في، عندما التقيت بصديق قديم ولم أتذكر اسمه، مما جعلني أتساءل عن جدوى اسمي".

أو:

"الجنوب جميع أراملي العانسات، الجنوب فترة مهزومة إلى ساحة عاطل، الجنوب كفن أسود، لمحاربي القرى المستترة، الجنوب شابة تلتذ بانحنائها على زرع ميت، الجنوب أدلة محجوبة على أن الغيمة شقيقة للغيمة وتصغرها بسبع سنوات".

"غير منصوص عليه ـ ارتكابات" بحث في اللغة والحياة، بحث في اللغة: عما ليس من اللغة في شيء، وفي الحياة: عما يرى، ولكنه لا يرى:

"بكيت حين انتبهت إلى وجود نافذة ثالثة في البيت".

إنها صدمة اللغة بنفسها، صدمة تشي بمقدرة على تكوين عالم الرائي المغاير. وتلك سمة المجموعة التي يستطيع أن يتلمسها القارئ سريعاً. والأمر يتعلق هنا بالجملة الشعرية نفسها، التي تتكون آنياً، إذ أن موروثها الكتابي، هو موروث متشكل تواً. جملة تسعى إلى مغادرة كل تسمية، وفي سعيها هذا، تنشد شعراً، لا يخاطب أحداً، لا يقول شيئاً. ما يتمناه هو تحقيق ماهيته، فحسب:

"ليختلط اللغز، وتنفض الطيور غبار دموعها، ولتنم حدائق السكاكين، لتنم مقاهي المواعيد القصيرة، ولتسافر قوارب المتأخرين عن المعارك والمصحات التي تنتشر في ظلام حياتنا، ليختلط اللغز، ولكن مقابل ذلك، لي أن أقول: "ماذا تحت لسانك أيها القصاب؟".

ــ

التفكير الشعري

رؤى وتجليات الشاعر في "ارتكابات" محمد مظلوم

لندن ـ من سلام شريف ـ جريدة "الشرق الأوسط"

23/5/1993

العدد 5290

 

تأتي المجموعة الشعرية الأولى للشاعر العراقي محمد مظلوم "غير منصوص عليه ـ ارتكابات"، بعد عقد كامل من بداية حضوره في المشهد الشعري العراقي، متضمنة النصوص التي كتبها بين عامي 84 و89 ونشر عدد منها في الدوريات الثقافية العراقية والعربية، وهو بالإضافة إلى عدم ضمه للنصوص التي كتبها مطلع الثمانينات فقد استبعد عدداً آخر منها، يقع في الفترة المذكورة مثل قصيدة "فتح السامري" (المنشورة في مجلة الطليعة الأدبية، يونيو (حزيران 1984) ويبدو أن محاولة توحيد مناخ النصوص للإفساح بوضوح عن خيارات الشاعر الفنية، وتعيين ملامح فضائه ولمسته الخاصة، كانت وراء اختيار نصوص المجموعة.

تضمنت المجموعة اثنتي عشرة قصيدة، جاءت تحت ثلاثة عناوين رئيسية هي: (بانتظار الغائب "في ارتكاب الندم") خمس قصائد، (العودة إلى الحاضر "في ارتكاب الحياة") أربع قصائد، (تأجيل الشمس "في ارتكاب الأمكنة") ثلاث قصائد، وكتبت في تواريخ متداخلة.

وإذا تقاربت ملامح وعناصر تجربة الشاعر في جميع النصوص، فإنها لم تكن لتمثل كامل تجربته، التي تميزت باندفاع مستمر للتجريب والمغايرة، وانقلابات عديدة على شكل ومضمون وأدوات الكتابة، متحولاً من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة وصولاً إلى قصيدة النثر التي تنتمي إليها كافة قصائد المجموعة.

وكمدخل إلى المجموعة يمكن للنص التالي أن يفصح عن الكثير من ملامحها:

"في الخميس القادم،

في حفلة أقامها المدعو إلى موته

استطاع الكلام أن يقشر التفاحة وهي في الصحن

الضيف تعرف على الكرسي،

لأن المرايا أقل من الجدران،

وهنا أستأذن المدعو كرسيه لإعداد الوجوه.

أحدهم، تلكأ في استذكار اسمه فأشار إلى التفاحة

الآخر استلذ بمقعد سهل ويثرثر

وأنا، طمعاً في النطق،

انحنيت لكي أحرر كلامي من يد أعدائي

وإذا بي أبرر قتلي".

في هذا النص، الذي تلتقي فيه الملامح العامة للنصوص، يطالعنا الحضور الشديد للمخيلة وميل الشاعر للتصورات الذهنية، فيما يمكن تسميته بالتفكير الشعري، بالإضافة إلى الحضور الواضح للنبرة الصوفية، حيث يستدرج الشاعر رؤاه بنبرة العارف الواثق من تجلياته، ضمن مناخ وجداني دافئ يمزجها بما يلتقطه من اليومي والشائع وتفاصيل الحياة الحميمة، في محاولة لتحرير الحواس من التلقي الأليف للمشهد اليومي، ومن خلال رؤية ذاتية فاعلة تروض هوية المشهد في وجدانها العارم:

"فضاؤك يحكي (..)

كرسي بطيء يرتل ظلاماً بريئاً

هكذا كان ما يشدني إلى مقعد فوق المياه

أقبل حنك غيمة فتمطر دهشتي (..)

وأنا بعد ذلك مجبر أن آمر السياف

أن يقتص من تاريخ اليد تحت شمس سوداء

وأبشر بتاريخ اللسان".

يتميز شعر مظلوم بنبرة منخفضة واسترسال سردي يعتمد الجملة الطويلة، مع ميل كبير إلى طرائق القص والبوح قادته عميقاً في أفقه الوجودي، متجاوزاً الآخر في هروب دائم من سطحيته إلى عزلة الذات المترفعة، التي ترزح تحت تساؤلاتها الشاهقة ورهبتها الكبيرة التي تصل حد الخوف من الانكسار، لكنها تواصل تحديها، واثقة من خيبتها ويأسها من الآخر، وذلك أكسيرها في مواصلة ارتفاعها إلى خصوصيتها، وهو ما بث في ثنايا النص نبرة دفينة من الحزن الوجودي والشعور بفداحة مواجهة الإنسان لمصيره:

"أنا الزمن المكسور على نافذة الجنون

لا وقت لي

أنا الراسخ في تفسير روح البحر،

لا حكمة أتقمصها".

كما ينبغي تأشير سعة قاموس محمد مظلوم اللغوي، وتنوع المناخات والعوالم التي يتأملها بشبق وجداني يتراوح بين التنافر والألفة مع العالم الخارجي، الذي يندغم في أحيان كثيرة كخارج شديد الذاتية في احتدام تساؤل وقلق الشاعر:

"ولأكون وهماً

لابد من فرس أكسرها، وأكسر عند صهيلها

تركات الحضارة، وتطلعات الجموع

لسكرة الليمون

أنبح في شق الجبل، وأركض في فوهة التاريخ

بحثاً عن تقشر العبيد، وتعطل الأسياد".

وتحضر فكرة الكتابة في أماكن عديدة من المجموعة، كموضوعة شعرية، يتأمل الشاعر خلالها طقس الكتابة وعلاقته وموقفه منها:

"ينبغي التلغيز عند العبور أمام مشهد واضح.

فالمتفرجون مرايا لا يسكنها الهواء

أقول ولا أشير أو أشير بلا تعيين

ولن يتردد المعنى".

وإذا كان مظلوم يرى أن الشعر الحديث يجب أن يلغي ديمومة الماضي أو بالأحرى يستبدله بالحضور أي حضور الماضي في الآن وبحضوره ينقطع الماضي عن ماضيته، فإنه تمكن من استحضار المنجز الشعري في طبقة عميقة من الآن لتزيد من كثافة صوته الخاص المكتنز بذلك الإرث الواسع من الميثولوجيا والتراث بكل أنواعه:

"مساء المطر، أيتها النار التي ترتدي قبعة

الآن مطر وأم تقتاد ولدها في احتفال الرجولة

إلى ساحة الإصغاء، الآن مطر

ولكي يتأكد الولد من براءة الأشياء

صارت الدهشة ثوراً

الآن مطر وأحب الثور.

ورغم تميز المجموعة بدأب واضح على خلق علاقات جديدة بين المفردات، ومحاولات مثمرة لتركيب صياغات أخرى، فإنه يمكن ملاحظة أن اندفاع الشاعر في استرساله السردي (في نصوص المجموعة الأحدث تاريخاً) واستخدامه لطرائق القص، قد بدأ يؤسس آليات لعمل النص، وظهرت في قصائده لأول مرة استطرادات لإكمال مناخ المونولوج وتصاعده الدرامي، وميل لتأكيد إيقاع تقني واحد والإلحاح في تكراره:

"بكيت حين انتبهت إلى وجود نافذة ثالثة في البيت، تطل على مقبرة مسيجة بخيل ميتة، بكيت حين انتبهت إلى وجود كرسي بثلاثة أرجل فوق السطح، فتذكرت أنني لم أغف على كرسي منذ سنوات.. مفقودة أعمارنا في الذهاب إلى معسكرات العزلة ومزارع الانتظار".

رغم ذلك فتجربة محمد مظلوم ومثابرته تشير إلى قدرته الكبيرة على تنقية صوته باستمرار للإتيان بما هو جديد، شأن هذه المجموعة التي يمكن اعتبارها خطوة راسخة لتأكيد حضور صوت شعري سيكون له شأن كبير في خارطة الشعر العربي.

هامش:

"غير منصوص عليه ـ ارتكابات" للشاعر محمد مظلوم ـ صادر عن دار الحضارة الجديدة ـ بيروت 1992.

ــ

"الكتابة ضد المؤرخ" أو

المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات

ناصر مؤنس  الرأي الأردنية 4/3/1994

ضد المؤرخ

ضد الصرخة المدثرة بالكتابة، ضد الملثمين بالثأر الفائت، وعلى عيونهم أقفال الكتب المهدومة، ضد الماضي الواقف تحت سماء بلا إشاعات يأتي "المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات" ليعارض الإفادة المعلنة للشعر والصادرة عن المراجع الرسمية للكلام، فالقصيدة لم تعد مطبخاً قروياً مسكوناً بحيوانات ناطقة، لم تعد زهرة المصيبة التي توحي بالأمل والتي تشبه الجذر السحري الذي نما من بذره الإنسان المنتحر، هذا ما يجعلنا نحس في هذه المجموعة الشعرية الصادرة عن دار الكنوز الأدبية في بيروت للشاعر محمد مظلوم بأننا نقف خارج المؤرخ، خارج هذا الموت المتحرك، المنكسر، كأنها تقول لنا أن الكتابة ضد المؤرخ هي محاولة لإيقاف المحذوف وتثبيته، تماماً، أشبه بمن يوقف آلة تصوير متحركة ويثبت كادراً بعينه على الشاشة، لكننا حين نوقف حركة الكتابة لن يكون لدينا غير الصمت فحسب لا كتابة على الإطلاق، فالمحذوف يمكن أن يسجل الكتابة ولكنه أيضاً يمكن أن يسجل المحو بل انه في الواقع يفضل المحو، ولكي نقرأ قصيدة محمد مظلوم علينا أن نمسك بالمحذوف، نمسك بالصامت، ونمسك بما يقع خارج الكتاب، لكن المحذوف (غير منصوص عليه) كما جاء في مجموعة الشاعر الأولى، فكيف نتمكن من كتابته مادام كل ما نكتبه يقع خافتاً خارجنا، وما دامت الأشياء محكومة بذخيرة الكلمات، إذن، لابد لنا أن نطور أنواعاً أخرى من الرموز تلك التي لا يتمثل المعنى فيها بالصور التي تحددها الشفرات.

وفي مثل هذه الشفرات تتم كتابة ذلك العالم المراوغ للكلمات الذي يهيئ للوحدة مع الأشياء المتعالية، الأشياء التي تكسو كشوف الشاعر وتخلع عليها تلك الديمومة الرائعة، لهذا يستحيل النظر إلى هذه المجموعة من زاوية شعرية خالصة، في معزل عن السري والجوهري، يقول الشاعر: "أنا المحذوف، والمأمول، المتلو في ظل المقابر". (المتأخر ـ ص125)؟

أو:

"لأن الهواء

يفضح الكلام، وسعال البرق، وما  إلى ذلك من مكائد معلنة،

تبقى الرسائل.. صياغة سرية لتأويل المحذوف،

ويبقى الغياب ـ باستمرار ـ ألذ صورة للحضور!

وعندما ينشأ المحذوف مبتكراً ثراءه الشاسع

فإن ثمة ما يدون المحذوف خارج منشئه،

ثمة ما يخترق فضاء الحدس

ويقيم أعراسه حيث يدثر الصمت رائحته بالانتظار

ثمة ما يقوس الفراغ لعزله عن البياض التام

ثمة ما يستدرج البريد إلى الفراغات المقوسة في البياض، أيضاً،

ثمة ما ينحني لإرباك الأفق المنشغل بمراقبة العابرين.

لكن..

دائماً ليس ثمة من يؤول المحذوف في رسائل الساكت (المتأخر ـ ص56) كأنه يقول: لا أشاهد.. لا أكاشف.. بل أتفرد، وكأنه يضيف: لست أظهر.. لن أصول.. لكني أفهرس المكائد، قصيدته مغلقة في عالم خاص بها وهي في ذلك أشبه بأيقونة لفظية مرسومة بالكناية الغائبة التي تتزيا بالغائب في الوقت الذي هي شارته، لكنها تكشف في نفس الوقت أيضاً عن ذلك التشاكل بين المتناثر والمجرد والصامت، ولهذا ما أن يبدأ الشاعر سيرة نحو الكتابة والتي هي خريطة القول حتى يصرخ مذهولاً:

"ليس لي سوى غيوم منهكة يجرها ثعلب أعمى،

ليس لي سوى تقولات من يحرفون نومي".

(المتأخر ـ ص46)

إذن من هنا يعبر الشاعر بين مرايا الشبهات فوق حواجز الكلام، ليبدأ سفره مع المتأخرين من مسافري الكواكب حين يجوبون ـ بورع ـ المجرات المزينة بالبياسين والأحصنة وهم ينشدون الأناشيد العفيفة، فتتبعهم مصائد الأرواح، والممرات المسحورة، والبراهين التي قادت المحذوف خارج منشئه، لهذا قصائد هذا الشاعر تترك نفس انطباع نقوش النذر على جدران المعابد، ألهذا إشارته ممتلئة بأهازيج ومعانقات ويظهر المحو في مدوناته.

نحس في قصيدة محمد مظلوم ببهوين للكتابة، أحدهما في الخارج، والآخر في الداخل، والمعنى مختلف في كليهما، ونحن لم نكن نصغي لكتابتين فحسب بل كنا نسمع المتأخر، وهو يرزم الأمكنة أمكنة ظاهرة، تطلق أبواقها الفضية وهي بانتظار المرشحين للنسيان، وأخرى مختبئة في الداخل ترد بنفخ الآلات النحاسية وبصوت مدو لتكسر الكلمات العالية لعل الشاعر يصطاد فخاً دافئاً ينيم به غايته العائدة من فواتها.

وبما أن لكل الأمكنة فراغها الداخلي، فلا نفاجأ، إذن حين نرى محمد مظلوم يمضي بالنص المرئي إلى الفراغ المرئي، كأنه ينسج قصيدته من تكوين المبنى، ومن حروف اللين المفتوحة في حوائطه، وكأنه يضيف شكل الكلمة إلى الحجر العاري، وكأن الحجر يختصر الكثير من الصدى، وكأن حوائط القصيدة مملوءة بالمقصورات التي تطل على المتأخر وهو يطبع تصميماته على أسطح منحوتة من أجل أن تصبح الكلمات أشبه بالغرف التي يصممها المعماري.

وحين نصل إلى "لا نبوءة للبحر" آخر قصيدة في هذه المجموعة الشعرية فكأننا نصل إلى مهجع الشاعر الذي يشبه شرفه غنية بالنقوش يجلس فيها الشاعر مختلياً بكلماته الحميمة ليتهامس معها:

"لطفولة التاريخ،

المنفى المسور بالمعابد والصغير،

لرهط منشغلين عني بالندى للسيف

يكسر باب مقبرة ويبحث عن رفات الشيخ

أنذر جثتي، وأعد خسراني". (المتأخر ـ ص139)

بهذا يضع الشاعر محمد مظلوم آخر لمسة للمعماري في هذه القلعة الرائع، ولكن دون أن ينسى كيف يزخرف أبعد النقاط.

ــ

محمد مظلوم في كتابه الشعري الأول

العالم من زوايا مغايرة

دمشق ـ من راسم المدهون جريدة "الحياة"

15/5/1995

 

أفق الكتاب الشعري الأول يستدرج الرغبة في القراءة، ويحثها على المواصلة بسبب من احتدام القلق الذي نتوقعه في هذه الحالة، وبسبب من رغبة لا تحد، في استشراف عالم جديد، لم تتجول عيوننا في دروبه وأزقته من قبل، عالم لا يزال يخبئ بين دفتيه رنين الكلام الذي لم نسمعه بعد. هكذا وجدت نفسي، أمام الكتاب الشعري الأول للعراقي محمد مظلوم "غير منصوص عليه" ، متضمناً مجموعة من قصائد كتبت في السنوات القليلة الماضية، في العراق، قبل مغادرة صاحبها إلى فضاء أكثر اتساعاً، وإن يكن تجربة جديدة، وحياة جديدة.

محمد مظلوم، يختار منذ البدء أن يبتعد تماماً عن كل ما يمكن أن يذكر بالآخرين: لغتهم الشعرية، طريقتهم في الكتابة، مفرداتهم الخاصة، بل وحتى نظرتهم إلى الحياة، التي يمكن أن تحدد شكل قصائدهم ومضمونها. إنه صوت جديد يستفيد من منجز القصيدة العراقية الحديثة لدى أبرز شعرائها في الشكلين الموزون والنثري، والذي تحقق على أيدي شعراء معروفين مثل حسب الشيخ جعفر، يوسف الصايغ، فوزي كريم، ثم سركون بولس، من دون أن يقع أسيراً لأحد منهم. قصيدته اتكاء على حدقة تتأمل وتراقب معنى الأشياء، وما تخفيه خلف ظواهرها المرئية من مخبوء، يتوجس الشاعر منه.

في كتابه الشعري "غير منصوص عليه" (دار الحضارة الجديدة ـ بيروت ـ 1994) نطالع كتابة شعرية تستعير من فداحة الواقع، انحيازها إلى لغة تقارب الحلم مرة والكابوس أكثر المرات. إنها لغة مراوغة، تستعيض عن القول المباشر، والصورة البسيطة الواضحة، بالكلام المجزوء، والمقتطع من سياقاته المنطقية وبصورة رجراجة الملامح لا نتبين من تفاصيلها، إلا ما يعين على البحث، وإعمال المخيلة، من أجل تكوين أجزائها في ما يشبه الاسترجاع.

تشبه لغة محمد مظلوم الشعرية الحياة اليومية، في الشواهد التي ينثرها أمامنا من الشارع، الحي، ومن المدينة، ومع ذلك فإن هذه الشواهد لا تلبث أن تتوارى في الظل، مخلية مكانها ودورها، لنسيج من العلاقات المركبة، التي يعيد الشاعر تأسيسها على وقع مغاير، في لعبة تستبدل الواقع الحقيقي، بآخر لا يشبهه، وإن كان يدل عليه.. واقع يظل بعد كل ذلك التغيير أكثر صدقاً وحقيقة، بل وواقعية من الواقع ذاته، واقع هو في المآل الأخير، صورة الحياة في حقيقتها المغلفة بالألوان الزاهية، والطمأنينة الخادعة. تقول القصيدة شيئاً من يومنا، ثم تكتبه في ذهابه السري إلى حقيقته الأخرى التي لا نراها بالعين المحايدة.

من المفيد في قراءة تجربة محمد مظلوم، الانتباه إلى المناخ الخاص الذي نعيش فيه قصائده، فالنظرة المفعمة بالسواد، والتي يأخذ سوادها كل مرة شكلاً جديداً وتعبيراً مغايراً، هو بمعنى ما، استغراق الشاعر في استقراء باطني، يدفعه إلى الالتفات الدائم نحو الداخل، حتى وهو يتحدث عن شجون يومه. القصيدة في هذه الحالة شبه مونولوغ يتصاعد وينحدر وفق قياس هادئ، وفي إيقاع بطيء، وهو بقيامه وإيقاعه، يفرض مفردات يقصد الشاعر أن تلوّن صوره بألوانها، وبما لا يبتعد به وبقصيدته عن انقطاعات مقصودة عن سياقاتها المنطقية ذلك أن قصيدة محمد مظلوم، لا تقول جملة مفيدة بالمعنى التقليدي المعروف والمتداول، إذ هي تستخرج لا منطقية الواقع لمحاكاة شعرية تشبهها، فمن الانقطاعات، ومن التناقضات، ومن اللا مفهوم ذاته، يعيد الشاعر تركيب الجملة الشعرية، بمفرداتها، بصورها، وبالمعنى المنشود، الذي تكتمل في هذه الحالة مربعاته، فيما يشبه لعبة الكلمات المتقاطعة والتي تستدعي بالضرورة قارئاً يجمع ذهنه ويقبل على المشاركة في لعبة الشاعر.

يمكن ملاحظة شيء من ذلك في هذا النص المتميز، والذي نقتطعه من قصيدة بعنوان "تأجيل الشمس" وعنوانه الفرعي "العيون أقل من الشرفات":

"تيقظ أبجد ـ وهو ابن ما ليس بعد ـ ولكنه كائن لغوي له ذكريات، ويلبس ربطة عنق ويعشق أيضاً ـ تيقظ والعام كان على وشك أن يتيبس إذ لا مواسم، فارتطمت روحه بغبار العبيد، وصادف أن مرايا الوشاية عزلاء، أقفل باب التهجي، وردد وهو يغادر تورية الشخص: القصد سور الخطيئة/ التوبة امرأة رجمت تحت شمس مؤجلة والنهار يعانق أرملة الذكريات".

هذه الحالة الشعرية المؤسسة على برق المعاني الخاطف، تفترض بالضرورة، قوة وتميزاً في بنية القصيدة التي لا تسمح بالضعف أو التراخي، ولهذا السبب ـ ربما ـ نجد أنفسنا عند قراءة بعض قصائد المجموعة، إزاء تعثر تعجز معه القصيدة عن تحقيق غاية الشعر. يحدث ذلك حين تطالعنا قصائد معينة تقدم انقطاعاتها خارج الصور الشعرية القوية والمؤثرة، وخارج القدرة على البناء الشعري المتماسك.

ــ

عزلة الشاعر

عبد الهادي سعدون مجلة "الاغتراب الأدبي" العدد 36/ 1997

 

عبر ثلاثة دواوين شعرية صدرت منذ عام 1991 حتى اليوم، يخلق محمد مظلوم عالمه الشعري بحسه الصوفي ذي النزهة السوريالية (ربما قد غذتها تجربته الغنية في دراسة علوم الدين في فترة سابقة)، رغم أن الفاصل بينهما قد يتلاشى ضمن خصوصية الثقافة الذاتية للشاعر نفسه، إذ يحرك محمد مظلوم بقعة الضوء عن مدار الحس الإنساني والبحث عن الذات في تصوف البيت الشعري (إذا جاز التعبير). هنا يحاول محمد مظلوم عبر كتابه الشعري الأخير "محمد والذين معه" 1996 في بناء مشهده الخاص غير البعيد عن التجربة الذاتية الواقعية لخشوع الشعر ومفرداته في متون ديوانه الأخير، ان ما يتجاوزه الشاعر من مرحلة الكشف السري العام إلى محطة اختزال الكشف للخاص، يمنحها سمة الدخول في أقاليم أكثر شفافية، متلاصقة ومحددة في إيلاج الذاكرة المؤجلة للخرابات الذاتية: ألبوم الصور المؤجلة حتى لا يفضح العين لمعان دموع الوجع لذكرى قمقمية تتطاول كل يوم. ان سيرته الشعرية "محمد والذين معه" تختار نقاطاً واضحة من ثوب غربته الفضفاض لتصب ثقلها في رموز وأماكن وشخوص من تأجيلات عزلة الشاعر:

"في السفر إليك

لم يكن معي غيرك

أيها السفر إليه

لم أستدل على طرقي إلا لأتشتت

في مواجهات مع آثار مخادعة"

ينقسم كتاب مظلوم الأخير إلى ثلاثة إيقاعات هي: موت كلكامش، جنازة المفقود، ونساء من كل الجهات. ورغم تمديدها في أقسام تتلاقى لتفترق، فإن الهم الحاضر في غربة الشاعر يتأرجح بين قصيدة وأخرى في متون الديوان بأكمله.

محمد مظلوم في مواجهته لخزين البوم الدمع يحتاج مسميات أكثر انكشافاً لإدخالها في واقعية شعره، إن أسماء مثل كلكامش، حرب، لاجئون، الغام، سفر، جثث، رسائل، مدينة الثورة قطاع 50، الدبابات، الخنادق.. الخ) ذات مغزى في عين الرائي وتندرج في حرفيات الشخصي الدال:

"صديقي أيها الموت

لم تصلني رسائلك

مع أنني أرسلها دائماً".

كلكامش يتنازع جلده مع الآخر حتى تكتمل صورتاهما في ورق خشن يستعيدان به ذكريات مترابطة رغم النأي وألم فضح الداخل:

"كلكامش لم يحظ بموته في المرآة،

فخرج إلى نومه حياً وبكامل حروبه

حيث سبعون أنكيدو وأكثر، تركهم نائمين،

من أول الفرات إلى شرق دجلة".

ديوانه الأخير (محمد والذين معه) لا ينأى عن متتاليات الصور والمرجعيات وتقارب الأساليب الشعرية عن ديوانيه السابقين: "غير منصوص عليه" 1992، "المتأخر" 1994، إلا أنه يجتاز منحدر المغامرة إلى صورة الشاعر الواثق، الموحي باعتداد النفس، الشاسع والمتمكن من أدوات شاعريته. يقول:

"لا تنتهي جملي عندما أتكلم!

ذلك أنني أثب بين بدايات متعددة

ولا أمضي إلى آخر المعنى!

ولا أمضي إلى آخر النهار،

فجراح التتمات تتمة أيضاً وفمها مفتوح".

إننا لا يمكن أن نفي جيل الثمانينات حقه في مقال واحد أو اثنين، إذ أن أصواته الهامة وخزينها وخبرة شعرائها المتنوعة والمليئة في حياة متطاولة ما بين الوطن والمنفى تحدد علينا العودة لها في مقالات أخرى لاحقة، نتناول عبرها أصواتاً أخرى ذات أهمية بارزة في خارطة الشعر العراقي الذي لا ينضب أبداً وكأنه عشبة خلود هذا الشعب.

مدريد ـ اسبانيا

ــ

عابراً بين مرايا الشبهات

عدنان الصائغ صحيفة "آخر خبر" عمان

العدد 103

الاثنين 7/2/1994

الثلاثاء 8/2/1994

 

عرفت مظلوم في الثمانينات، وكانت الحرب في أشد أوارها، أشياء كثيرة تجمعني معه وتفرقني عنه:

نلتقي في المنتديات الأدبية، ونفترق إلى الجبهات، نتفق في وجه الشعر، نختلف في مفاهيم الحداثة، نتشتت في الوطن، ونجتمع في المنافي، نأتلف في المحبة، ونفترق في الأصدقاء والمشاكسات، وبينهما يظل مظلوم من أكثر الأصدقاء الذين أحببتهم، إخلاصاً للتجربة وصدقاً في الوجع، وتوهجاً في الشعر.

بعد ديوانه الأول "غير منصوص عليه ـ 1992 بيروت" يواصل الشاعر العراقي محمد مظلوم تأسيسه لعالم شعري يقوم على أنقاض عالم منهار، من خلال رؤيا حداثوية مغايرة تبلورت أكثر في ديوانه الجديد "المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات" الذي صدر مؤخراً عن دار الكنوز الأدبية في بيروت.

ابتداء، يستوقفك هوس الشاعر في تركيب فضاء النص خارج أطر التكوينات الشعرية السائدة، تركيباً كلامياً، لكنه لا يعتمد على الشكل وحده، وحين يخونه التوصيل (رغم أنه لا يعنيه كثيراً) يتشتت بين عناوينه، في محاولة من  جهة لاختراق نصه منه أكثر من جهة، فهو لا يكتفي بالعنوان الواحد أحياناً دالاً على ما هو خارج المنصوص، لاحظ معي: شبهات الخروج ولا أحد، وتحته مباشرة عنوان بارز: المتأخر مبكراً، حيث تتفرع منه القصائد: تحت سماء مثقوبة، أعياد متنكرة، مراثي المؤجلين، وهذه القصيدة الأخيرة تتفرع إلى إرث المعزول، إرث المجنون، إرث المنتحر.. وهكذا..

إن محاولة الاتكاء هذه أشبه بتشييد أعمدة رخامية وسط صحراء لا يستدل منها القارئ العادي إلى شيء، وهذا الغموض هو مأزق الشاعر الحديث وليس مأزق مظلوم وحده.

"مشاغل القطار، رغبة النهار في التلفت قبل المغامرة

والوصية التي تنظف الرسائل

حريق معلب في وجدان شاعر

استدلوا عليه بأدويته إذن، ولا ترثوا عصيانه

علقوا سلاسل غيمه في غرفة الدرس".

هل كان استخدام اللغة بحد ذاتها عنصراً للوصول إلى الشعر على حد تعبير "بندتوكروتشه": "إن أي استخدام للغة هو بحد ذاته شعر، وبالتالي يكون عمل الشاعر هو هندسة اللغة وفق أشكال متجددة، مبهرة، إلا أن مارسيل بروست يقول: ان المتعة التي يتيحها لنا الفنان، انه يجعلنا نرى عالماً إضافياً"، بل ان ايديث ستويل تذهب أبعد من ذلك في تحديد هوية الشعر التي لا تحدد من خلال المفهوم الإنساني، بالاعتماد على المضمون أيضاً، وليس على الشكل وحده، قائلة: "الشعر ضوء الصباح العظيم الذي من خلاله نرى الكائنات التي تمر أمامنا مثالاً لكل الجمال، وكل البهجة وكل الحزن العميق" إن في داخل مظلوم حزناً عميقاً تشي به جمله السود الضاربة عميقاً في الجرح الإنساني لكنه ولخشيته من السقوط في دبق المباشرة، نراه يحلق بعيداً في فضاءات التشكيل، لغة وتراكيباً وأخيلة، في إيقاع متصاعد أقرب إلى السلم السمفوني سواء جاءت قصائده، نثرية أو ذات تفعيلة. لذلك تجد جراحه مغطاة بغيوم شفيفة لا تبدو للوهلة الأولى:

"الحياة ليست هزائمي..

ما من نخلة تتلفت لأدعي أنها أمي

ما من بريد لكي أؤرخ أيامي

ما من صمت بعيد واسود فأغتالها

إذن.. ألبس قفاز حروبي، وأصافحها".

لقد اختار المظلوم المنفى وطناً، وهذا ما تشي به قصائده اللاحقة التي كتبها بعد رحيله عام 1991، لكن الأكثر دهشة أنك تجده في قصائده التي كتبها في الوطن أكثر نفياً، وإحساساً بالغربة، وهذه معادلة صعبة لا يفهمها إلا الخارجون من الجحيم:

"كانت الطائرات تنظف السماء

من ذكريات الطيور

ليكتب الطيارون بدلاً عنها

أسماء حبيباتهم".

لكنه لا يعتمد على لغة الوصف، آفة القصيدة الحديثة، بل يعتمد التلميح لغة تشير إلى المحذوف من النص رغم قوله: "ما حياتي إن لم أصف غيابها" أي ما حذفه الرقيب منها، أو ما حذفه هو منها مكتفياً بما وراء اللغة ـ ميتافيزيقيا اللغة ـ إذا جاز التعبير، "الكلمات أيضاً، حصى نردي به غراب الأسئلة" وصولاً إلى معناه "معنى الشاعر الخفي وهو يواجه شراسة العالم ولا معقوليته أحياناً، خارجاً من حروب عقيمة باتجاه ما تبقى له من الحلم، حلم الشاعر بيوتوبياه".

ــ

شعر في المرآة رعش

مع عنوان قصيدة محمد مظلوم "مدن في المرايا ندم"

د. عابد اسماعيل: المنتدى العدد الثاني/ السنة الأولى كانون أول 1996

 

كل إشارة Sign هي مرآة بوجهين: دال Signifier ومدلول Signified تماماً كمثل مرآة الشاعر مظلوم بوجهيها

مدن/ ندم.

مدن هناك هي خارج فيزيائي ساكن سرعان ما يتكثف متحولاً إلى داخل هلامي متحرك أسماه الشاعر ندم.

المرآة هنا هي فاصل لا مرئي بين خارج مؤقت يفقد فضاءه بالتدريج وبين داخل شفاف ما يفتأ يوسع سماءه، أي هي حالة الفيزياء المؤلفة من حروف ثلاثة م د ن وهي تشف وتنحلّ في درجة الصقل القصوى المؤلفة بدورها من حروف ثلاثة:

ن د م.

المسافة معدومة بين مدن/ ندم داخل حدقة المرآة، إلا أن مدن المؤلفة من نفس الخلايا اللغوية هي تكوّن ندم تتعرض لتحول شامل Transformation يبدل من ماهيتها.

ثمة رحلة لا تقطع أية مسافة ـ لانعدام المسافة أصلاً ـ هي رحلة الحروف الثلاثة م د ن باتجاه نقيضها ن د م الداخل في صلبها إلى درجة التماهي، كأنما تذهب هذه الحروف لتعود وتسكن ظلالها الثلاثية المعكوسة على ماء ألق على شكل مرآة.

الكثرة المكانية المكونة لكينونة مدن تتعرض لتصدع يصيب اسمنتها التحتي جراء ما زلزلها أثناء مرورها المريب عبر موشورها الذاتي، إذ معادلة الشاعر تنص:

أنا/ في المرآة/ أنا

وأنا هنا ليست أنا واحدية عزلاء بل أنا كثيرة هي حاصل الأنا الأولى مضافاً إليها الأنا الثانية، المرآة.

مدن رأيناها تتزلزل من الداخل مبدلة ملامحها الهندسية في رحلة تبدأ من أنا وتنتهي في أنا، بمعنى أنها لا تبدأ ولا تنتهي، أنا/ مدن في المرآة أنا/ ندم.

ما يقف بين ندم ومدن ليست الواو بل أنا الشاعر التي هي مرآته باعتباره خزافاً بالغ الندم.

مدن في بهائها المكاني تنسحب إلى ندم في هبائه الكريستالي الباهظ باعتباره تدويناً جوانياً صرفاً.

أنا/ في المرآة/ أنا يمكن ترجمتها بتصرف إلى مدن في المرآة ندم. إنها معادلتي عن رحلة لا ميتافيزيقية تبدأ من بداية لا بداية لها وتنتهي إلى نهاية تأخذ في المرآة شكل البداية.

أنا رغم كوني أنا لست أنا في كيمياء المرآة والتي ـ أي المرآة ـ هي في الواقع أنا. أي:

أنا/ في أنا/ أنا

مع ملاحظة أن أنا أثناء عبورها خلال أنا تفقد أناها كلية، تماماً مثلما تفقد مدن جوهرها إلى ندم.

في المرآة أنا لا تشبه أنا بالرغم من وهم التشابه، إذ مدن لا تشبه ندم بالطبع بالرغم من تشابه الحروف.

الشاعر ذاته هو أنا داخل المسافة المعدومة بين أناه الأولى وأناه الثانية =

أنا ـ أنا ـ أنا

كأنما هو عناق لائب بين أنا وأنا جراء عملية حلول خفية بين نقيضين لإنتاج نقيض "ثالث" أسماه مظلوم ندم.

أنا تسكن الفيزياء الذي تسكنه مدن قبل حلولها إلى الميتافيزياء ندم الذي تسكنه أنا.

إنها الإشارة بحديها الدال والمدلول وقد ولّدت إشارة ثالثة هجينة لا هوية لها، إذ:

"أنا في سفري إلى أنا عبر أنا لست أنا" أو بشكل آخر، "أنا في سفرها إلى أنا عبر أنا ليست أنا".

كأنما هذا السفر الناقص الذي ينتهي لحظة بدايته هو ما يشكل الفعل الشعري الأعلى لدى مظلوم.

لكننا في هذا النوع من السفر نشم رائحة الموت، موت الشاعر كـ"أنا مبدعة وحلوله التام إلى أنا لغوية مبدعة. يشهد العنوان إذن غياب الكائن وحضور الكينونة، غياب أنا/ مدن وحضور أنا/ ندم.. أي نشهد غياب الشاعر وحضور الشعر.

لاحظ، مثلاً، أن مظلوم/ في المرآة/ مولظم. وهذا الصدى المنبعث م و ل ظ م هو حضور صوتي خالص، كأنما نسمع ذبذبات الهواء، أو نصغي لرجع الخَرَس.

إذن، إن هي إلا مدن صدّعها زلزال اللغة إلى ندم.

ومظلوم يحدق في المرآة ليشهد أنتولوحيا هبائه، هبائه المنقطع النظير الذي يأخذ شكل حشرجة مكتومة على شكل م و لو ظ م.

ما تراه الأنا الأولى متحققاً في أناها الثانية هو أناها الثالثة التي هي موتها، ومظلوم يؤكد هذه الحقيقة/ الوهم في ختام فراغه الأخير:

أنا/ في المرآة/ أنا

كرعشة من يموت

الموت الذي هو رعشة الشعر الأخيرة، وعنوان الشاعر شاهدة من الكريستال يسقط فوقها ضوء الهباء العالي، الموت.

كأنما رعش في المرآة شعر.

* القصيدة من ديوان "المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات" (ص21)

ــ

عناوين الغياب في قصائد المظلوم

تهامة الجندي  "الهدف"

الأحد 11 آب 1996

العدد 1244

 

الكتاب: محمد والذين معه

مجموعة شعرية من القطع المتوسط في 96صفحة

المؤلف: محمد مظلوم

الناشر: كراس 1996

انطق من فرصة مهجورة لأقول أنا شريدك أيتها الحرب،

والنساء سجون لا يدفئن خرسي (ص42).

طالعاً من رائحة الحرب والوطن البعيد، موغلاً في تفاصيل الغياب، ينثر المظلوم أوجاعه قصائد تبحث عن علاقات جديدة، في مجموعته الأخيرة "محمد والذين معه" وهي الثالثة له بعد "غير منصوص عليه ـ ارتكابات"، و"المتأخر عابراً بين مرايا الشبهات".

محمد المظلوم شاعر وصحفي عراقي، بدأت تجربته الشعرية في أوائل الثمانينات، ومع أنه كتب الشعر العمودي، وشعر التفعيلة إلا أنه التزم أخيراً بقصيدة النثر، ومجموعته الأخيرة هذه ليست إلا امتداد طبيعياً لما بدأه في مجموعته الأولى الصادرة عام 1993، بمعنى أنها لا تعبر عن نقلة نوعية بقدر ما تضيء عوالم أخرى من تجربته الإبداعية التي تؤسس لمناخ شعري خاص يميزه.

منذ العنوان "محمد والذين معه" نشم رائحة انفصال الأنا عن المحيط والآخرين، رائحة تتأكد كلما أوغلنا في صور المجموعة التي تنسج خطاها في الهامش على وقع الغياب، وتتصاعد في بناء فلسفي يشير إلى قوانين واقع مفروض يلغي أسباب الفعل والحضور.. واستشهد بهذا المقطع الذي يبني صورة على أساس من قواعد النحو مجازاً لها أن تشي بقواعد المنطق والفكر.

حاضره مستتر تقديره كان،

ويداه وبلا تأكيد ـ تصفان غياب أجراسه،

وهو يخرج من سماء تعرب المجهول (ص50)

تتولد صور المظلوم الشعرية من خيال خصب يستحضر مخزون الذاكرة الشخصية والجمعية ـ التاريخية برموزها الأسطورية والدينية، ليمارس نوعاً من امتدادات طبيعية لصورة حية شفافة تضرب في عمق الجذور..

(أبحث فيك عن وصية السومريين لي/ فلو نظرت في صورتي التي التقطتها لي/ قبل 8000 سنة/ ستجدين شخصاً كان يفكر فيك!) ص70.

وتنطلق صوره من منطقه تمتزج فيها التجربة الذهنية بالحسية، ثم تبنى على أساس من مبدأ التضاد أو الحالة التي تنتج نقيضها وتوضحه (تنشط حياتنا بالخوف/ ونتوقف!) وفي ذلك استناد لمنطق جدلي معرفي ـ جمالي قديم يوظفه المظلوم بعناية في تخطيط لغوي متين، فتأتي صوره محتشدة المعاني والدلالات مضاءة، لكنها عصية على الإمساك وكأنه يوضح فعله هذا حين يقول:

لا تنتهي جملي عندما أتكلم!

ذلك أنني أثب بين بدايات متعددة

ولا أمضي إلى آخر المعنى!

ولا أمضي إلى آخر النهار،

فجراح التتمات تتمة أيضاً وفمها مفتوح (ص63).

تطل المرأة من لغة المظلوم مرآة لغيابه ومنفاه، تارة تظهر في تعب البحث والانتظار، وأخرى في ألم الاختلاف واللا قدرة على التواصل، مرآة تعكس صوراً غريبة لعلاقة مؤجلة بين قطبي الحياة تستكمل وتؤكد عطالة الوجود.

ستقولين: جاء بعد أوانه، وعاد دون إدلاء!

ستقولين: تجمع خلف عناوينه الهاربة، ومر (ص72).

إنه غياب اللحظة وانكفاء الفعل في لوحة مزركشة للعدم.

انتظرتك بالورود كلها،

واعتذرت بكل الفصول (ص74)

مناخ المجموعة جنائزي مزدحم بألوان الموت والافتقاد يقترب في طقسه من كربلاء، حيث يسعى نحو تطهر ذاتي عبر تكثيف رموز الألم، أما الإيقاع العام فيأتينا بطيئاً محتشداً بتوتره الداخلي يتدفق حزناً شفيفاً وعميقاً، يذكرنا بموسيقى نينوى وكل ما بثته بلاد الرافدين من حزن دفين عبر موسيقاها وأغانيها، وهذا يجعل من نصوص المظلوم مادة صعبة وعصية على التلقي السهل والسريع، لكنها تتكشف لدى القراءة المتأنية عبر منظومة فلسفية متكاملة لرؤى معرفية جمالية تعكس عمق موهبة الشاعر وتفرده وتؤكد قدرته على الاستمرار.

ــ

قراءة في مرايا الذات والعالم

 

حسين نصر الله مجلة "الكفاح العربي العدد 941 تاريخ 12/8/1996

الكتاب: محمد والذين معه (شعر)

تأليف: محمد مظلوم

الناشر: سلسلة إصدارات كراس.

طبعة أولى 1996

 

الموت، والمنفى والنسيان والاغتيال والخسارة، عماد هذه المجموعة الشعرية التي اختار لها الشاعر عنواناً فرعياً (موت كلكامش عن إيابه بلا صحراء). ونحن هنا أمام شعر الاعتراف، الذي يصنع الذات أمام المرايا، ويصف مآسيها في عالم اجتاحته النوائب. هذا الشعر، يحاكم الحاضر، ويعري أوهامه وآماله الكاذبة في المستقبل، ويواجه قيم الواقع، على ضوء الكوارث والحروب، ليقول بتلاشي الأمل الساذج في مستقبل إنساني ومثالي. يقول: "في ما مضى، أخذني منك أصدقاء فرحون بمراث لا تستحقهم، كم مرة ناديتني، أتذكر. كان صوتك يتدحرج في منحدرات غامضة، وهو يلقي علي وصية الكامنين في منعطف صغير، أتذكر.. "عندما ـ نحن رهائن المستقبل ـ تلثمنا بملاحمنا وعدنا فضيق السنة الأخيرة". هكذا يشكل الشاعر في العواطف والمشاعر إزاء واقع قاس مجرد من كل عاطفة وتجانس، كأنه يجرد الشعر من عاداته القديمة. ويطرح علينا أسئلته المصيرية هذه الكتابة تصدر عن شاعر متوحد مع نفسه، وعن طاقات تميل إلى التصادم والتصارع، أكثر مما تميل إلى الانضواء تحت لواء حركة أو مدرسة متجانسة. دائماً القصيدة عند محمد مظلوم، في حركة دائمة وتحول لا يعرف الراحة والاستقرار. فالشاعر يعيش فوق الأرض بعينين مفتوحتين تدركانها وتستوعبانها، ومثل هذا الشعر، يعتني بالتفاصيل الموضوعية والواقعية، ويعتني أيضاً بظواهر أخرى متعددة الأبعاد والمستويات. لكن رغم هذا الاعتناء بالظواهر، سرعان ما يحتمي بالصمت: "أعيد ترتيبك كي أستدل عليك.. فلا أتشكل"، "شيئاً فشيئاً ستضيق هذه الكلمات، حتى تمحي عندها ـ وليس عند ذلك! أصفك، دون أن يمسك الكلام". هكذا يقترب الشعر من صفاء الشكل، وينحاز إلى الاقتصاد في اللفظ، والابتعاد عن العواطف المسرفة. لكن هذا الأسلوب، لا ينتهي إلى التجرد ولا يقف عنده، بل سرعان ما تتحول القصيدة من الرمز إلى الواقع الملموس. وعند الشاعر النفاذ إلى سر العالم الذي تأتي منه. والقصيدة عند مظلوم هي سر الاقتراب من هذا العالم وتطويق أسراره بالكلمات. إنه شعر إنسان يشارك معاصريه آلامهم، شعر مكتوب للمحاربين في معارك خاسرة، للخائبين والتعساء، ولكل الذين عاشوا وخبروا بؤس العالم:

 الذين معي ملفقون، بينهم ملفقون، وردهم حجر، وغاباتهم ثمارها جمر. الغربان في قلوبهم، وعيونهم عناكب، ينكسرون في المساء مثل دمية وحيدة، ويبدلون حناجرهم في المرات. الذين معي، يهتزون خلف صورهم ولا ينكشفون.

هذا الشعر يعيش فوق الأرض وتحتها، داخل طبقاتها، وينحاز إلى حد الانبهار بالطبيعة، ويحضر الشعر من خلال الشجر والصخر والطير، ليصبح لحظة من تاريخ هذه الحيوات لدرجة التلاشي والذوبان داخلها. "انتظرتك بالورود كلها، واعتذرت بكل الفصول، بقي مني: هذا الذي لا وردة لانتظاري، ولا فصول لأعتذر. أتلقى غيابك، كمن يتسلى بدفن جثته، لذلك أراوغ في الاعتراف لنفسي، بأنك أيام ممحوة، ولا أتداول آثارها".

ــ

 

محمد مظلوم:

بحروبه وعبوره وأعياه التائهة *

راسم المدهون "السفير الثقافي"

العدد 115

13/3/1998

لا يبتعد محمد مظلوم كثيراً عن قصائد مجموعاته الشعرية الثلاث "غير منصوص عليه ـ ارتكابات"، "المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات" و"محمد والذين معه"، التي صدرت كلها في السنوات القليلة الماضية خارج العراق، فدفعت به إلى مقدمة شعراء قصيدة النثر العراقيين. محمد مظلوم في قصائد هذه المجموعة يواصل تقديم ذاته من خلال قصائد تناوش الوحدة الفردية، لكن غير المعزولة هذه المرة عن ضوضاء المحيط، بما يجلبه هذا المحيط من أسباب إضافية للحزن:

"أشخاص مزدحمون

بما يشبه سجناً مهدداً بالوباء

أتأملهم من نوافذ برق ينتحر

أشخاص كانوا أنا

قبل أن أضيّعهم في الممرات".

تجربة محمد مظلوم هي الأكثر نضجاً بين شعراء المجموعة الخمسة، هذه التجربة التي تستفيد من منجز قصيدة النثر العربية في مختلف أقطارها وتؤسس ملامحها الخاصة. محمد مظلوم يبدو خلال قصيدته مزدحماً بالأسئلة التي تنفتح على فضاءات شعرية أكثر تشابكاً وأكثر رحابة في الوقت ذاته. قصيدته لا تسلم مفاتيحها بسهولة ويسر، بل هي تدفع قارئها إلى التوغل الفاعل فيها من خلال إعادة تركيب مفرداتها وصورها في مخيلته من جديد، أو إذا شئنا الدقة، إعادة كتابتها على إيقاعه الخاص:

"هذا الشجر أثماره أحزان

لكأن قوارب الهاربين

توابيت عيد فاسد".

تشبه قصيدة محمد مظلوم جدلاً شعرياً لا يتوقف مع العالم المحيط، كما هي تعيد هضم هموم المنفى ومآسي الوطن وتبعثها مرة أخرى ممهورة بدم التجربة الذاتية التي لا تركن إلى قوة الحدث وفاعليته بل تعمل بدأب على تجديد نفسها من خلال تجريبية لا تتوقف عند منجز إلا لكي تنهض لتجاوزه من جديد. تطفح من حواف هذه القصائد مفردات تعبق بالأسود وتشيع منها رائحة الحداد الدائم المنبعث من جنازات القتلى وأحزان الأمهات الثكلى. ومع ذلك، فإن جمالية هذه القصائد إنما تكمن في قدرتها على مراوغة ما في هذه الموضوعات من ميلودرامية والإفلات إلى تكوينات شعرية فيها الكثير من الدرامية ذات الوشائج الحارة، والتي تطمح إلى أن تكون بلاغتها مستمدة من بنيتها الكاملة، لا من هذه الصورة الشعرية أو تلك المفردة، فالإيقاع الخارجي إذ يدعه الشاعر جانباً، تعوضه بنية شعرية تقوم على السردية مرة وعلى المونولوغ الهذياني مرات أخرى.

"ولا أسميه

لولا أنه يتهجاني

في بياض كامل

دائماً الرجل الخاسر،

أصعد السلم

وفي يدي رسائل معدة للتأجيل

بينما أتأمل في الأسفل ابتعادي".

في مجموعاته الشعرية الثلاث السابقة، قدم محمد مظلوم قصائد فيها الكثير من الانتباه لأهمية التكوينات المشهدية، المزدحمة بصوت مفرد، ولكن في حالة حوار دائم مع المحيط والآخرين، مع الزمن والذكريات، تكوينات تعصف في عمقها وأطرافها أحزان ذات وشائج قوية بكل ما يشد الروح إلى مكوناتها وعناصرها القديمة. يبدو الماضي في قصائد محمد مظلوم راهناً تستحضره القصيدة من سكونه وعزلته في زوايا الذاكرة، تحاوره من جديد، وهو هنا يواصل هذا الإنشاد الخشن بكل ما في نغماته المتعددة من إصغاء للهواجس الفردية غير البعيدة عن الحزن العام، ولكن الأمنية على فرادة الروح القلقة في بحثها المضني عن ألفة ما، لا تتحقق مع المكان المفقود بكل ما يعنيه فقدانه من خسارات للآخر الإنساني الذي نلمح ظلاله تتخايل في القصائد وصورها الشعرية، حتى حين يتحدث الشاعر عن نفسه بأسلوب المونولوغ، وكأنه يقول لنا أنه موجود بقدر ما هو يعيش ثنائية العلاقة مع ذلك الآخر. هذه الروح تبدو في قصائد محمد مظلوم الجديدة أكثر تكثيفاً فتمتلك شاعرية أكبر في مسيرة شاعر يعد بالكثير.

 * من مقالة حول تجربة خمسة شعراء عراقيين ـ مختارات الصادر عن دار الجندي بدمشق.. وضمت الشعراء زاهر الجيزاني ومحمد تركي النصار ومحمد مظلوم وحميد العقابي وكريم جواد

أراء في التجربة 5

آراء في التجربة 4

آراء في التجربة 3

آراء في التجربة 2

آراء في التجربة 1