منتظرا قرب غيابك

 

 

لعل الفضاء الأزرق، صباح السبت قبل الخريف التاسع، هوالَّذِيْ كان سببا في استدراج الأعمى إلى اكتشاف الارتداد، ذلك الَّذِيْ حدث منتصف الطريق، مما حدا به إلى رؤية الحاضر وقد رمى شيخوخته، وعاد إلى طفولته، مع أنه بقي ــ في كلتا الحالتين ــ حاضر، هنا كانت المفارقة، إذ كَيْفَ يتسنى لأعمى مسن مثلي ، أن يجزم أن ليس من نفي يطرد الإثبات، لعل هذا ما أكد لي أن الإثبات نفي  الخارج، داخل ّ لا حيز أو إنزياح، ثمة ثبات يتوكأ علينا، أو نتوكأ عليه، من الثابت؟

 

إذن،

الزحام عند الصباح من أجل احتلال مقعد في السيارة، هو تأجيل للحركة باتجاه الداخل، أعرف أنني أقع في الخطأ حين أتصور الأشياء تأخذ شكلها، مع أنني واقف هنا، وأضحك تحت نوافذ تحدق بي . أعرف أن دهشتي أمام الأشياء التي كانت قديمة في يوم ما، يبررها أنني أفقد بعضاً من شيخوختي وأستولي على الطفولة التي تؤجر فوق الجسر لتعليب الوقت.

 

هذا ما يفسر لي كَيْفَ أنني في فترة عماي، شاهدتها معاً: طفولتي وشيخوختي ، وكنت بينما أنحاز إلى الأبيض لأنني أوغلت في ترميم الهواء، وأنحاز إلى الأزرق،لأن الدخول فعل الخروج،

لذا، فثمة محور، ليس في أحدهما، أو بينهما، لكنه موجود بقدر استحالته، تتركز فيه شهوة ارتداء الآخر، والْكَلاْم عنه غَاْئبا.

 

وإذا كان هذا مما يجعل الشك فخا لاستدراج الوقائع، أسترد الأرض من حاضرها وأقول:

حين قررت أن أحلق ذقني في الصباح، كانت لحية الوقت، أجدر بالحلاقة ولعل هذا ما جعلني أبدو في الْمَسَاْء، شيخا يتحايل في إثبات طفولته.

 

الإحساس ذاته تولد في، عندما التقيت بصديق قديم ولم أتذكر اسمه،مما جعلني أتساءل عن جدوى اسمي.

 

اسمي الَّذِيْ أتعرف به على ذِكْرَيَاْتي، منذ إسبوع رهنته عند بائع الآثار، وأمس ــ حين رجعت لكي أسترده ــ لم يتعرف علي!

 

وهكذا نتدافع في الشوارع ، من أجل أن نطرد ما كنا نسيناه، كأننا ندفعه إلى المواجهة مع المكياج السائل من وجوه النِّسَاْء في طريقهن إلى تقلية البطاطا تحت وطأة أغنية تأسف لضياع لحظات جميلة، نتدافع في الشوارع بقصد أن نلاقي من لا نقصد فنبرر القصد، ونجعل من الصدفة مشروعا لتمضية النهار.

الْمَسَاْء وحده يظل في حيز القصد، إذ لا وجوه، فقط الأجساد التي تنبئ بحنين إلى غيمة تتحدث، لسبب بسيط، هو أن الغيمة تحرض الأرض على النهوض، أو أنها ــ فجأة ــ تتخلى عن حلمها في الثبات، لذا فهي كثيراً ما تتردد في التحدث في الظلام.

 

ولذا فابتداء من الآن، وإلى أن أتذكر أنني أول الخارجين من باب المقبرة، سأبقى أتحدث بلسان الشاهدة :

أنا مشهد شاهد علي، رغم أنني مندرج في ولا أستطيع الانفصال، لكي أسميه أو يسميني، أنا في الصباح أشبهني في الْمَسَاْء، لكن الوجوه هي، مع أنها ليست فيَّ .

 

[المقاعد ذاتها] .. حين قال ذالك الخارج معي من باب المقبرة، ذكرته أن الجالسين تغيروا، قوة المتغير لم تسلخ من ذاكرة الخارج معي فعل الرسوخ، لكنني استطعت أن أقرر، أن الراسخ استدرج المتغير في اللحظة التي وقف مندفعا إليه، وإلا لماذا أقداح الشاي التي كرعها الشاب الَّذِيْ مات الاسبوع الماضي هي ذاتها التي استخدمها قبل الذهاب إلى قراءة أوراق تشتمني، فوق منضدة سوف يستخدمها أحد أعدائي الَّذِيْن لم أصادفهم في حياتي؟ وما هو السبب الَّذِيْ يدعوني إلى محاججة فتاة في سني بأنها أمي؟ وهل يكفي تأجيل سياج الدار عن الورد لإثبات انشغال الورد في متابعة المطرودات إلى السطح من غيمة نسيت أن تنفض معطفها في الصباح؟

 

حسنا، النهار ينقضي حين يتخلى الطريق عن الاحتفال بالملابس المعبأة بالكُلَّمَاْت، إذ لا يمكنني تجاهل أنني بجوار محل لبيع الأحذية، غيري، حين أصعد سلم البناية لزيارة صديق يصعد معي.

 

 

ثمة شيء يسميني في اللحظة التي انفصل فيه عن اسمي الَّذِيْ أجهله، أنا مستهدف حين أقص شعري لدى الحلاق، كذلك حين أغادر مقعد الدرس، أو حين أشرب الشاي في الْمّقْهَىْ!

ثمة لغة تستهدفني، لا مفر إذن من الوقائعي إلى الحدس.

 

 

دائما، هناك منطقة تستدرج الاسم إلى المسمى، وربما لهذا السبب، فإن الشوكة التي تنبت بين الأحجار، هي في الحقيقة، تستدرج العطر عن طريق التلذذ بالانفصال، لذلك لا نستطيع في هذا الوقت مسها، وتستدرج اللون عن طريق انشغالنا عنها فتستدرجنا لتصبح وردة.

 

 

الاسم يقع في حيز أعمى يشير إلى ساكينه، فالوردة إذن هي :

أنا مع شوكة، أو شوكة لكن معي.

 

أحتاج ــ لكي أعتاد الخروج من لحظة حوصرت ــ إلى ذكرى مؤجلة من الاستيقاظ الفائت، حتى أبرهن على أن الجرس الَّذِيْ يطارد المنتظرين في الأماكن الطارئة، ما هو إلا ارتداد لنهار مستتر في قمصان بشر يتزاحمون على تأويل سيارة صدمت طفلة في يدها دمية، وهو ما يقود إلى تكذيب الحاضر بذريعة التأجيل، أي أن الَّذِيْ حدث هو استثناء مما لم يحدث، مع الربط بين من تقص أظفارها في الشرفة المقابلة، والرجل المخمور الَّذِيْ يترنح في الشارع.

 

مهما تبدو العلاقة غرائبية لكنها تشير إلى امتداد الحاضر إلى لحظة مجهولة، من هنا تلح علي فكرة المشهد الَّذِيْ يشهد، أي شيوع ضمير المتكلم المخاطب ومن هنا أيضا نحاول أن ندفع الحوار إلى أبعد نقطة عن التأمل، حين تخطئ امِرْآة في التعرف على زوجها في الباص.

 

تكثر العلاقات الغرائبية في ما يحدث لأنه استثناء أولا، وثانيا لأن اللحظة، حين تحاصر، تنقطع عن التفكير، مثلنا حين نقف أمام إشارة ضوئية تتحدث عن زَمَنٍ في الجانب الآخر.

 

السر، أعني ما يوازي عجزنا أمام طيور الخريف، مساء. والسر نهار مغلق على ظله دون الحاجة إلى سياج. السر نهار يستدرج الْمَسَاْء في فترة خارج الذكرى، إصبع يشير إلى سبع نساء بعباءات، يخرجن من قبة وخلفهن الخريف، حول هذا الماضي الموغل في التكاثر، والبريء من سرية النرجس الأخرس، حول هذا الماضي بالذات، ثمة الذكرى,

 

سعال الغمامة فوق السطح، احتجاج على غش الْمَوْت في الإبلاغ عن الحادث، الشيء ذاته يحدث حين أرتب ربطة عنقي أمام خطأ في تعريف السؤال. وقبل هذا كله، لا بد من حسم الاختلاف حول جدوى جسر يمر من فوقه نهر، وتحته امِرْآة بتنورة قصيرة ونظارة ورجل.

 

ليس ما يدير عنقي سوى رائحة الخريف الحالي.

 

 

 

ينبغي التلغيز عند العبور أمام مشهد واضح، فالمتفرجون مرايا لا يسكنها الهواء، أقول ولا أشير أو أشير بلا تعيين، ولن يتردد المعنى.

 

إبدأ من الهامش، كي تتدخل في شكل الحاضر، ولكن من الحاضر؟ عصراً، كنت حليق الشعر، ترتدي حذاء خفيفا، وتفسر النازلين من السطح، سطوح المنازل لم تعد تصلح للتحدث إلى غيمة تدلت قدماها من حائط مجاور، أتدري لماذا ؟ لأن الأصابع لم تعد تجيد الحوار، بل صارت تعد الَّذِيْن يغادرون السطح ، كل نازل كان يستعير إصبعاً، لذا لم يعد لدي ما أشير به إلى الغيمة إلا لساني، لكن لساني لكي أقول به  أن الغيمة باردة لا لأتحدث به.

 

من لأحْلاْمي إذا شخت بين محاربي القلعة والبحث عن سنبلة مدماة بوشاية السَّمَاْء؟

 

 برق أجير يتلمس جدران القلعة، ويبقي وعداً مخاتلاً بالمطر، قمر خائن يتدلى من جيب جارية يسمونها الأربعاء، ربطت سرتها إلى ظلامي، أستلذُّ بتحريف وثبة الغزلان، لأن الطريق يتذكر أقنعة الآدميين، وهم يرتعشون أمام مطر قديم.

 

 

كذبة هي الحرية، صدقها القتيل لأن فكرة القاتل لم تكن بعد .

قال اعطني سببا لحريتي، قال أعطني سببا لعبوديتي.

 

في أية ساحة قديمة سوف يشتعل الإنتظار؟ ربما قرب موقف الباص، حيث الأقدام تطأ موعدا لاحقا لي، ليس الَّذِيْ بينهما حواراً، بل تبادل لفرصة الالتقاء بما لا يكون..

 

أجل، إنها أجساد تستدعي الْكَلاْم إلى مساحة الهواء، إنها الماضي يستغني عن نقابه، ويسير بمحاذاة سياج كانت تتدلى منه سيقان متربة لأمير مؤجل وكان المشهد في ما يلي السياج، غافلاً عن ذكاء الأشجار التي تنمو بلا ادعاء.

 

أجل، إنها أجساد، التي كانت أشجاراً قبل أن يكتمل الادعاء أجل إنها ـ والضمير هنا غير عائد إلى الأجساد، أو الأشجار، رغم أنه من الممكن أن يوازيهما في الترميز ـــ أقول أجل إنها تتحاور مع رجال ذوي صلة غَاْئبة بي لتقول لي : لم يحن الدعاء .

 

 

شكرا لمنحي حاضراً ليس يحدث، السَّمَاْء جمعة والأرض ذكرى!

هذا ما يردُّ إليَّ الغد الطاعن في التراجع.

ــ كم الوقت؟

تخرج يدي من جيبي، في معصمي بقية للتآمر على النافذة  العجوز:

جَسَدِيْ لغة، يدي تشير وتبكي،

عيناي بستان أخير لأقوى الأموات،

أنفي عاطل عن الارتداد إلى النوم،

لساني جمرة تتلقن الورد،

جَسَدِيْ لغة ،وأنا خارج المعنى،

متى تتحرر الكُلَّمَاْت؟

 

بغداد 1987

عودة الى غير منصوص عليه